نأملُ أن ينهض «مجمع عُمان الثقافي» بأيدي متخصصين
حاورته: هدى حمد*
يمضي بنا الشاعر سيف الرحبي في هذا الحوار لأمكنة خارج الشعر، يمضي بنا نحو فيوضٍ من الرؤى والتأملات العميقة حول الهشاشة التي تقوضُ نسيج الوعي العربي العام، فهو لم ينفصل يوما عن أحلامه وانكساراته وخيباته الكثيرة. فبينما كان الناس يتحدثون عن هزيمة ٦٧ وكأنها حدثٌ شبحي أو خرافة بعيدة، كان سيف الرحبي يتلمسُ أسئلته الجنينية الأولى في التعاطي مع العالم. تلك المرحلة العربية الحاسمة التي كشفت هشاشة التفكير وخراب البنى الأساسية، فتعثرت كما تعثر مشروع النهضة العربية من قبل. يُفسر لنا الشاعر سيف الرحبي صدمة مجايليه والأجيال اللاحقة بالأنظمة التي رفعت شعارات المد القومي والاشتراكية والعروبة إلى مصافٍ خُرافي ميتافيزيقي بعيدا عن مُعطيات الواقع. ويرى بأنّ قدر الأصوات الحُرة في التفكير الآن أن تخترق الجهاز التقليدي السائد، فلا تقطع مع تراثها ولا تقطع مع عصرها، فقبل أن نرى الآخر مُدنِسًا وذواتنا مُنزَهة، علينا تحليل الوقائع والأحداث والسلوكيات، فالتيار المُتعصب من كل المذاهب الإسلامية أو غيرها لديه ردات فعل ظلامية ينبغي الانتباه لها. أما الغزو الأمريكي للعراق فقد كان محطة فاصلة لتسعير الطائفية وتسويقها في الوعي العربي لكي تحل محل الصدارة بدل مواصلة طرح القضايا الحيوية التي تهم كل المجتمعات العربية. في الشأن العُماني نجدُ الرحبي مُتفائلا بمجمع عُمان الثقافي، فيما لو تُرك بأيدي من لهم علاقة بصميم المشروع لِلَمِّ شتات المرحلة، من جهة أخرى يحرضُ على ضرورة الاهتمام بالمجتمعات المدنية باعتبارها صمامات الأمان التي تحمي من التطرف الظلامي الذي قد يسود باسم الدين والغرائز. ولتحصين المجتمعات من الانهيار والتفتت والتشظي لا بد من الاحتكام للدولة والقانون، بدلا من الإصغاء لخطاب مسعور يُمزقُ نسيج المجتمعات، كما أشار لأهمية استقراء التاريخ العُماني بحياد وموضوعية دون إسقاط الوعي السياسي الراهن على التاريخ الآفل.
• الارتدادُ الشقيُ للطفولة كان وقود شِعرك منذ الكتابات الأولى وحتى الأخيرة، وقد تجلى بعضها في شذراتك الفارقة في مجلة نزوى، والطبيعة العُمانية بكل تجلياتها تبدت هي الأخرى كمشهدٍ سينمائي لا يخبو في مخيلتك، حيث الجبال -كما وصفتها ذات مرّة- تتناسل كمجرات لا نهائية، وصافرات سفن مطرح تدعوك للمغامرة؟
-أرى أنّ السؤال الأهم: ماذا تُقدم الكتابة للثيمات والمواضيع المطروحة منذ الأزل: الحياة والموت، الحبّ والكراهية، الظلم والعدالة والأحلام، فهذه الثيمات موجودة منذ فجر البشرية الأولى وحتى الآن، وكل مُشتغل يعي هذه الثيمات أو المواضيع، لكن اختلافه يكمنُ في أن يُبعدها عن التكرار المُمِل والمُتناسِخ والمُضجر والبليد، وأن يُقدم كل مرة زاوية ومُعطى ومُقتربا جديدا من تلك العوالم الشفافة والغامضة والبعيدة. ومن ضمن هذه الثيمات الكبرى ثيمة الطفولة صانعة النص الأدبي وهي الملهمة في هذا الاتجاه. تجاه استشفاف الحياة الراهنة، فطفولة البشر تختلف باختلافهم وباختلاف أنماط الحياة والتاريخ والأزمان. فالطفل الذي ينشأ في ربوع الطبيعة العُمانية الشاسعة والملحمية يكون مُخترقا بها، فيظهر هذا في النص الأدبي والكتابي بمعنى مُتعدد الأبعاد والزوايا والمقتربات لأنّها طفولة تحمل نوعا من الفرادة مثل فرادة المكان نفسه، بطبيعته الزاخرة والمهيمنة. يتمرأى الإنسان البشري في الطبيعة العُمانية كنسيج شبحي عابر من فرط هيمنتها عليه، وحتى على صعيد الساكنة فهم قلة قليلة بالنسبة لشساعة المكان وملحميته المتعددة، ومن هنا ينشأ الحوار مع هذه الطبيعة كحوار وجودي وتاريخي وربما يُفضي إلى أسئلة تتناسل باستمرار مثل تناسل هذه الجبال وهذه البحار اللامحدودة بالمطلق. وأشير إلى أنّ الأسلاف في تلك الأزمنة السحيقة وبعدها استطاعوا استئناس عنف هذه الطبيعة القاسية لصالح مشروع سُكنى وحياة وإنتاج.
•خرجت من بيئة مُحافظة ومن تعليم يغلبُ عليه الطابع المتدين، وقرأت شعرا كلاسيكيا، فما الذي أخذك لشعر مُغاير وكتابة حُرة وتبني قراءات حداثية تتقاطع مع العالم وتحولاته وأنت ابن الجغرافيا الغارقة في مآزقها في ستينيات القرن الماضي؟ – كما قد يحملُ المكان العُماني نوعا من الفرادة، فإن فرادتنا الطفولية يمكن أيضا أن تتجلى في صور مختلفة. لقد ذهبنا إلى الكتاتيب وتفتح الوعي الأولي على ما توارثناه من السلف، إلا أنّ هذه الفرادة لا تجعلنا نغفل المُشتركات مع المحيط البشري العربي والإسلامي المُتاخم لنا سواء أكان في نمط العيش أو كان في نمط التفكير أيضا. فلا ننغلقُ على السلف بل نمضي لمشتركات أساسية وقوية مع الآخر. فكل فرد منا يحملُ نوعا من الخصائص أو الاستعداد قد لا يتوفرُ في مجايليه، فينفتحُ على هواجس أولية من الأسئلة عن الدين والحياة والموت. ليس كل البشر يتشابهون تشابها قطيعيا في هذا السياق، فكل واحد منا يمضي لما قُدر له لاحقا، لكينونتنا اللاحقة، وإلا سنتشابه ذلك التشابه القطيعي والذي هو ضد الأدب وضد التفكير الحقيقي. كل واحد منا يبدأ في الكتابة يبدأ في اكتشاف ذاته، اكتشاف اللغة واكتشاف العالم من خلال فرادته في الإطار الاجتماعي والتاريخي. فمشتركاتنا البشرية موجودة وقوية، والكون هو نسيج واحد كما يقول الفلاسفة. وأكاد أتصوّر أننا بقدر ما تتأصل وشائج القرابة مع مجتمعاتنا المحلية والكونية بقدر ما نكتشف ذواتنا في تقاربها واختلافها.
