دارين حوماني
إذا أردنا أن نضع تصنيفًا لكتب الشاعر العُماني سيف الرحبي قد نقع في جغرافيا مفتوحة على شتى الصنوف الإبداعية، فما بين شعره ونثره ورحلاته ومذكراته، كل تصنيف يغيّر اسمه وعنوانه، ثمة خروج عن النمطية وعن السائد في كتابة الشعر، وفي كتابة النثر، وفي كتابة اليوميات والرحلات التي ليست حرفيًا أدب رحلات بقدر ما هي احتكاك جسدي ونفسي مع الفضاءات، محاورة الشاعر مع اللامحدود، مع الطبيعة، مع الحدائق والغابات، مع الأشياء، مع الأرصفة والمقاهي، وحتى مع فوضى المدن وشقائها، يقولها كأنه يسرد تفاصيل لوحات متلاحقة، لا بل مسارح متلاحقة بسينوغرافيا متعددة الأضواء والعتمات والأشياء وصولًا إلى مآلات عالمنا السائل نحو الهاوية. إنتاجات سيف الرحبي الأدبية هي إنتاجات طليعية تكسر ما هو متعارف عليه، إنه يدفعنا لأن نفكر ونحن نقرأه، نفكر مطوّلًا بما وراء الكلمات، نستخدم سكين السيميائية كي نتحدّى ذواتنا ونحن نغور في داخل الرحبي وهو يقول “القصبة التي ترجّها رياح الثورات/ الشباب العاطل بأناقة أمام البيوت/ عيون تلمع في الظلمة…/ كانت فيما مضى أشباح بحارة يقيسون العالم بالسكين والصرخة…”. وها هو الآن في كتابه الأخير “ليل المحطات والنجوم” يستشهد بأمبرتو إيكو وهو يقول “نحن نميل إلى كل الأشياء التي نفترض أنها بلا حدود، وبالتالي لا نهاية لها، إنها وسيلة للإفلات من التفكير من الموت”. كأن الرحبي يستشهد بنفسه التي تكتب خارج النص وكأن في ذلك وسيلة للإفلات من العالم نفسه.
في هذا الحوار نتقصى القليل القليل مما كتبه الرحبي في “ليل المحطات والنجوم”، ونعود معه قليلًا إلى الوراء، ونحن نعلم أن تجربة الرحبي التي بدأت مع ديوان “نورسة الجنون” (1981) في دمشق وتبعه أكثر من ثلاثين عملًا ترجم العديد منها إلى عدد من لغات العالم، هي تجربة لا يمكن أن يختصرها حوار، لكنه خيط يجمعنا به وبالمدن التي يحملها على كتفه.
(*) “القطارات بمن فيها، الراحلون والمنتظرون وأولئك الذين لا ينتظرون أحدًا، كلها وقود للكتابة”- تقول في كتابك “ليل المحطات والنجوم” وتنطلق في سطوره الأولى من كون القطارات تشير إلى رحلة الإنسان في هذا الوجود حيث “الفقد والفراغ” هو محطة كل القادمين والراحلين، كيف نما فيك هذا الشغف بالقطارات وصولًا إلى إحالتها للفقد وإلى فقدان أنفسنا أولًا؟
القطارات ووسائل المواصلات الأخرى من بواخر وطائرات، والمحطات والموانئ والمطارات، تتفاعل أكثر مع حقيقة جوانية بأعماقي لتطرح بإلحاح أسئلة الوجود والحياة بتحولاتها وانقلاباتها عبر الزمان والمكان. فقبل بدء مشاهدتي للقطارات التي سأحترف العبور بها فترة لا بأس بها من الزمن لاحقًا، عشت في تلك الطفولة النائية في القرية الجبلية أتطلع من بيتنا الطيني إلى قوافل الجمال المترحّلة عبر الوادي من البوادي والبلدات والدساكر مندفعة نحو البنادر والعاصمة البحرية. أتذكر، لا تكاد تنقطع تلك القوافل في الوادي الخصيب آنذاك، حيث عينا ذلك الطفل لا تكلّ عن النظر والتحديق في قاطرات الدوابّ والبشر منذ انبلاجها الأول من رؤوس الوادي والشعاب حتى غروبها خلف الجبال لتأخذ مسارها المعهود في الطرق الترابية الصخرية الوعرة إلى البندر والموانئ البحرية. كانت تلك المشاهد محرق هواجس الطفل الغضة وبداية هلوسة رؤاه. ظلّت عُمان من غير قطارات وكذلك كل أنحاء الخليج والجزيرة العربية حتى الآن، وذلك الخط الذي ينطلق من الحجاز إلى الشام وتركيا دمّره الإنكليز إبان صراعهم مع الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشهد مرحلة أفولها. أول مرة سمعت فيها صوت القطار كانت بمنطقة “الدقّي” في القاهرة، عابرًا في خط بولاق والريف المجاور، ثم رأيت القطارات جاثمة في محطة “رمسيس” و”باب الحديد”. بعدها انفتح مشهد القطارات واقعًا وكتابة في المدن والقارات والأساليب المختلفة.
