العرب اليوم تحاور الشاعر العُماني

سيف الرحبي: تورطتُ في أسئلة التاريخ والوجود

قصائدي ذات نفس طويل وبعد ملحمي.. تشتبك مع كل الفضاءات من الحوار والبناء الدرامي والمشهد السينمائي

2011/02/20

الصحافة ضخمت مسألة الرواية ديوان العرب وخلقت ثنائية صراعية كأن ثمة حربا مع الشعر
مسقط – محمد محمود البشتاوي*
بينما أنغامُ الموسيقى تصدحُ في أركانِ الغرفةِ, كان سيف الرحبي يسترسلُ في حول المكان, ونزيف الذاكرة المستمر منذُ أولى حروفهِ, التي ابتدأت من قرية سرور في سلطنة عمان, واستمرت لاحقاً في جولاتهِ في الربع الخالي, وربوع العرب المختلفة,.. ورغم تحولات الزمن السريعة, فإن الرحبي يؤكدُ على أهمية عدم التنصل من البدايات, وألا ينظر الشاعر إلى مربع البداية باعتبارهِ صِفراً بحجةِ الضعف, أو عدم الوعي.
العرب اليوم التقت الشاعر العُماني سيف الرحبي في العاصمة مسقط, وتحدثت إليه, حول رؤيته الشعرية, ومفهومه للإبداع, وسياقاته, وتجربته المتميزة التي يُشار إليها بالبنان, فكان الحوار التالي.
* البدايات تمثل مطلع العتبات التي تقودنا إلى التكوين الأول; الطفولة, النشأة, الشخوص, وما ترسب في الذاكرة من ملامح ووجوه; فهل لك أن تنيرَ تلك العتبات?.
– تشكل الذاكرة المكانة إطارا للشخوص والوجوه والمؤثرات ككل تنطلق من المكان; أكان المكان الأول الذي ولد فيه الشاعر, أو الإنسان, أو الأمكنة اللاحقة التي نشأ فيها وتعلم وتثقف وعاش, وبالنسبة لي; بداية تشكل الكائن, والوعي الأول, والذاكرة الأولى بأحاسيسها ومشاعرها, وبداية وعيها.. هي في عُمان, خاصة في قريتي سرور التي تبعد 50 كم من العاصمة مسقط, وهذه القرية الجبلية المحاطة بأحزمة من الجبال العالية – وعُمان بلد جبلي والطبيعة الجبلية تشكل بعداً فريداً في تكوينها الجيولوجي والإنساني – , وفي هذه القرية, وهذه البيئة, تشكلت المساحات اللاحقة لهذا الكائن / الشاعر المدعو سيف الرحبي, في فترةِ منتصف الستينيات وصاعداً, في بيئة ما قبل الوعي الحديث, أي البنية التعليمية والتربوية الحديثة, وهذا أمر لا يجهلهُ أي عربي.
وبعد ذلك; انتقلت إلى بيئة مطرح / مسقط, وهي بيئة تتميز بالبعد البحري, وخليط بشري يتغاير عن القرية, بأنه ليس بالبعد الواحد, وإنما هنالك تعدد بين إثنيات, ومذاهب وملل, حتى ولو بمعنى محدود, ولكنه كان بعداً إضافيًّا, على صعيد البيئة التربوية والحياتية في هذه المدينة, فكلُّ هذا الجو بما يعنيه من أبعاد مكانية وروحية وتعليمية شكَّل الذاكرة الأولى عندي, قبل أن أرحل عن عُمان إلى بلدان أخرى كالقاهرة, التي تعلمت فيها ونشأتُ فيها, وأعتقد أنه هذا هو المؤشر الأول والحاسم في سياق الوعي والمكتسب المعرفي والجمالي اللاحق.
* الحديث عن الرحبي يقتضي البحث في جغرافيا شعرية ارتحلت في الوطن العربي, وعليه; هل استطعتَ التخلص من ثقل الذاكرة?