•عُمان في ستينيات القرن الماضي كانت أشبه بجغرافيا معزولة، حيث لا مدارس ولا مكتبات عامّة ولا مسارح ولا صحافة، لذا وفي ظرف مكاني وزماني كهذا، ما الذي يصنعُ «الفرادة» أمام تقلص الخيارات؟ -معروف أنّ عُمان قبل السبعين كانت مُنغلقة بشكل ظلامي، وأعتقد أنّ هذا بقدر ما له من تأثير موضوعي على المجتمع والوعي والثقافة، بقدر ما هو أيضا عمل بقوة على عزل المنطقة من محيطها العربي والكوني. فالاستعمار الإنجليزي الذي شكّل القوة المهيمنة، عمل على عزل المنطقة عن محيطها كما وضّح بعض الباحثين في المنطقة هذه النقطة بشكل تفصيلي، ومنهم الصديق حسن مدن. تمّ عزل المنطقة لكي تغرق في ظلام الأسلاف العقائدي، وهذا يخدم نمط الاستعماري القديم. ربما تغير الوضع الآن مع الاستعمارات الجديدة، إلا أنّ جوهر الهيمنة واستغلال ثروات الشعوب يبقى موجودا، عبر تجليات وأنماط من الهيمنة التي تختلف من مرحلة لأخرى. إبان الإمبراطورية البريطانية الأكثر سيطرة في العالم، حُشرت الشعوب في آبار مُظلمة. مما جعلنا خارج حركة الانفتاح على المحيط، وخارج حركة الفكر، باستثناء نخبة من الكتبة، والمعلمين. وكنا أمام خيارين، إمّا أن تأتي قُوى تكسر هذا النمط الجامد بمعانيه المختلفة أو تأتي قوى تحرض على الجمود، فحصل الأمر الثاني على صعيد الجزيرة العربية بصورة عامّة وعُمان بصورة خاصة، كما وضحت دراسات السوسيولوجيا. حيث انغلقت عُمان من غير بحث عن أفق في الجمود والتصلب الاجتماعي.
• هل كُنا في عزلة تامّة فترة الستينيات حتى عن الأحداث الكبرى التي تعصفُ بالعالم العربي آنذاك؟ – في الستينيات كنتُ طفلا، لكني أتذكر تلك المرحلة، حيثُ كنتُ أمضي بين «سرور» و«مطرح»، وكان الناس يتحدثون عن هزيمة ٦٧ وكأنها حدثٌ شبحي، كأنّما يتحدثون عن خرافة بعيدة، في وقت كانت قد بدأت أسئلتنا الجنينية الأولى في التعاطي مع العالم. هزيمة ٦٧ المدوية على الصعيد العربي، هزمت فكر مرحلة قومية صاعدة، ارتطم بحائط التاريخ، فبانت لنا تلك الهُشاشة في التفكير وفي البنى الاجتماعية والثقافية، تبين لنا أنّنا لا نحارب الاستعمار والقوى الإمبريالية، وإنّما الخراب في البنى الفوقية الأساسية جدا، تلك التي راهنوا على أنّها تُفضي لوعي مختلف حضاري لبناء نهضة حضارية. تعثرت أيضا النهضة العربية التي بدأت منذ بداية القرن العشرين على صعيد الشام ومصر. في أواخر الستينيات، بدأت الأسئلة الخاصة بنا تُطرحُ خارج النمط التقليدي المحض. وفي الحقيقة أفرحُ كثيرا عندما أقرأ لأصدقاء عايشوا تلك المرحلة، ولديهم في هذا السياق الوعي والتنوير والاختلاف عمّا هو سائد.
•هل استفاد الوطن العربي من هزيمة ٦٧ في ترميم هشاشته، في الاشتغال الجاد على البُنى التي تخلقُ الوعي، هل التقطنا أسئلة عصرنا الجديد ومتطلباته الملحة؟ -لا أتصور أنّ الوطن العربي استفاد من تلك التجربة، ولكي لا نجعل المسألة في سياق ميتافيزيقي نقول: الأنظمة السياسية هي التي تحدد في النهاية مسار التاريخ. الأنظمة التي تُهيمن على كل شيء، هي التي حددت المسار ولا أظن أنّه مسار ينتفضُ على الهزيمة بالمعنى الحضاري الشامل. فأكثر الأنظمة التي رفعت شعارات المد القومي والاشتراكية والعروبة رفعتها إلى مصافٍ خُرافي ميتافيزيقي بعيدا عن معطيات الواقع، بعيدا عن
أسئلته الكثيرة. وهذه الأنظمة نفسها قمعت حركة الثقافة الحرة، ودفعت النخب الثقافية الحقيقية إلى أن تنفصل وتهاجر، أو أن تبقى هذه النخب في بلادها مقموعة تعاني من عرقلة التفكير الحر الذي كان يمكن أن يُساعد بصورة جوهرية في بناء المجتمعات، وفي بناء السؤال الجديد للثقافة والحضارة والنهضة بمعناها الشامل.