“الهيمنة المطلقة في البلدان العربية والمجاورة مثل إيران، مصحوبة بديهيًا بتراجع مشروع التنوير وتجديد الدولة الفكري والثقافي والسياسي حيث رجعت الشعوب إلى مخزونها الجاهز، الدين، الذي استغلّوه بأسوأ حال دافعين المجتمع إلى هاوية الدم وانسداد الأفق بتدمير ما أُنجز وتراكم عبر قرون” |
(*) تستشهد بترانسترومر في كتابك، ضمن عدد من الاستشهادات الغنية شعرًا وفكرًا، وإذ أستشهد بإحدى قصائده “في آذار- 79” يقول ترانسترومر: “متعبٌ من جميع الذين يقدّمون كلمات، كلمات لكن لا لغة/ ذهبتُ إلى الجزيرة المغمورة بالثلج، لا كلمات لما لا يُطبع/ الصفحات غير المكتوبة تنتشر في جميع الاتجاهات/ أرى آثار أظلاف الأيل في الثلج/ لا كلمات لكن لغة”، إنه تواصلكما المشترك مع الصور التي يكتنزها هذا الوجود حيث ثمة لغة أخرى لا يفهمها إلا الشعر، هل الأصوات الشعرية الصادحة في عالمنا العربي فيها من اللغة التي يريدها الشعر لنا، أم هي كلمات مصبوبة فقط؟
أظن أن الشعر لغة “داخل اللغة”، إذ يغادر اللغة السائدة الاستعمالية الاستهلاكية باتجاه اللغة التي تندرج أو تتوسل أفق الشعر الثريّ الملبّد بالرؤى والدلالات المفارقة. وهو، أي الشعر، إذ ينطلق من الواقع والحياة بمفرداته المختلفة متورطٌ في التاريخ لا محالة، لكي يجترح لغة مختلفة، لغته الخاصة. ولكل شاعر حساسيته ومقاربته تجاه هذه اللغة التي يطمح لأن تحمل عبء الرؤى والمقاربات الشعرية للواقع والتاريخ في أطواره المختلفة. ويحصل أن يكون لكل مرحلة أسلوبها، يطبع شعراء كثر ولكن عبر أصواتهم وتعاطيهم الخاص مع الوجود والعالم. إذ لكل شاعر حقيقي أصالته الإبداعية مهما اشترك في الأسلوب وأفاد من المنجز الشعري والأبدي حداثة وقدامة، ومسألة التفاعل المثري مسألة بديهية.