– استنفاد هذه الذاكرة أو المخزون المكاني بأبعاده المختلفة, صعب, وصعب استنفاده على الإطلاق, لكن مقاربته من زوايا وأشكال مختلفة, وربما هذه الثيمات, أو المواضيع الثرية تظل حتى نهاية العمر بالنسبة إلى الشاعر أو الكاتب, ولكن أتصور تختلف زوايا المقاربة الشعرية الإبداعية لهذه الأماكن, والذاكرات, والحيوات, وتبقى هي المخزون الذي لا ينضب على الإطلاق, والذي من خلاله يتم تناول العالم, والحياة, والكون.
* يمر الشاعر بمراحل تطورٍّ ونمو, ولولاهما لكانَ في جمودٍ وموات, إن بقي على ثباتٍ في مساره الشعري; فهل لك أن تصف التحولات التي مررت بها شعريًّا?, وهل ثمةَ تفاوتٌ بين ما كان عليه الرحبي, وما عليه اليوم?.
– الشاعر خاضع للتحولات, والشكل الشعري يخضع للتغيير, ولا بد من التجديد بألا يكون الشاعر رهين زاوية نظر شعري واحدة, سواء على صعيد الشكل أو الرؤية, فلا بد من إجراء هذا التجديد أو التجريب, أو المراجعة لإنجازاته, وكتاباته السابقة, ومن هذه الزاوية أنظر إلى البدايات; ففي أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات, أصدرتُ أول ديوانٍ لي في دمشق, فإن نظرتُ إليها من زاوية الوعي الآني, ربما أخضع هذه التجربة إلى نوع من صياغة جديدة, وتشريب, وتنقيح, وقد فاتني أشياء في تلك المرحلة المبكرة, لو تناولتها الآن, سأعيد بكل تأكيد بعض الصياغة للعبارات, والجمل الشعرية, والكتابية التي وردت في تلك المرحلة, ولكنها تظل الكتابات أمينة لمرحلتها, ومعطيات وعيها وشروطها الكتابية والحياتية القائمة في تلك الفترة, ولا أعتقد أن على الكاتب أو الشاعر أن يتبرأ من المرحلة الأولى بحجة الضعف, أو عدم النضج, فتلك على طفولتها, على بداياتها, تشكل دفق البراءة الأولى, واللا وعي, الذي لم تهيمن عليه الرقابة الذهنية على أخطائها, وعلى فجواتها الكبيرة.
* تتشكل الصورة الشعرية الرحبية باعتبارها تكويناً وجوديًّا يسعى إلى الإحاطة بالأسئلة المعلقة, فنكون أمام الموت والولادة, الغياب, والحضور, ,.. وكل تناقضٍ وتعارضٍ في هذه الحياة, وصولاً إلى تأويل النص المفتوح على آفاقٍ شتى, وهنا أتساءل; سيف الرحبي .. كيف صهرتَ التناقض في باقة الشعر?, وهل ترى أن الشعر قادر على احتواء الأسئلة الكبرى التي تحل في مقام العقل?.
– أتصور أن ما كتبته وأنجزته من شعر كان يحمل هذه الأبعاد; البعد الوجودي, ولكن لا ينهى عن البعد التاريخي والاجتماعي, ولكنه متورط في هذين الأقنومين الأساسيين في تاريخ البشر الأساسي.
البعد الوجودي والأسئلة الكبرى حول الحياة, والموت, والمصير نحو المآل, وما يسمى في الفلسفةِ بالأسئلة الجوهرية, والوجود الثاني, وجود الكون أو العالم, وفي نفس الوقت متورط في أسئلة التاريخ, وأسئلة السياقات الاجتماعية, والفكرية, والسياسية, والسؤال.. إلى اي مدى يستطيع الشاعر أن يدمج هذه الأبعاد في بوتقة القصيدة, في سياقها, في صيغتها, التي لابد أن تنوء هذه التأملات, والأفكار بين قوسين, لأن الأفكار في الشعر, هي ليست جاهزة, وإنما متولدة من بناء الصورة, ونموها.