– طرحت مسائل النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كأسئلة جنينية للنهضة العربية والتنويرية ولكنها أجهضت، واتجهت إلى أولئك الذين تبنّوا شعارات بحكم بنيتها العسكرتارية محدودة التفكير، فبنت أجهزة وبنت سُلطة تهيمن على المجتمع كليا ولكنها لم تعِر انتباها لأسئلة النهضة والحضارة بالمعنى الأساسي، بالمعنى الذي يبني الدول والمجتمعات التي تُصبح في مصاف المجتمعات المتقدمة، ولا نستدعي في هذا السياق أوروبا وحسب بل حتى بعض التجارب الآسيوية التي تقدمتنا بأشواط. تلك الدول التي انتفضت على أوضاعها البائسة وحروبها من مثل اليابان التي ضُربت بالقنابل الذرية فدمرت بنيتها القوية الكلاسيكية الصناعية، والتي كانت في مصاف أن تحارب القوى العظمى وتهزمها لولا مكر التاريخ وصدفه التي غيّرت ميزان القوى الاجتماعية والمصائر، هنالك أيضا سنغافورة معجزة التعليم، وكوريا الجنوبية التي واجهت دكتاتوريات مُرعبة حتى جاءت نخبة سياسية قررت بناء دولة حقيقية، دولة نهضة وحضارة وعلم وثقافة وإنتاج صناعي حقيقي، حتى باتت تنافس دولا صناعية عظيمة وهي نصف بلد. حيث الشمال الدكتاتوري اختار طريقا والجنوب اختار طريقه الآخر. استدركُ وأقول: هذه الدول لم تصل بالتأكيد إلى الفردوس المنشود ولكنها التقطت أسئلة العصر وبنت دولا تعددية إلى حد ما وواكبت العصر بكل نواقصها. بالتأكيد لا توجد دولة في حالة مثالية إلا في الذهن الفردوسي، ولكن يبقى أنّ بعض الشر أهون من غيره بما لا يُقاس. أشرتُ أيضا إلى الهشاشة وهي بالطبع في أبعادها الاجتماعية والمؤسسية وليس في بعدها الوجودي الزجاجي كما لدى أبي العلاء المعري «ضحكنا وكان منا الضحك سفاهة وحُق لسكان البسيطة أن يبكوا، تُحطمنا الأيام حتى كأنّنا زجاجٌ ولكن لا يُعاد له سبك»، هشاشة الكائن المُلقى على قارعة الكون حسب هيدجر، والتي تحدث عنها وحولها أدباء وفلاسفة قدماء وحديثون بفيوضٍ من الرؤى والتأملات العميقة.
• نحن كدولٍ عربية بيننا مُشتركات، بما قد لا تتوفر لأمُم مُغايرة، كاللغة والدين والعاطفة والعادات والتقاليد، ورغم ذلك تكشف لنا زيف الشعارات والأغاني التي نرددها في أول المجابهات مع الحقيقة؟
– هذا التخبط نُكابده كما ذكرنا سابقا منذ ٦٧ وربما قبل هذا التاريخ بعقود، فقد تكشفت بشكل فضائحي هشاشة البنية وهذا المد الجارف الذي لا يستند إلى حقيقة. ربما كان هنالك رجال وزعامات مُخلصين مثل: جمال عبدالناصر وهواري بو مدين على سبيل المثال، كانوا مُخلصين كأفراد في نواياهم ببناء نهضة مُخالفة، من قبيل طرد الاستعمار، لكن النوايا الحسنة كما قد لا تبني فنا أو نصّا إبداعيا فهي كذلك لا تبني دُولا. هذه الشخصيات غير الفاسدة والتي لم يكن كنز المال هو ما يهمها أو السلطة في حد ذاتها، لم تُساعد أيضا في بناء نهضة حقيقية وإنّما مُجتمع يتخبط في ظل هيمنة عسكرية وأمنية بالمعنى القمعي. المجتمعات طرحت سؤال النهضة كمتنٍ أساسي منذ فترة مبكرة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفي هذه العقود الطويلة نشأت حضارات وانهارت إمبراطوريات، بينما نحن نتخبط في الأسئلة البديهية وأنا لا أتحدث كعُماني فقط، ولكن باعتباري جزءا من نسيج الوعي العربي العام خاصة جيلنا الذي لا ينفصل في هذا السياق عن أحلامه وانكساراته وخيباته الكثيرة.
•في فترة الثمانينيات والتسعينيات كانت الحركة السجالية حول العديد من القضايا في أوجها، وقد تجلت في الصحافة والمجلات عربيا ومحليا، وقد استبدلت الآن الوسائط التقليدية بوسائط جديدة وبقدر ما يتيح لها هذا الفضاء من حرية «متوهمة» بقدر ما تحمل معها فيوضا من الكراهية والتزمت والشتائمية؟ – التاريخ لا يسير في خط تصاعدي، ولذا لا يمكننا أن نراهن على أن الجيل الذي سيأتي سيكون أفضل حالا وأنّ الأعمال التي تُكتبُ الآن ستكون أفضل من سابقتها. الخط التصاعدي في تاريخ المجتمعات وتاريخ الكتابة غير موجود. التاريخ متموج ومتناقض ومعقد للوقائع والتحولات التي تحدث من عصر لآخر. هنالك بلدان صناعية وحضارية عوض أن تؤثر علينا إيجابا بحيث نستطيع التقاط ذبذباتها وإشاراتها وتحولاتها بالمعنى الإيجابي بطريقة تخدم مسارنا الحضاري نلتقطها بالمعنى السلبي، وبطبيعة الحال فإن جيل الستينيات والذي قبله كما قرأنا عنه ثم جيل السبعينيات حيث تفتح وعينا البدئي وأسئلتنا وحتى مرحلة الثمانينيات التي أستطيع التحدث عنها بمعنى المعايشة كانت هنالك حالة سجالية أفضل، حتى الخلافات والأيديولوجيات المتصارعة وأنماط التفكير المُتعارضة مهما كانت ضراوتها وتعصبها الفكري والذي قد يصل إلى حد العمى أحيانا كانت لها أرضية خصبة لإنتاج الأفكار، ولكن غياب السجال المعرفي على اختلاف أصعدته هو غياب للمعرفة نفسها. وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والتطورات المُرعبة في قطاع التكنولوجيا أثرت على حياة المجتمعات في مختلف أنماطها على مستوى العالم وعلـى حياة الفرد بشكل جذري في علاقته بعائلته وبالآخر. هذا التحول التقطناه بالمعنى السلبي تماما حتى تمكن من سلوكنا اليومي ونمط تفكيرنا ووعينا بكل تجليات المجتمع من النخب الثقافية إلى الإنسان العادي، تمّ تأطيرنا في سياق سلبي أكثر مما كان في السابق. المجتمعات التي لا تمتلك أرضية تفكير صلبة ووعيا كنوع من الحصانة تجاه هذا الوافد التكنولوجي تسقط مرة أخرى في ظلام دامس دون أن تعرف. تظن نفسها هذه المجتمعات الغافلة أنّها موجودة في المجتمعات الحديثة لكنها في حقيقة الأمر هي خارج العصر تماما.