(*) عبارتك ص 54 عن فيلم “خير مطلق” والسينما الإيرانية التي أضحت طليعة لا تنقصها رقعة الفن في بعده العالمي مع قوى التخلف والظلام والهمجية، صعود المدّ الأصولي الإسلامي إقليميًا وعربيًا الذي قتل كل إمكانية للفكر النقدي والتجديد الفكري الديني، كيف ترى أسباب بروزه وتطوره؟
لطالما أحببت السينما الإيرانية التي تبدعها تلك الكوكبة الطليعية في الخارج والداخل، وتابعتُ أفلامها الطليعية في أماكن شتّى من العالم بمواضيعها الصدامية ضد الاستبداد والظلامية والقمع، وجمالياتها المدهشة التي تضيف جديدًا للسينما العالمية، والقائمة تطول بالأسماء والأشرطة. المدّ الأصولي العنفي الكاسح في البلدان العربية والمجاورة مثل إيران المؤثر على جوارها جاء في غياب التعبير الديمقراطي وقمع التعدّدية والرأي المختلف وفي ظل فشل السلطة اقتصاديًا وسياسيًا، عدا الهيمنة المطلقة المصحوبة بديهيًا بتراجع مشروع التنوير وتجديد الدولة الفكري والثقافي والسياسي، حيث رجعت الشعوب إلى مخزونها الجاهز، الدين، الذي استغلّوه بأسوأ حال دافعين المجتمع إلى هاوية الدم وانسداد الأفق بتدمير ما أُنجز وتراكم عبر قرون وأكثر، بحيث أن هذا المخزون يُفيد في أي تقدّم مستقبلي منشود. إن البرهة العربية الراهنة برهة ظلام دموي بالغ الشراسة ويأس مطبق، لكن ربما ذلك اليأس الذي ينبلج من ضفافه الأمل والحلم كما عبّر بعض الرائين.
(*) تقول في الصفحة 106 “الكثير من الأسماء التي تستدعيها الذاكرة إلى الكتابة تكتشف أنها رحلت، هكذا كأنما دفعة واحدة صعقهم إعصار الموت، وأخذهم إلى عرينه الأبدي”… تتذكر دائمًا أصدقاءك ليس في هذا الكتاب فحسب بل بما سبقه أيضًا وبشكل متواتر، كأننا أمام علاقات بدأت صدفة فصارت غير فانية…
رحيل الأصدقاء في الفترة الأخيرة كان متواترًا بشكل كابوسي، حين يرحل صديق كأنه يأخذ منك شيئًا معه إلى آفاق الأبدية، ونصير نموت بالأقساط. هكذا إلى أن تأتي الضربة القاضية وفق رطانة الملاكمين على الحلبة التي هي في مكان ما حلبة الوجود المحتدم بالصراعات والأقدار والمفاجآت. مرة كنت في مدينة ما، أو في مدينة أين، وفق عنوان للراحل العزيز سركون بولص، وأنا أمشي في خضم الشارع والحديقة أو المقبرة، إذ كثيرًا ما أتنزه في المقابر بالمدينة الكبيرة الحديثة، أخرجت دفتر الاتصالات الذي تراكمت فيه الأسماء والأرقام فاكتشفت فيما يشبه الفجاءة الصاعقة بأن الكثير من تلك الأسماء الصديقة الحميمة قد رحل إلى بارئه وأبديته. يرحل الأصدقاء بفعل الأوبئة والكمد والحزن العميق حدّ الكآبة السوداء أو المسار الطبيعي للموت والغياب تاركيننا لوحشة المدينة والجدار.
“عربيًا ليست المشكلة في تبنّي مشكلة الحداثة بل في كيفية التعاطي مع منجزاتها في السياق المجتمعي والتاريخي، وأم المشاكل في الأنظمة السياسية والاقتصادية التي قامت بعد الاستقلال أنها لم تفعل سوى مفاقمة المآسي والقمع والإقصاء فيما يشبه مافيات السلطات وبالتالي مفاقمة هيمنة مؤسسات الرأسمالية العالمية في طورها الوحشي” |
(*) يعيدنا حديث الرحيل والموت إلى يانيس ريتسوس وهو يقول “لو لم يكن الموت موجودًا ما النحات؟ ما الشاعر؟/ ما العمل الذي سيتعهدانه من أجل الخلود؟”، فهل الفنون والآداب وحدها الخالدة؟ وكيف تنظر إلى الموت كحقيقة موجودة؟
الموت يمكن أن يكون وقود الكتابة مثل الحياة وهناك من يرفع حقيقة الموت التي هي الحقيقة الوحيدة ربما إلى مستوى المعين الذي لا ينضب لإمداد الكتابة بالنضارة والتجدّد. إدغار آلان بو كانت خير محرّك مخيّلته المدهشة أطياف النساء اللاتي غيّبهن الموت والرحيل.