ومن هنا أيضاً فإن الفكرة, لا تكون سيئة في الشعر إذا كانت ذائبة في السياق وليست مقحمة بصورة فجة, وعليه ليس بالضرورة أن تكون الأسئلة الكبرى في مقام العقل, ربما تنبثق من العواطف, من المشاعر والوجدانات, وهذا أقرب من الشعر والأدب والفن, وأسئلة الفلسفة تنبثق من العقل, والأدب ينبثق من مناطق العاطفة والمشاعر, وهذا ما يميزها عن المقالة العقلانية الفلسفية, وهذا ما أتصور إني أحاول الاشتغال عليه.
في الشعر, في الكتابة الحقيقية, تكون هنالك الكثير من الفروقات والتصنيفات نقدية متعددة, هنالك شعر الأسئلة الكبرى, وشعر التفاصيل, والشعر الذي يقع بين هذا وذاك, وأتصور أن القصيدة, أو هذا المناخ, المتسع للقصيدة, للنص المفتوح, والتجارب الجديدة للشكل, تتسع لكل هذه الأسئلة, ولكل هذه الهواجس, والطاقات الجوانية للكاتب, فربما تنطلق أنت من تفاصيل يومية, حياة يومية, لتصل إلى أسئلة جوهرية في الوجود.
* قيل الشاعر الذي يرى بعين الطير, أي الذي يرى الحياةَ أفقيًّا, وبشكلٍ شموليٍّ, ألا ترى أن الشمولية والأسئلة الكبرى تحول دون رؤية التفاصيل الصغيرة?.
– لا تحول إطلاقاً.
أتصور أن الشاعر, ينبغي ويجب, فيما أرى, من مفهومي الشعري, أن يدمج بين كل هذه المتناقضات, بين الجزئي والكلي, ولا أعتقد أنه من الصحيح الاكتفاء بالتفاصيل, والجزئيات, دون أن ينفذ, إلى مستوى آخر أعمق, في الأفق الشعري, والإنساني والوجودي, وإذا غصنا في التفاصيل تتحول القصيدة إلى ركام لفظي جزئي, دون الربط بأبعاد أعمق, وأتصور هذا التزاوج, أو الزواج الطبيعي, الخلاّق بين عناصر الوجود ببعدها التفصيلي النسبي, وبعدها الميتافيزيقي الأعمق.
* يجد القارئ في شعرية الرحبي صورة سينمائية, وأصوات, وشخوص; هل ثمةَ ميلٌ لك نحو السرد, والرواية على وجه التحديد? أم أن ما نقرأهُ هو شكل من أشكال أدرمة الشعر?.
– هذا البعد موجود بوضوح, وفيما كتبت هذه الكتابة مخترقة بالبعد الدرامي, والحوار المسرحي, وبصرية المشهد السينمائي, ومحاولة الاستفادة من كل هذه الأقانيم, ومن كل الإيجازات الفنية بما يقع خارج الشعر بالمعنى المتعارف عليه بالتصنيف, فترى قصائدي ذات نفس طويل, وبعد ملحمي, وتجدها مشتبكة مع كل هذه الفضاءات, وهنالك جذر الحوار فيها, والبناء الدرامي للقصيدة, وهنالك البعد المشهدي, وكل هذا مُدمج ومنصهر, في سياق القصيدة الطويلة, والنص الطويل المفتوح على فضاءات فنية مختلفة, ويحاول أن يستفيد, من إنجازات وفنون مختلفة.
* ألا ترى أن هنالك فلتاناً شعريًّا, وأن القصيدة باتت قاب قوسينِ أو أدنى من الضياع في زمنٍ قيل فيه إن الرواية ابتلعت الشعر وأصبحت ديوان العرب?.
– قضية الفلتان الشعري, أمر موجود, وبكل الأزمنة, وليس ظاهرة في هذا العصر, وفي كل فترة تاريخية يوجد شعر جيد وحقيقي, وشعراء مزيفون يأخذون الواجهة الإعلامية أكثر من الشعراء الحقيقيين, وكل هذه الالتباسات والإشكالات موجودة في كل زمان ومكان, ولا يتميز الشعر إلا باتساع التجارب, والشعر الآن متورط في أن يحاور الفنون الأخرى غير الشعرية, وهذا ربما بعض الذائقات تصطدم, ولا تتقبله, وكسر العامود الشعري, ليس بالمعنى الخليلي, وإنما أن يكون في صيغة معينة متفق عليها.