• الحالة السجالية الآن يتناوشها صوتان، صوت التراثيين المنغلقين وصوت التقدميين المنفتحين، وقد لا يسمح أحدهما للآخر بحالة من التعايش في جو من التعددية الفكرية التي تنشدها المجتمعات المتقدمة؟ ويجري تصنيف الفرد إلى أي صوت من الصوتين ينتمي؟
– عدنا مجددا لمناقشة البداهات الأولى والتي كان من المفترض أننا تجاوزناها. عدنا لنقطة الصفر بالمعنى الشرس للكلمة، بالمعنى المُعبأ بالكراهية وباللغة الرعاعية. فوسائل التواصل الجديدة عوض أن تخلق سجالا معرفيا بين النخب المعرفية والثقافية -باستثناءات قليلة- استبدلت السجال المعرفي بلغة شتائمية، وكأنّ كل شخص يريد أن يُفرغ حمولة أحقاده الوضيعة، ويصبها من خلال تغريدة عابرة. تصفية حسابات الأحقاد الرخيصة عوض أن نرتقي للحالة المعرفية الجادة السوية الثقافية والأخلاقية البعيدة كل البُعد عن الغرائز المُنحطة وهذا شيء مخيف حقا. هذه الحالة النكوصية عبر وسائل التواصل الحديثة -والتي من المفترض أنّها تنتشلنا وتساعدنا على تقدم الحوار وتقدم الوضع الأخلاقي- أعادتنا إلى الوراء بشكل أكثر عنفا من أيام الانغلاق السابقة. فكل شخص أراد أن يُقدم نفسه بالمعنى النزيه للمجتمع، صار يتقنع بأقنعة دينية ويُفتي ويُكفر الآخرين. فأي نصّ خارج مزاجه الضيق يقوم بإصدار حُكم على صاحبه من منطلق ديني. وهذه مسألة ينبغي الانتباه لها لأنّها تنشرُ الكراهية والعدوانية. الناس كلها متدينة في طابعها العام، والإنسان حسابه مع الله إذا لم يؤذِ أحدا أو يوقع الضرر بالآخرين، وإن وقع الإيذاء فهنا من حق الدولة أن تحكم أدواتها وقوانينها لردع كل من تسول له نفسه إيقاع الضرر. فهؤلاء المقتنعون يمزقون النسيج المجتمعي والفكري سواء أكان بالمعنى القبيلي أو عبر التنطع باسم الدين، وهم غير مؤهلين لهذا الشيء إطلاقا. لذلك تحكيم الدولة والقانون والمراجع المعتمدة يأتي في سياقه الضروري لحماية وتحصين المجتمع من الانهيار والتفتت والتشظي. هنالك وحدة وطنية ينبغي ألا تخترق تحت أي قناع دينيا كان أو تقدميا. هنالك مقومات لوحدة المجتمع العُماني يجب ألا تمس فهذه هي الثوابت الحقيقية من أي خطاب مسعور.
• كما تحدثنا سابقا تلقيت علومك الأولى على أيدي أهل العلم من العُمانيين في «الكتاتيب» أو في المدرسة السعيدية، فكيف كانت نبرة الخطاب الديني في ذلك العهد غير البعيد من الآن؟ – المجتمع الديني في عُمان كان متسامحا آنذاك، وشيوخ الدين الذين تلقينا على أياديهم العلم في بداياتنا الأولى «الكتاتيب»، أو في المدرسة السعيدية كانوا كذلك. أتذكرُ الشيخ حمود الصوافي -حفظه الله- كان رجلا مُتسامحا في مسائل كثيرة ولديه أجيال من مريديه وتلاميذه إلى اليوم. يزرعُ فيهم الروح المتسامحة مع التمسك بالأصول والثوابت التي لا تضر بمسألة الانفتاح والحوار مع الآخر. من زملائي أتذكر أيضا الشيخ أحمد بن سعود السيابي وأنا اقرأ معظم ما يكتب من كتب في التاريخ العُماني والمذاهب والعلاقات الثقافية، وهو مُفعم بالتنوير خارج التعصب. عندما أرى هذه النماذج المُشرقة أمام الزحف الحاصل في وسائل التواصل، أتفاءل بها باعتبارهم أصواتا مُستنيرة. الشيخ خلفان بن جميل السيابي الذي أعتبر قصيدته ذات المنحى السلوكي أو الصوفي «على باب من أهوى يلذُ لي الذل» من عيون الشعر العربي في هذا المجال، والشيخ أبو عبيد حمد بن عبيد السليمي، والاثنان رأيتهما وأنا طفل في ربوع سمائل وقد أشرتُ لهما في كتابي «شجرة الفرصاد.. من سيرة المكان والطفولة»، والشيخ السالمي الذي عاش عمرا قصيرا ولكنه مُكثف أيّما تكثيف في التأليف في مجالات مختلفة، ومن المتأخرين الشيخ المفتي السابق إبراهيم بن سعيد العبري الذي زُرته مع الوالد -رحمهما الله معا- في منزله في مسقط وكان مثالا لانفتاح الوعي على الراهن وتحولاته في الماضي البعيد والقريب وقائمة من الأسماء العُمانية التي قد تطول. هذا المناخ من العصبيات العمياء ربما يُفضي بنا إلى الحديث عن هذا اليمين الشعوبي المسعور في أوروبا ضد الإسلام وهذه الإدانة التي تتنافى مع تعددية وقوانين الحضارة الأوروبية، لذا وبدلا من الإدانات الجاهزة وكيل الاتهامات، من قبيل أن الآخر مُدنسٌ دائما بينما ذواتنا نحن هي المُنزهة، لا بد أن يكون هنالك تحليل للوقائع والأحداث والسلوكيات المطروحة بالعالم العربي والإسلامي فهذا التيار المُتعصب من كل المذاهب الإسلامية لديه ردات فعل ظلامية ينبغي الانتباه لها، فقد تلقف الآخرون الذين يغذون الصراعات والتناقضات بين الشعوب والأديان والذين يستهدفون العالم الإسلامي والعربي بصفة خاصة هذه الأفكار المتطرفة والجاهلة وحقنوا بها الشعوب الأخرى مما ساعد في تشكيل هذه الحالة العدائية تجاه العرب والمسلمين. ولذا آن الأوان لنعيد صياغة مواقفنا، فبدلا من الاتهامات الجزافية والشعارات الجاهزة التي تُفضي إلى أن الآخر ينسج مؤامرة كونية ضدنا، علينا ننشغل بتحليل أوضاعنا الاجتماعية، علينا العودة إلى متون التراث الديني والمرجعيات الكبرى من المفكرين سواء الكلاسيكيين القدماء، لا سيما أولئك الذين لم يُدَرسوا في عُمان بالمعنى الحقيقي لإظهار مُساهمتهم في محيطهم الإسلامي وهم كثيرون بالمناسبة نذكر منهم: الشيخ العلامة أحمد بن سليمان الناعبي المشهور بابن النظر، والربيع بن حبيب الأزدي ثالث أئمة العلم عن الإباضية وآخرون.