الورود تحرّك الخيال الشعري في تفتّحها وذبولها. الينبوع في تدفّقه واندفاعه وكذلك في الجفاف واليباس. الشعر والفنون جميعها موجودة في كل تمظهرات الوجود وتفاصيله من المزبلة إلى المقبرة والحديقة، الكوخ والقصر وإن كان الأول أكثر إثراءً للشعر، وليس في المعارك والزعامات التاريخية الملحمية الكبرى فحسب. موجود في برّية الكون الأولى أكثر مما هو موجود في حضارته. أما مقولة الخلود فتخيف وتربك أمام هذا العبور الصاعق لكل شيء عبر الأزمنة الممتدة، تخيف وتربك حتى لو أُطلق اتجاه هذا السمو والأخلاقي الذي هو الفنون.
(*) وتكتب أيضًا ص 150: “الفلسطينيون في تغريبة الاقتلاع الجديدة يندفعون حفاة عراة من شمال البلاد المدمر إلى أقاصي جنوب الهاوية”، لتصبح “فرجة يومية” على الشاشات. للكلمة سطوتها، للشعر، للفن، وإلا ما كان استشهد غسان كنفاني وناجي العلي وغيرهما على يد الآلة الإسرائيلية المتوحشة، ولكن هل ترى من تأثير للكلمة والفن في حقبتنا الزمنية الأميركية حيث الفيتو يقتل كل الأصوات الحية وكل صوت شعري وفني؟
ما يحدث في البرهة الراهنة من إبادة صريحة للشعب الفلسطيني وتصميم غير مسبوق لدى الآلة والعقل الصهيونيين يختلف في الدرجة الوحشية، ولكنه مستمر منذ زمن طويل فلسطينيًا وعربيًا، في تدمير المشرق العربي تدميرًا شاملًا بحيث أصبح مكبًا للجيوش المختلفة والعصابات، أضيفي اليمن والسودان وليبيا وحبل التدمير على غاربه هو ما جعل الآلة الصهيونية تعربد على هذا النحو العصيّ على التوصيف. أقول مع آخرين إن غياب المشروع العربي، غياب الدولة الحقيقية التي تنبني على الشعوب والوقائع والدستور والتاريخ وليس عبر مزاج الأفراد الديكتاتوريين الذين تحطّم ديكور دولتهم مع أول اختبار حقيقي أو صدام، عدا قمعهم لشعوبهم فحسب؛ ذلك الغياب والتدمير والفساد المستمر هو الذي أدّى إلى هذا الخراب الكبير والانحطاط بكل جوانبه وشموله. الفلسطينيون يقاومون هذا التدمير والمحو ليس بالسلاح فحسب، بل بالمواجهة الحضارية الشاملة ولن يستطيعوا مهما حشدوا من قوى وأسلحة ساحقة أن يمحو الهوية الفلسطينية والعربية. والشعوب العربية ستقاوم هذا السحق والإلغاء، إنها شعوب حيّة فاعلة منذ الأطوار الأولى للتطور البشري والحضارة. أشرتِ إلى أميركا، لا شك في أن أميركا والغرب كانا سباقين تاريخًا وهيمنة مستمرة على هذه الأرض الشاسعة الموبوءة، ولكن الدول الأخرى التي تزعم المخالفة والمحاربة مع ذلك الغرب ليست أقل بشاعة وتدميرًا. على الأقل ذلك الغرب يأتي منه اعتراض على وحشية ويأتي منه الصوت النقيض.
عن ترجمة الآداب العربيّة
(*) تشير أيضًا في كتابك “ليل المحطات والنجوم” إلى قضية مهمة جدًا هي نقل النصوص العربية إلى اللغات الأخرى، إذ تقول إنه منذ زمن ليس هناك من تخطيط منهجي مدروس ومشتغل عليه من قبل أي نظام عربي ما عدا محاولات فردية. الترجمة عن الغرب قطعت شوطًا، أما ترجمات كتب عربية إلى لغات عالمية فهي تعود لمحاولات الكتّاب أنفسهم وتواصلهم مع دور نشر عالمية أو مع مترجمين لهم صلات وعلاقات معهم، ماذا تقول في ذلك؟
قضية ترجمة الآداب العربية إلى اللغات الأخرى كمشروع يمتلك رؤية واضحة تجاه ما يفيد ويستفيد في خضم الحضارة البشرية الراهنة، ما زال يراوح على نفس الوتيرة والغياب من المشاريع والاستحقاقات التي تقوم بها الدول والمؤسسات عدا استثناءات فقط. ليس هناك عندنا، مثل اليابان على سبيل المثال ومن على نمطه حيث تجدين آدابهم تراثًا ومعاصرة حاضرة في اللغات الأخرى المهيمنة على العالم خاصة.
