حاوره زياد خداش:

الحوار مع الشاعر العماني سيف الرحبي ممتع ومهم، فمسيرته الشعرية المميزة تداخلت مع إسهامه الكبير في احتضان نصوص الكتاب العرب، والاحتفاء بها على صفحات مجلته الشهيرة (نزوى)، أحب بساطة وعفوية الرجل، الذي لا يتوقف عن إرسال سلاماته لشعراء فلسطينيين عاش معهم في أماكن عديدة، ونشر لهم في مجلته، زار الرحبي فلسطين مع وفد عربي، ولم يتح له التجوال في المدن كما يجب بسبب اندلاع الانتفاضة الثانية.
هذه دردشة مع هذا الشاعر المسكون بتراث عمان وأساطيرها:
– لأنّ ألم فلسطين قبل ألم الشعر: سأبدأ بهذا السؤال: يساهم الشعب العمانيّ عبر أطبّائه وإعلاميّيه بشكل واضح ومميّز في معركة فلسطين ضدّ الجوع والألم والموت، وتغييب الرواية الفلسطينية، بماذا يُشعرك هذا كمواطن عمانيّ أوّلاً ثمّ كشاعر لديه العديد من الأصدقاء الفلسطينيين؟
– ألم فلسطين هو ألم الشعر والأدب عامّة، ووقوده. وكلّ تاريخ الشقاء البشريّ هو وقود الشعر بطرائق ومقاربات جماليّة، وفنّية مختلفة، وإلّا فقد مداه الإنساني، وتحوّل إلى بهلوانيّة، لفظيّة لا تُلامس معنى الوجود، وخفاياه، ولا تحاول تجشّم هذا السؤال الصعب.
بالفعل العمانيّون في معظمهم التحموا وجدانياً بقضيّة الشعب الفلسطيني في برهته المتفجّرة على هذا النحو الوحشيّ الإبادي غير المسبوق.
وبعواطفَ جيّاشة متدفّقة اعتبروا مصير هذه القضيّة المركزيّة هو مصيرهم، ومصير الأمّة بكاملها.
هذه الأمّة المنكوبة من المحيط إلى الخليج، والتي تمرّ بمأزق مصيري في الوجود والبقاء بكرامة على أرضها أو عدمه.
الحدث الدموي الفلسطيني في الانقضاض الصهيوني الراهن بُغية الإجهاز على إرادة الفلسطينيين ومكاسب نضالهم عبر تاريخ قرن من المجازر والمرارات، ذكّرني حين ذهبت لزيارة الأصدقاء في الضفة انطلاقاً من العاصمة الأردنيّة مع كوكبة متنوّعة من الأدباء العرب، قدموا من أكثر من مدينة ومكان.
كان أبو عمار، رحمه الله، القائد التاريخي للثورة في أوج نشاطه، وقد زرناه في المقاطعة، وكان محمود درويش، وكذلك مروان البرغوثي الذي يزورنا بين الفترة والأخرى في الفندق. في تلك الأثناء اعتقلته آلة الإجرام الصّهيوني التي اغتالت الدرّة في حضن أبيه وحاصرت مدن الضفة، ورأينا الأصدقاء الذين عشتُ معهم في مهاجرَ مختلفةٍ من بيروت والشام، إلى بلغاريا السوفييتيّة وباريس، وإلى آخره….
– أراك عاشقاً للتجوال، وللمدن الجديدة، ما الذي هناك ما يعني الشعر، وهل كلّ سفر وكلّ مسافر يحصل على عمق القصيدة وحداثتها؟
– السفر والترحّل تقاطعا مع مرحلة مبكّرة من حياتي التي مرت بشكل عاصف، وإن صادف هوى عميقاً في نفسي ربّما ورثته من أسلافي الرّحل! لكنّه أيضاً في فترة ما، ومكان ما كان لظروف موضوعيّة وشخصيّة، ربّما الترحّل في المكان كما في المخيّلة يحفّز القول الشعريّ والأدبي، لكن، لا يشترطه! فلكلّ شاعر حساسيّته وتعاطيه مع النص والحياة.
في كتابي الأخير “ليل المحطات والنجوم” أرصد محطّات القطارات خاصّة، والموانئ، والمطارات، لحظات الفقد، فِراق الأحبّة، والفراغ المدلهمّ في ذلك الترحّل نحو المجهول، محاولة التقاط السؤال الوجودي الملغز، بموازاة رحلة الكائن من الرّحم الأمومي عبر مراحل ومحطّات حياتِه إلى النهاية الحتميّة. وربّما هذا صنيعيَ الأدبيّ بمعظم ما كتبت.
– المناخ القاسي والبيئة العنيفة في طفولتك الذي تحدّثت عنها مع الكاتب ياسين عدنان في فضائيّة الغد، لم تتسرّب آثارها إلى نصوصك الممثلة بالسلام والتأمّلية الهادئة.
– العكس هو الأقرب إلى ما كتبت عبر ما يناهز النصف قرن، فتلك البيئة الفريدة الأولى للطبائع العُمانيّة، ربّما هي لحمة النصّ وسُداه. حتّى لو كانت الكتابةُ عن مدينة مفعمة بالمدنيّة والتكنولوجيا. تظلّ مفردات ومناخات تلك التضاريس البالغة القسوة تستأثر بحضور كبير. لكنّي إذ أحتفي بالطبيعة العمانيّة والكونيّة البريّة فيما أكتب، فليس بمنحى بيئيّ، جغرافيّ، خارجيّ، بقدر ما تحملُ من ندوب الرّوح وجراحات الوجودِ المفتوحة على أفق الحياةِ والموت.