• على هذا الصعيد، هنالك أصواتٌ عُمانية تُحاول أن تضع هي الأخرى بصمتها وصوتها المختلف في استقراء النص الديني أو نصوص التراث بطريقة تجعلها تقترب من حياتنا اليوم وتفاصيلها المعيشة، ورغم أنّها لا تتفلت من النصّ أو تدحضه ولكنها تنبشُ فيه وتسائله، إلا أنّها تُكابد النبذ والكراهية لمجرد محاولاتها ربط النصّ بعجلة الحياة اليوم؟ – إذا كان الوطن العربي على تجاربه الأوسع منذ بداية القرن العشرين يُحارب هذه الأصوات، فماذا نُشكل نحن الذين بدأنا بصورة متأخرة نسبيا. قدر الأصوات الحرة في التفكير أن تخترق الجهاز التقليدي السائد، فلا تقطع مع تراثها ولا تقطع مع عصرها، بل تحاول أن تلتقط أسباب التوازن بين القديم والحديث بالمعنى الحقيقي للكلمة. بالتأكيد هنالك مُقاربات ومحاولات تنويرية، ولكن في الغالب الأعم وبسبب تلك النزعة التي تحدثنا عنها في إجابة سابقة، لم تُقرأ متون التراث كما ينبغي، كما أنّها لم تُفهم لأنّها مُختلفة عن الوعي السائد الآن بشكل جذري. ولكن من التجارب السابقة والمهمة عربيا تجربة الشيخ محمد عبده المحيط بالأفكار والتيارات التقدمية التي انفتحت على شروط عصرها بقدر ما وعت مجتمعاتها وصيرورة التاريخ. نصر حامد أبو زيد كان أستاذا جامعيا ومفكرا وقد حوصر هو وزوجته فاضطرا إلى الهجرة وطلب الحماية الأمنية من نيذرلاند. الدكتور محمد أركون والذي يُعد مرجعا كبيرا في الفكر الإسلامي بقدر ما يعد مُسايرا دراسيا ومحللا عميقا للتيارات الحديثة الفلسفية والثقافية المختلفة، وفاطمة المرنيسي على صعيد قضايا المرأة في الإسلام والتي كانت تكتبُ باللغة الفرنسية، والتي قدّمت نتاج أفكارها للآخر فأحدثت تأثيرا كبيرا. لذلك الترجمات من العربية للغات الأخرى لا تقل أهمية عن الترجمة إلى اللغة العربية، لخلق فهم متوازن بين الثقافات المتعددة.
• يرفض البعض تفنيد التراث بتعنت، على عكس أطروحة حامد أبو زيد الذي رأى أهمية: «مساءلة التراث لا القطيعة معه». لقد وُضع التراث في حصانة دون تفكيك أو مساءلة، أوصلنا إلى هذه الحالة البائسة من اعتمال التخلف والطائفية؟
– التراث إذا لم يعمل في حركة الحاضر كدافع للتقدم وللتفكير الأفضل لبناء المجتمعات وتحضرها، والدفع بها نحو الأبعاد الأكثر أخلاقية وإنسانية فما أهميته؟ التراث ينبغي أن يكون هو الحاضر وهو المستقبل دون هذه القطائع المفتعلة. ولقد ذكرتِ في سؤالكِ الطائفية وهي إحدى الآفات الكبرى التي استعرت كثيرا في المرحلة الأخيرة على الأقل من بداية التسعينيات. أتصور أن الغزو الأمريكي للعراق كان محطة فاصلة لتسعير هذه الطائفية وتسويقها في الوعي العربي لكي تحل محل الصدارة بدل مواصلة طرح القضايا الحيوية التي تهم كل المجتمعات العربية. تصدرت هذه الأطروحة «الطائفية» الوعي العام ليس كسجال شتائمي وعدواني وحسب وإنما كوقائع دموية بلغت أقصى درجات الوحشية التي لم تبلغها حتى في العهد القديم عندما كانت تستعر أوار هذه الكارثة، ما تفعله الطائفية اليوم.. ليس فقط استدعاء الماضي وإنما إيجاد واقع جديد أكثر دموية ووحشية من ظلام الماضي السحيق الذي يجري استدعاؤه واستنفاره بالمعنى الأكثر رعبا وجهلا في تصفية الحسابات الغريزية.
•بهذا المعنى استطاع الغرب وأفرعه المحلية -وهي الأخطر- أن يبذر بذور الطائفية وأن ينجح في اختراقنا ليس عبر الحروب وحسب وإنّما عبر بث سموم هذه الفكرة القادرة على جعلنا نوغل في تصفية بعضنا البعض، بينما الآخر يتفرج؟
-أعتقد أن آخر مغامرة في الأرض العربية قام بها الأمريكان في العراق، ففي ظل تطور التكنولوجيا وتطور أنماط الهيمنة، تمّ احتلال الوعي. فالجهل أعمق أشكال الاحتلال للمجتمعات. فعندما تكون جاهلة لأبسط متطلباتها الإنسانية والفكرية تغدو مُنشغلة بالتناحر فيما بينها والتنافر وتحطيم مكونات بعضها البعض. ولذا لم يعد العدو بحاجة لغزو، لقد حُسمت المسألة. أتصور أنّ قادة الهيمنة باتوا يفندون حروبهم الأساسية، كأن يتدخلوا مثلا في حرب روسيا على أوكرانيا فتلك الحرب بالنسبة لهم تُشكل مؤشرا خطيرا، فلو اضطروا لمواجهة مباشرة سيفعلون ذلك دون تردد. ليس علينا أن نُشكك في استعدادهم لإنهاء أي شي يزيد من ديمومة هيمنتهم على هذا العالم. يمتلكون الموارد والتكنولوجيا، ولذا فهم ليسوا بحاجة لمغامرات على مستوى العالم الثالث لأن الأمور مُستتبة وفي قبضة أيديهم والمجتمعات تتفتت من داخلها وتتناحر فيما بينها وهذه أكبر هدية تُقدم للدولة الصهيونية. فماذا يريد نتانياهو والتيار اليميني المتطرف أكثر من هذا. رغم أن الشعب الفلسطيني في مجابهة يومية على صعيد الأفكار وعلى صعيد التضحيات بأرواحهم وسفك الدماء، وكأنما المقاومة هي فعل جنائزي يومي، وإلى جانب الحرب اليومية، ينمو الشعب الفلسطيني ديموغرافيا كشكل من أشكال الدفاع عن البقاء. لدينا أصدقاء من داخل فلسطين ينتجون الأفكار الحضارية، وهم ليسوا في المجابهات وحسب، فالتيار الفلسطيني يتوغلُ داخل الدولة العبرية ينمو بطريقة قوية وهذا هو ما يخيف العدو.