(*) في كتاب “مدخل إلى الأدب الرمزي الخيميائي في استخلاص النماذج العليا عند سيف
الرحبي”، يرى الهواري غزالي أنك لست شاعرًا فقط، بل جوّاب ورحّالة في نصوصك الأدبية، وباحثٌ عن مكانة صافية للوجود وكائناته البريئة التي ما لبثت تصرخ منذ فجر الخطيئة الأولى ضد البشر… هل بدأ الشعر أولًا فيك أم ذلك الوقود الداخلي للترحال والعبور في الأمكنة والبحث الذاتي عن ضفة بلا حروب ودماء مع كائنات صافية من هذا العالم؟ متى انوجد هذا الرابط فيك؟ وهل تؤكد على التمايز الشعري بين التعدد في الأمكنة وبين المكان الواحد، في حال كُتب لك أن تبقى في مكان واحد؟
كتاب الصديق الهواري غزالي الأخير حول بعض صنيعيَ الأدب، ميزته أنه قارب النصوص من مكان بالغ الخصوصية. لقد زار عُمان والقرى واطّلع على مفردات تلك الحياة التي هي على وشك الأفول، ربما على هدي غوته القائل “إذا أردت أن تعرف الشاعر فاعرف بيئته”. وصدر أيضًا كتاب للدكتورة زهيدة درويش جبّور ينحو المنحى الأركيولوجي في دراسة الشعر، هذا إثراءٌ للتعدّد النقدي، وإن كان الشعر والأدب يتجاوز هذا التصنيف الذي هو جزءٌ منه ولكنها بحوث رائدة في سياقها على هذا النحو العميق.
(*) يقول جيل كليمان “لكي نصنع حديقة، تلزمنا قطعة أرض والأبدية” والحدائق التي جبتها حول العالم هي إحدى مكونات نصوصك الأدبية، الأشجار، العصافير، الفراشات، اليمام، الغربان، بل تُدخلك في أبدية أخرى بعيدة عن عالمنا المتهاوي وسط الأصوات التكنولوجية وجرائم العصر الراهن، كما تراها، هل العيش كطائر في الوردة، في الشجرة، في الغابة، هي ما تريده أخيرًا بعد أن عاصرتَ الصراعات الكونية و”الإنجازات اللاعقلانية” للرأسماليات المتوحشة؟
أن أكون في هذه الحديقة الكونية التي هي قطعة من الأبدية فذلك حلم، غير أنه على ما يبدو حلم عصيّ كمعيش واقعي لكنه يظل حلمًا. ونحن ستموت أسماكنا خارج مياه الحلم بالطبع. وأشرتُ إلى أن الشعر والفن أقرب إلى براري الخليقة منه إلى حضارتها مثلما قال ذلك المستقبليون. تظل الغابة والبرية في الخيال وقودًا مثل القطارات والمرافئ لدفع لحظة الكتابة. ونحلم جزئيًا بالعيش الواقعي ولو مؤقتًا في أطراف الغابة لكننا أثناء هذه المعمعة من المفاهيم والمدن الضاجة وسنموت كذلك. تكفينا دمعة طائر يعبر الأفق في المغيب.