هنالك تجارب شعرية انفتحت على آفاق ربما الذائقة المستتبة لا ترتضيها, وترى فيها أن هذا إقحام على الشعر, وهذا ما يقود إلى الالتباس, وإن أردتَ هنالك فلتان خلاق, إذا كان القصد بالفلتان التجريب, فمن حق الشاعر أن يجرب كي يصل, إلى الأفق التعبيري الذي يحلم به, وهذا الفلتان يكون قرين الحرية, والفلتان غير المجدي, العقيم, الذي يجرب من أجل التجريب, ويجترح صورا لغوية بهلوانية, مجانية, لا تحمل أي دلالة, أو أي عمق لغوي, أو روحي, فهذا ضد لغة الأدب والثقافة.
أما أن الرواية ديوان العرب, فأعتقد أن الصحافة ضخمت هذه القصة, وخلقت ثنائية صراعية, متصادمة, وأن هنالك رواية, وهنالك شعر, كأنما ثمة حربا بين الشكلين التعبيريين, ومن ينتصر على الآخر, وأن الشعر الذي كان ديوان العرب, انزاح لصالح الرواية, فأعتقد أن هذا السجال لا يعطي إلا مردودا ضئيلا جدا على السياق الإبداعي العربي في أشكاله المختلفة, وكما تلاحظ فإن الشعر يستفيد من السرد استفادة كبيرة, كما يصل السرد بطبيعة الحال في مناطق كثيرة منه إلى الشعر, بإيجازهِ, وكثافته اللغوية, والروحية, وهذا الاختلاف بين الفنون لا يخلق منها إلا صراعاً خلاقاً, وليس صراعاً إقصائيًّا, أو صراعا على السيادة, أو على المشهد, وهذا صراع مُثر, وليس من الواجب أن نضخم الأمور أكثر من اللازم.
ربما الآن الرواية متقدمة في عدد القراء, ولكن هذا لا يعني أنها متقدمة في الإبداع أحياناً, والشعر إذا تراجع في عدد القراء, لا يعني أيضاً أنه متخلف على الصعيد الإبداعي, علاوة على أن هنالك تبادلا للأدوار في هذه المنطقة من الرؤية الإبداعية
* باستثناء الرحبي وأصوات أخرى.. الأدب العماني لم ينتشر في الخارج; فما السبب برأيك?.
– هذا السؤال منذ زمن يُطرح بشكل مؤلم, لأن بلداً كسلطنة عمان بها مساحة إبداعية كبيرة على صعيد الإنجاز التاريخي, وهنالك إنجازات مهمة على صعيد الشعر التقليدي, والكتابات الأخرى, في تلك الأزمنة المنصرمة, ولم تقدم للقارئ العربي بشكل جيد, وهنالك على سبيل المثال أبو مسلم البهلاني, وغيره, يصل منجزهم الشعري في الإبداع, إلى مستوى كبار الشعراء في الوطن العربي, مثل أحمد شوقي, وعمر أبو ريشة, وغيرهما, ولكن المشكلة هي في كيفية التقديم, على مستوى النقد, أو حتى الإعلام, فلم يكن هنالك إعلام, ولا نقد, حول المنجزات الشعرية العُمانية, وهذا أضر الشعر العماني على صعيد القراء والنقاد. وينسحب هذا على الفترة الراهنة, رغم أنه بدأ ينكسر نتيجة لوسائط الاتصال المختلفة, وظهور حركة ثقافية, وشبابية, تتوزع بين الشعر, والرواية, والقصة, والنقد الأدبي, والأكاديمي, وهذا كسر الجمود الذي تحوّل إلى ما يشبه القاعدة, وحوله تجاه أفق آخر, وأفق أفضل, أوجد التفاعل بين الإنجازات العُمانية, والإنجازات العربية المختلفة, واتساع قراء الأدب العُماني, جعله بصورة أفضل بكثير.0
* شاعر وكاتب أردني مقيم في مسقط