• لقد تحدثنا عن الهشاشة، ونحن الآن يتم احتلالنا في عقر دارنا عبر حرب الأفكار. والسؤال: لماذا لم تكن لدينا الحصانة الكافية من بذرة الطائفية؟ ما الذي جعلنا مطية سهلة؟ رغم حالة التعايش التي سبقت هذه النعرات المستحدثة؟
– عوض أن نُنمي المُشتركات فيما بيننا وهي كثيرة كما ذكرنا سابقا، مقومات الأمّة العربية أقوى بكثير من مقومات أممٍ أخرى بما لا يقاس. التاريخ والدين والجغرافيا والوعي المشترك والعاطفة، وجدنا أنّ هذا المجتمع غير مُحصن رغم شعارات التراث والعصبية، غير محصن إطلاقا، والدليل تقبله للأفكار الانتحارية. فالطائفية فكرة انتحارية. المجتمع ينحرُ نفسه وأعزو هذا أيضا إلى ضعف الدول، فهدفها يتمحور في الهيمنة والسيطرة وقمع الرأي الآخر أكثر من تحصين هذا المجتمع بالمعنى الحضاري والصناعي والاقتصادي والفكري، والشروط التي تبنى بها الدول بالمعنى الحقيقي .
•والدليل بمجرد أن بدأت حرب روسيا وأوكرانيا، أوشكت بعض بلدان الوطن العربي -الذي يُعد سلّة غذاء العالم- على أن يجوع! لقد ذُهلنا من تأثر دول كبيرة ومُنتجة من مثل مصر، ذهلنا من الصراع الكثيف على المخابز في لبنان؟ الهشاشة تتجاوز البعد الاجتماعي والديني والفكري لتقوض الهامش الاقتصادي.. نحن لا نتحدث عن الصناعات الكبرى، نحن نتحدث عن الخبز؟
-أليست هذه كارثة حقيقية؟ كل البُنى تُكابد الهشاشة ولديها قابلية هائلة للاختراق من حدث عالمي ينعكس سلبا على الوطن العربي أكثر ربما مما ينعكس على البلدان المتحاربة نفسها. لبنان وصلت لأقصى الحالات المزرية والمأساة أن لبنان حتى أيام الحروب الأهلية المستعرة لم تكابد الجوع ولم يستكن أهلها أو يذلوا كما يحدث الآن في اللحظة الراهنة. هذه المدينة كما كتب الصديق صبحي حديدي ذات مرة حول فضل بيروت على الثقافة العربية وعلى مثقفين كثيرين ليس بالمعنى الفكري كونها مدينة النشر والحداثة والتجريب وحسب وإنّما كمدينة للعيش يلجأ إليها كل المقموعين العرب في كنف هذه المدنية والحرية النسبية التي توفرها بعيدا عن الأوضاع القمعية في بلدانهم، ولنا أن نتعجب من الحالة التراجيكوميدية، فالمبكي من فرط مأساويته صار مُضحكا كما يقول صمويل بيكت في إحدى مسرحياته: «ليس هنالك ما يُضحك مثل الشقاء». وقبله قال المتنبي: «ضحكٌ كالبكاء».
• تشكل المشهد الثقافي العُماني الحديث في نصف قرن من الزمان، لكنه يشتكي من ضعف البُنى الأساسية، وأغلب أطروحات الثمانينيات والتسعينيات لا تزال دون التحقق حتى الآن.. من مكتبات عامّة ومسارح وجوائز ومؤسسات حاضنة؟
– الكل يسأل حول هذا الموضوع فعلا، فهنالك مُتطلبات ثقافية أساسية صار المشهد العُماني يتسع لها بأصواته وبكتاباته في كل المجالات المعرفية، ولذا فهو يريد مؤسسة تواكب هذا التطور في الوعي والثقافة، فالجهود إن وجدت في عُمان -من قبل- فقد وجدت متفرقة ومشتتة، منتديات وأندية وجمعيات، لكن ليس هنالك المرجع المشترك للنشاطات الثقافية المفتوح على مدارات مختلفة، والذي يتمتع بحريات تعبيرية جادة. لأنّ المتطلب الأساسي لأي مُنتج ثقافي هو الفضاء الحر في حدود المسؤولية الإبداعية طبعا. وهو أمر بديهي. أتصور حسب ما يُكتب ونقرأ ونسمع أيضا أنّ جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- مُهتم بشكل شخصي بإنجاز مشروع «مجمع عُمان الثقافي» للملة شتات الثقافة ومؤسساتها المختلفة بين جنباته، على أن تكون هنالك رؤية للجهة المسؤولة، وتصور واقعي حول كيف يستطيع هذا المجمع أن يُقدم الدعم الرسمي والمؤسسي لدفع الثقافة والمعرفة بكل مناحيها وكل أرجائها إلى التطور لآفاق جديدة لتأخذ بيدها.