عن بيروت ودمشق…
(*) “آه كل شيء يذكّر بك يا شام/ يا بيروت يا قاهرة قلبي/ المكلوم على هذا الفضاء الشاسع: المطاعم الأليفة بين العمارات/المقاهي، النساء والحانات/ الساحات بالأصص/ والأشجار، الباعة المتجولين/ كل شيء يذكر بك/ حتى النجوم التي شبعت موتًا وانطفاء لكن ما زال ضوؤها ينير الأكوان”… هي قصيدة من كتابك “رحلة إلى جبال سراييفو” الذي يجعلني أشعر بكثافة فكرة “أنك شاعر جغرافيا” حسيًّا، فأنت مرتبط بأحاسيسك بالكامل بكل مدينة مررت بها حتى تنزلق قدمها في شِعرك ونصوصك حتى لو بعد مرور زمن. ذلك الزمن من دمشق وبيروت لا يزال يعيش بقوة فيك، فهل هما نجمتان شبعتا موتًا، كما تقول في نصك، وهل ثمة ضوء برأيك في مكان ما فيهما؟
حين كنت أتجول في مدينة سراييفو البسيطة بالنسبة للمدن الكبرى المركّبة- وقد ذهبت إليها أثناء هيمنة كوفيد 19 على العالم- أخذت تذكّرني بتلك المدن الأثيرة على قلبي، مدن الروح والثقافة والتاريخ، وإن كانت في برهة وهنٍ وانكسار، وتلحّ الذاكرة لدرجة تستدعي تفاصيل الأمكنة والوجوه الغائبة. الطبيعة المكانية والبشرية لهذه المدينة أو مدن البلقان عامة قريبة من طبيعة بلاد الشام، ومثل لبنان ولاحقًا سورية التي لم أرها بعد الثورة أو الزلزال أو الأحداث كلّ بتعبيره، وما أعقبها من حروب دُفعت أن تكون أهلية على ذلك النحو البشع. وهي سراييفو طالعة من حروب إبادية مريعة.
“شكّلت بيروت فسحة حرية حتى في خضمّ حروبها، من هنا جاذبية المدينة وسحرها، حتى أتى الغزو الصهيوني الشامل عام 1982 الذي اكتسح لبنان برًا وبحرًا وجوًا، وكان هذا الغزو ورحيل الفلسطينيين فاصلًا حاسمًا في رسم خرائط جديدة وفي تشتت الأصدقاء في أنحاء الكون” |
ثمة مقاربة لافتة أشار إليها الكاتب اللبناني وسيم سعادة بين ألبانيا ولبنان. هناك المقاهي والمطاعم في الأزقة بين العمائر تديرها عائلات مثلما في بيروت والقاهرة، توحي بجوّ من الألفة وتقليل الغربة تجاه المكان الغريب، لكن لا توجد في سراييفو مناطق مهدمة بفعل الحرب إذ أعادوا بناءها على ما يبدو، مثل المتحف وخطوط التماس والهوليدي إن في بيروت. القاهرة، الشام، بيروت تظل مرجعية الذاكرة والحنين. أشرتُ إلى أن الشعوب والأمم العظيمة يمكن أن تُهزم بفعل الداخل والخارج وتغمرها فترة نكوص وانهيار لكن لا يمكن أن تُسحق هوية تاريخها وشخصيتها بعناصرها الكثيرة الثرية. أفرادها ما زالوا خلّاقين على نحو إبداعي ابتكاري كبير في بلدان وحضارات الآخرين حيث يُتاح لهم مناخ الحرية والأمان، وكذلك شعوبها رغم الكوارث تحلم بالحرية والكرامة والمدنية.