– تبدو مجلّة نزوى التي تترأس تحريرها واحدة من ألمع التجارب الثقافيّة التي ما زالت تفتح الباب واسعاً أمام كلّ اتجاهات الشعر والسرد. حدّثنا عن البدايات والآفاق؟
– نعم، مجلّة “نزوى” كانت تجربة مهمّة ضمن دوريّات الثقافة العربيّة على ما أظنّ.
وقد شقّت طريقها لمن لا يعرف، وسط مناخ معادٍ في معظمه للتجديد والتحديث، أي مناخ منكفئ على مسلّمات الإرث السلفيّ المتوارث منذ قرون!
من هنا، كانت الصعوبة والمعاناة، لكن ها هي تُكمل عقدها الثالث، والتقبّل، والانفتاح صار أفضل من ذي قبل، وتراكمت الإنجازات الإبداعيّة في مناحي الإنتاج الثقافي والإبداعي في عُمان في طورٍ مهمّ جديد.
– لكن هناك مجلات شهيرة في العالم العربي كالشعراء والكرمل والناقد والكاتبة وغيرها، ما الذي باعتقادك أحبط هذه المجلات المهمة وأعدم مسيرتها؟
– ربما انتشار المنصات الثقافية والصحافة الإلكترونية، هو السبب فقد انحسر دور المجلات الكبيرة المقروءة.
أريد أن ألفت انتباهك إلى أن الموقع الإلكتروني لمجلة نزوى يشهد انتشاراً أهم من انتشار المجلة ورقياً، هذه ناحية أساسية طبعاً، أيضاً الثقافة العربية على مستوى المؤسسات لا تحظى باهتمام جوهري، وهذه مصيبة حقيقية، انظر إلى وزارات الثقافة في العالم العربي، هي أفقر الوزارات على الأرجح، وهي مصنوعة لسد فراغ ديكوري أكثر مما هو إيمان حقيقي لجعل الثقافة رافعة طليعية، لأي مشروع نهضوي، وهذا انقطاع واضح عن ماضٍ مشرف للثقافة العربية بدايات القرن حيث كانت طليعية أكثر من بقية مناحي المعرفة السياسية في قيادة مشروع النهضة.
– في شعرك عموماً ثمّة حوار مع أسلاف موتى وأساطير، وثَمّة حساسيّة جماليّة لعالم الروح، يظهر هذا في ديوانك الفاتن (جبال).
– ديوان (جبال) الذي اعتبره الصديق الكبير الراحل سعدي يوسف انعطافة في مساري الشعريّ، كان الديوان الأول الذي أكتبه في أرض وطني عمان.
ما سبقه كتب في مدن وبلدان أخرى عربيّة وغير عربية، حيث عشت ما يناهز الـ 20 عاماً خارج عمان من غير عودة.
هذه المنطقة الشاسعة للشتات هي مشتركي الفلسطيني الوجودي الأهم، فالجبال التي كنت أستعيدها عبر الذاكرة، والحنين إلى الأرض الأولى، ها هي تحاصرني من جديد، واقعاً وحياة.
ربّما بكثير من العتب والملامة على هذا الغياب الطويل. أنا الذي وُلدتُ بين أطواقها ومجرّاتها اللّانهائيّة
هناك رحّالة إنجليزي وصف عُمان “بأنّها إمبراطورية الجبال”.
– كتاب (بومة منيرفا) حطم الجسور مع الأجناس كافّة، إلى أيّ حدّ تصنع أساطير بلا قوّة الشعر ودلالته الكونيّة؟
– منذ بداياتي التي أصبحت من النّأي بمكان قصي، العام 1981 في دمشق نشرت أوّل ديوان كنت مأخوذاً إلى حد ما بعدم الانتباه إلى الحدود والتصنيفات الصارمة للأدب والفنون والشعر، لكن بعد سنين وسنين، تجلّت هذه النزعة أكثر، فصارت الإصدارات مداراً تعبيرياً مفتوحاً على أكثر من نوع، وعاصفة ومسار، ما يمكن تسميته النصّ المفتوح أو أيّ مصطلح لا أعرف على وجه الدقّة!
لكنّ هذا المجال التعبيريّ يلبّي حاجة روحيّة عطشى إلى التعبير من غير قيود وتنظيرات مسبقة.
كتاب “بومة منيرفا” هو ليس ديواناً شِعرياً بهذه الحرفيّة التي وردت على غلاف الطبعة الثانية في سلسلة قصور الثقافة بالقاهرة، بل هو أقرب إلى نصوص الرحلات والمقالات الفكريّة ذات النزوع الشعريّ بالضرورة، بالنسبة لشخص رؤيته للوجود شعريّة بالدرجة الأولى.
والأسلاف الراحلون بأساطيرهم وخرافاتهم، هم الذين خلعوا علينا لا شعورهم الجمعيّ، فصرنا تائهين في شظايا الأمكنة، لكن ليست الصحارى، والجبال الجرداء، والربع الخالي، بل في المدن الحديثة، والهجينة على مستوى الحداثة أيضاً، بل في المدن الحديثة بالمعنى الحقيقي، والهجينة اللقيطةِ على مستوى الحداثة أيضاً. لا بدّ أن نهدِّئَ هياجهم، أي الأسلاف، في الأجداثِ ونؤنسنه بالحوار ومحاولة التواصل معهم عبر الكتابة والخيال.

*المقال منشور في صحيفة الأيام بتاريخ 21 مايو 2024