* هنالك مخاوف من أن يكون هنالك صرح ثقافي كبير وضخم كالمجمع عُمان الثقافي، ولكن القائمين عليه ليسوا على تماس مع صناعة الثقافة بالمعنى العميق للكلمة؟
– نتفقُ فعلا على أنّ المؤسسة الرسمية ليست هي التي توجد الإبداع وتصنع المبدعين والأكاديميين، وإنما هي التي تُقدم الدعم اللازم والضروري. المشهد الثقافي العُماني الآن بكل مناحيه بات يمتلكُ نوعا من التراكم النوعي وأصبح رافدا من روافد المنتج الثقافي العربي أيضا. ولذا ما نتمناه الآن أن تكون هذه العملية وهذا التصور متلازما مع إنشاء هذه المؤسسة الجامعة، حيثُ ينبغي أن يُوضع الأشخاص المناسبين والفاعلين في مواقعهم المناسبة. لأن المسألة ليست مجرد ديكور مُفرغ من المعنى والمحتوى الحقيقي، وللأسف هذا شهدناه في بعض المؤسسات الثقافية، وهي إحدى العلل الحقيقية والمآسي أن يتم الإتيان بأناس يُجهضون العمل بوعي أو دون وعي، أرادوا أم لم يريدوا. لذلك أظن الإتيان بأهل الشأن، والأخذ بمشورتهم أمر أساسي وإلا سندور في نفس الحلقة المفرغة غير المنتجة وغير المثمرة. ينبغي الأخذ أولا الإقرار بأهمية الثقافة كشيء جوهري في حياة الكائن وحياة المجتمعات وأنّ أي عملية بناء تاريخية لا يمكن أن تكون بعيدا عن الثقافة وإنما تكون الثقافة في صلبها وفي صميمها وفي مقدمتها. الثقافة بالمعنى العريض -العلمية والأدبية والدينية وكل مناحي الإنتاج الروحي- وأيضا في صلب أي عملية بنائية للدولة وللمجتمع، وهذا ما علّمنا إياه التاريخ في المجتمعات الأخرى، فلو تمعنا في أيام الازدهار العربي منذ دولة الأمويين والدولة العباسية وحتى دولة الأندلس والإمبراطورية المغولية والعثمانية لاحقا باعتبارها توأم الامبراطورية العربية لأنها ولدت من رحم المشروع العربي الإسلامي المشترك الذي أسسه الرسول الكريم، ومن ثمّ تابع خلفاؤه ومن جاء من بعده عربا كانوا أو من غير العرب، نلحظ بأنّ الثقافة مشروع مستمر حتى انهارت هذه الحضارة في آخر حصونها واستلمت أوروبا زمام التجربة التاريخية العظمى وأنجزت كل هذا التقدم العلمي والفكري والأدبي، فالثقافة هي الصميم العضوي لبناء هذه الدول والمجتمعات والممالك الكبرى والقوية. في أوروبا نجد المفكرين التنويرين مهدوا لقيام هذه الحضارة والنهضة الشاملة بكل تجلياتها، وأقروا بأهمية الثقافة التي تنبني عليها كل تلك التصورات الأخرى. أما إذا لم يكن ثمّة إقرار أو وعي فالمسألة ستكون شكلية وديكورية، وهذا ما لا نريده البتة، لذا ما ينبغي الالتفات له باكرا هو الثقافة باعتبارها تصورا بنائيا للنهضة الحديثة. فكما تحدثنا سابقا عن التراث، ينبغي أن يكون في صميم حركة الحاضر والتقدم والمستقل وليس استعادة فلكلورية لأجداد وأسلاف أنجزوا في الماضي السحيق لنبرر وجودنا السطحي واللامنتج في هذا الزمن الصعب والمعقد والمتصادم!
• هذا فيما يتعلقُ بالمؤسسة الرسمية، ولكن هنالك أيضا مشروع مؤسسات المجتمع المدني، الذي يتمثل في الجمعيات المختلفة، والتي تتقاطع مع الأدب والمسرح والسينما والصحافة ولكنها أيضا لم تتمكن من مواكبة التصورات المنتظرة منها؟
– هذا يندرجُ في السياق الذي تحدثنا عنه سابقا، تكريس وتعميق الوعي. فهذا المجتمع المدني ينبغي أن يُنمى لأنّه من صمّامات الأمان لصحة المجتمعات، ولذا فغياب هذه المجتمعات هو الذي يتيح مجالا للتطرف الظلامي وللجهلة لأن يسودوا باسم الدين والعلم الأوهام والخرافات والغرائز السوداء بدلا من المعرفة العلمية والفكرية الحقيقية. فعندما يُتاح لعناصر المجتمعات الحيوية أن تنمو وتتطور تحت إشراف المؤسسة والدولة، تكون هنالك علاقة صحية بين أركان المجتمع والمؤسسات، وهنا تأخذ الثقافة مسارا صحيحا بعيدا عن المطبات والمآزق التي نشاهدها الآن، والتي أضرت ودمرت دولا ومجتمعات عزيزة علينا، عشنا فيها طويلا، لكنها ذهبت لأوضاع كارثية.
• أنت بهذا تقول إننا لا نستطيع عزل مجتمعات المجتمع المدني عن الظرف العام.. واقع الأمر أنّ أول ما يضحى به في أي سياق اقتصادي صعب هو الثقافة، باعتبارها قطاع مُستهلك دون عوائد مادية؟
– بالتأكيد كل هذا يقع في العملية الشاملة لتصورات الثقافة. المجتمع المدني جزء من عملية كبيرة، هنالك مُركب حضاري ضمن مشروع واحد ينمو ويتدافع إلى الأمام عوض أن يترك للذبول. هنالك استسهال حقا، هنالك هُزال في النظرة واستخفاف عند النظر للثقافة والمعرفة والوعي بهذا المعنى الضيق، وهي نظرة تقود إلى الهلاك. وكأننا نقول: مخترع الكهرباء أفضل من فيلسوف يُنظِّر في الأدب أو الوجود، أفضلُ من عالم اجتماع.. هذا كلام سطحي. علينا أن نعي أولا بأنّ هذا المُركب الحضاري يتكون من كل هذه العناصر بالمعنى الشامل، يتكون من الحيوات الفكرية النظرية والتطبيقية. في أوائل القرن التاسع عشر أوروبا تقدمت صناعيا بشكل مُرعب ومذهل ولكن على الصعيد الروحي والأخلاقي تخلفت، وكان هذا أكبر مقتل للحضارة الأوروبية. العالم الرياضي تقدم بكثير وصاحبته النظرة الإمبريالية الرأسمالية المادية، فتقدم كل هذا على ما عداه من جوانب روحية. يبدو هذا مقبولا بالنسبة لحضارات أنجزت شوطا كبيرا في التقدم لقرون، ولكن بالنسبة لمجتمعات لا تزال تصعد على السلم فاعتقد ينبغي أن تأتي الثقافة في صميم المشروع.