(*) أحب أن تتذكر من ذلك الزمن في دمشق وبيروت والقاهرة وتخبرنا، حين كنتَ لا تزال في “الدفاع عن المعسكر الاشتراكي والشيوعي”، وحيث تصف في كتابك “ليل المحطات والنجوم” كيف شعرتَ عندما هوى ذلك المعسكر حيث “ترك غصة في النفس، كأنكَ غادرتَ برهة من العمر والزمن”…
في فترة الإقامة في بيروت والشام، في تلك السنوات، كنت في العشرين من العمر وكانت سنوات ثرية ومحتدمة على الصعيد الشخصي والعام وهناك أصدرتُ كتابيّ الأوليّ في المسار الذي امتدّ حتى اللحظة، وهناك تعرّفتُ على الأصدقاء من معظم العالم العربي، كنا نحلم بالأدب والثورة والحب. كان جوًا صاخبًا حالمًا أليفًا رغم العنف البالغ الذي بدأ يكتسح بصمت بعض المدن السورية، وحيث الحرب كانت ما تزال مشتعلة في لبنان. حين نكون في سورية ننتظر الصحافة اللبنانية التي تدخل دمشق بعض الظهر، لغنى مواضيعها الأدبية الفكرية والسياسية التعددية بمستواها المهني العالي. شكّلت بيروت فسحة حرية حتى في خضمّ حروبها، من هنا جاذبية المدينة وسحرها، حتى أتى الغزو الصهيوني الشامل عام 1982 الذي اكتسح لبنان برًا وبحرًا وجوًا، كان هذا الغزو ورحيل الفلسطينيين فاصلًا حاسمًا في رسم خرائط جديدة وفي تشتت الأصدقاء في أنحاء الكون. أنا رحلت إلى لندن لأعمل في صحافة تابعة لأفراد أصدقاء من دولة الإمارات، ما زالت ظبية خميس هي الفاعلة إبداعيًا من بينهم، في الفترة الراهنة. ذكريات غزيرة تتطلّب كتابًا مستقلًا. أتذكر أن عشرتي مع القطارات وهذا الولع بها واقعًا ورمزًا بدأ من هناك، من مدينة حلب العريقة. كنتُ آخذ القطار الليلي غالبًا نحو تركيا ومن هناك إلى بلغاريا التي أقمتُ فيها عامًا، وعلى طول معسكر أوروبا الشرقية الاشتراكية آنذاك، قطارات، مدن ومحطات تتناسل في ذلك الليل العميق الذي تتخلّله أضواء القرى والمدن والقطارات العابرة، ومفتشو البوليس الاشتراكي الذين لا تنقصهم الدقة والصرامة. كنا ما زلنا على أمل في الانتصار الحتمي لهذا المعسكر الاشتراكي السوفياتي الصيني، رغم الخلاف الحادّ بينهما، وكان الدفاع عنهما يتّخذ طابعًا يقينيًا لا يطاوله الشك والمساءلة حتى تكّشف لاحقًا عن هذا الانهيار الكبير، وعن اثنتين من أكبر عبوديات التاريخ، راهنًا تبنّيا مسارات الرأسمالية المتوحشة بطريقتهما، باترين منها أي نوع من أنواع المجتمع المدني وأي نوع من التعددية والديمقراطية، تلك الإنارات التي تخترق الهيمنة الرأسمالية حتى في مرحلتها الأكثر توحشًا وبربرية “النيوليبرالية”.
(*) تشير في كتابك “النور المنبعث من نبوءة الغراب” إلى نفايات الرأسمالية وإلى النيوليبرالية التي بدأت تتربع على عروش أوروبا والعالم وهي الأكثر ضراوة وعنفًا لسحق إنسانية الإنسان لتحويله إلى سلعة، وأن مجتمعاتنا تستهلك ما ينتجه “الآخر” المهيمن، ما يذكّرنا بقول رولان بارت: “ما هو أولي في صيرورة التماهي هو تحديدًا تلك الإرادة في رسم الفصل بين ‘هم‘ و‘نحن‘”، هل فقد العالم العربي هوية الـ”نحن”، وفعلًا منذ استيراد الحداثة الغربية وقعنا تحت وطأة الهيمنة النيوليبرالية بكافة أشكالها، أم أن ما نعيشه نتيجة لمخلفّات الاستعمار؟
عربيًا ليست المشكلة في تبنّي مشكلة الحداثة بل في كيفية التعاطي مع منجزاتها في السياق المجتمعي والتاريخي، وأم المشاكل في الأنظمة السياسية والاقتصادية التي قامت بعد الاستقلال أنها لم تفعل سوى مفاقمة المآسي والقمع والإقصاء فيما يشبه مافيات السلطات وبالتالي مفاقمة هيمنة مؤسسات الرأسمالية العالمية في طورها الوحشي، وهذا بدوره فاقم العنف المجتمعي ضد السلطة وقاد إلى حروب تدميرية لا تبقي ولا تذر، وهذا بدوره بمثابة مطلب إسرائيلي وأميركي: أن تتحول البلدان المحيطة بالدولة الصهيونية إلى هذا المشهد من التشظي والحطام.
- المقال منشور في مجلة ضفة ثالثة بتاريخ 14/ابريل/2024م عبر هذا الرابط https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/interviews/2024/4/16/%D8%B3%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D8%A8%D9%8A-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D8%A8%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1