• أغلقت قبل فترة قريبة مكتبة في عُمان، تبدى لنا أنّ العمانيين لم يتربوا على ثقافة القراءة، لم تكن جزءا من نسيج مجتمعنا، ولطالما كان دأبا فرديا. ولذا فهذه المشاريع ما أن تبدأ حتى تنطفئ؟
هنالك نقص فادح جدا، سواء أكان في المكتبات الأهلية المتخصصة في بيع الكتب وتسويقها، أو المكتبات العامّة. أتذكرُ أننا كنا في البلاد الأخرى نقضي جزءا كبيرا من سحابة نهارنا في المكتبات العامّة، نلتقي بالأصدقاء ونغدو على تماس شبه يومي مع الكتب الجديدة التي نشعل حولها نقاشا مستمرا. المكتبات جزء من المناخ الثقافي الذي ينبغي أن يُنشط ويدعم. من المحزن حقا أنّه لم تنشأ مكتبات عامّة في عُمان، وهذا ما ننتظره من «مجمع عُمان الثقافي» القادم وما نعول عليه. ليس فقط في مسقط وإنّما في فرص أن تكون هنالك أفرع في المحافظات العُمانية. ينبغي أيضا أن تدعم المكتبات الأهلية من قبل الدولة، وينبغي الدفع بها إلى الأمام لكي نحمي أنفسنا من الانزلاقات الخطيرة التي تحيق بكل المجتمعات أمام هذا التدفق القاسي للمعلوماتية ولتسويق الجهل. فماذا سنأخذ من هذا الفيضان المروع لوسائل التواصل الكونية إلا نفاياتها، فنحن غير محصنين كما ذكرنا سابقا.
• هذا الجيل لم يعد ينتظر مكتبة كما فعلنا نحن من قبل، لم يعد ينتظر المسارح ولا المحاضرات، فهو لا يشكو من الفراغ، وقته مُعبأ ببدائل جديدة؟ جيل يتعاطى سيلان من الرفاهية المعلوماتية؟
– إذا لم يحصنوا فإنهم سيتحولون إلى كائنات مُغربة عن واقعها وثقافتها ولغتها. كائنات عائمة على سطح المكان والتاريخ والهوية. ليس غياب المكتبات هو هاجسنا الوحيد، فمناهج التعليم الأساسية من الروضة إلى الجامعة تُكابد تخلفا مخيفا. وهذا ليس كلامنا، هنالك إقرارٌ من الباحثين العرب بتخلف مخيف في جميع مناهج التعليم، ولذا يجب أن يتطور التعليم بالمعنى العميق والجذري للكلمة. أولادنا الآن يرفضون القراءة باللغة العربية لأنّ أسلوب تعليمها مُعقد ولا يُحبب باللغة، وإذا لم يحبوا لغتهم فكيف سيقرؤون تاريخهم! العجيب أنهم يفضلون القراءة باللغة الإنجليزية، وهذا أمر بالغ الخطورة على الأجيال الجديدة، إن لم نشتغل مُبكرا على التعليم بشكل منهجي.
• في ظل الأوضاع الثقافية التي تحدثنا عنها سابقا، ترى ما الذي كان يحمي مجلة نزوى من انزلاقات مُشابهة؟
– أنت أصبحتِ جزءا من هذه المجلة الآن، وصرتِ تعلمين ظروفها والكثير من المعاناة للوصول إلى هذه المحطة التي تتمتع بمساحات حرية لائقة على صعيد الثقافة عربيا. لا بد من نضال شاق لتثبيت قيم ثقافية وطنية وقناعات. كنا نحتاج المغامرة والمجازفة والتحمل والصبر لأنّ الوعي العام المسؤول ليس بالضرورة أن يكون على تماس مع هذا المستوى من الطرح بل ربما يقمع المساحات المتاحة. في البداية كانت الرؤية غائمة جدا لا أحد يعرف ماذا يفعل ولذا كان لا بد من المخاطرة بالمعنى المسؤول طبعا. بمعنى ألا نكون رهن الوعي السائد والمؤطر للتجربة، دون المساس بالثوابت الأساسية للدولة وللمجتمع، وذلك من أجل اختراق الجهاز التقليدي والمتكلس والمتزمت ذو البعد الواحد باتجاه أفق أوسع. لم تتم المسألة بسهولة وسلاسة كما قد يظن البعض. والآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة، ثمّة منابر أخرى تظهر وذلك بفضل الرؤية المنفتحة التي يتمتع بها الدكتور عبدالله الحراصي وزير الإعلام، كونه قادما من صميم البيت الثقافي، فلقد رأينا ملحق عُمان الثقافي يتمتع بمستوى جيد من الحرية، وعدد بعد عدد يتطور، وننتظرُ ملاحق أخرى ومجلات تُنشط الوضع وتدفع بالتصورات الثقافية للأمام. فالوعي الثقافي أساسي وليس كماليا.
• كيف ترى حركة الاشتغال العُماني في الأدب والترجمة وماذا عن غياب حركة كتابة التاريخ؟
– هنالك نمو مطرد من أجيال مختلفة في عُمان. حتى إنّ المثقف العربي بدأ ينتبه إلى وجود رافد عربي كان شبه منسي من قبل. نتاجات لا تقل عن مثيلها العربي إطلاقا، وبهذا السياق يُمكننا الآن الخروج من الفكرة السائدة حول المراكز والهوامش وهو معيار زائف ووهمي. ينبغي النظر إلى الثقافة العربية نظرة موضوعية، فالنصّ لا يُقدم عبر الجنسية، وإنما بمعيار القوة الفنية.
ليس بحوزتنا جواب شافٍ حول غياب حركة كتابة التاريخ في عُمان، ولكن أظن بأنّ الكثير من الفتن القديمة في عُمان قضت على المؤلفات القديمة، وأحرقت الكثير من المخطوطات. الكتابات حول حركة التاريخ العُماني العاصف حربا وسلما ظلت بمعزل عن الكتابة التي تواكبها، الباحث سيف بن عدي المسكري شاب لديه كُتب قد تضيف في هذا الشأن وآخرون أيضا. في هذا الصدد أرى أهمية ترجمة الوثائق القديمة، فمنذُ زمن أرسل لي الباحث عبدالرحمن السالمي مجموعة من الوثائق البرتغالية، مجلدات حول عُمان تحتاج إلى ترجمة ونقاش وتحليل من قبل المؤرخين، الأمر الذي قد يوجد نشاطا جديدا على صعيد حركة الترجمة من جهة واستقراء التاريخ من جهة أخرى، دون أن نغفل أهمية إتاحة الحرية للمؤرخ دون إسقاط الوعي السياسي الراهن على التاريخ الآفل، لأنّ هذا التاريخ ينبغي أن يُقرأ بحياد وبموضوعية المؤرخ الحقيقي.
*حوار منشور في جريدة عمان، الأربعاء 22 فبراير 2023