تلك البسمة التي فيها من العطف والحنان، ما يستهوي الملائكة بالبكاء.
(نيتشه)

إلى أمي:
وهي فيِ قبرها تنام
كان الطفل يمضي مع أمه في ظلام القرية الذي غاب عنه القمر فصار يشبه ظلام الرحم في غزارته ورقته، حين انعطف بهما الطريق نحو مقبرة (الجيلي) التي علقت بمخيّلته وكأنها تلخيص بالغ الكثافة للكون بأكمله.
لم تكن تلك المقبرة رغم عزلتها الغامضة، تشي بوحشة قاتلة، فقد كانت الأرض الرَطِبة وأشجار الغاف والسدر المستطيل على أديمها يخففّ من وقع هذه الوحشة، وربما يمنح الموت بعداً حالماً، رغم حكايات الأشباح والسحرة التي تعج بها القرية حول تلك المقبرة التي لا تشبه المقابر الأخرى من حيث الموقع، فتلك كانت على تخوم القرية ومجدبة تماماً. أما هي ففي وسطها وعلى قدر من الإخضرار.
تململ الطفل حين رأى الأم ينتابها الفزع لكنه تظاهر بالتماسك قائلاً ]في صدري ثلاثون جزءاً من القرآن وهي كفيلة بحمايتنا[.
كانت حِدأةٌ تحلّق في الفضاء، مضيئةً بطيرانها السريع دوائر الليل المتلاطمة، كالإعصار، ثم تنقض على جسم يخدع في زاوية من منحنيات شجرة السِدر الفارعة.
* * *
كيف يمكن حلّ هذه المفارقة الكبرى في الوجود:
أن تهيل التراب والحجارة على جسد من تحب.. بيدك؟ بيدك أنت لا غيرك، التي كانت قبل قليل تلامس الجسد المفّعَم بالطهارة والحركة، حتى يختفي بكامل هيئته وبهائه تحت طبقات الأرض التي تستقبله ببرودِ مكرٍ هادئ، حزين، من فرط ما استقبلتْ من أجساد وأضرحة في عمرها المديد، لتضيفه إلى ذاكرتها البرزخيّة الهرمة..؟
أية مفارقة؟
أي سر يحفر عميقاً في الروح محتدماً بعنفه ودمويّته وعبَثه…؟
كل الأساطير الكونيّة والخيالات والاستيهامات، كل النتاج الفلسفي والأدبي المتراكم عبر العصور في هذا المضمار، لا يمنح قطرة ماء لكائن تشقّقت شفتاه من الظمأ، ليس إلا محاولة مرتبكة للاقتراب من عرين هذا السّر الذي يتدفّق حيويةَ ونضارة أمام شيخوخة الأرض والتاريخ، والنبات والبشر..
* * *
يقيناً لم تعودي تشعرين ببرد (المكيّف) ولم يعد الضوء المتسللّ من النافذة يجرح عينيكِ الذابلتين، ولا صخب الأطفال، والممرضات في المستشفى..
آخر مرة زرتكِ فيها، جلستُ على حافّة السرير، كان يمام يتقافز على الشرفة وكان وجهك المليء بالنور، النور المرهَف الصافي، يقول سمتَ وداعه الأخير.
قلتِ لي ]عليك أن تذهب لديك طريق طويل[.
ومرة وكنتِ لتوّك قد أفقتِ من الغيبوبة ]أين أمك وفي أي مكان تقيم، هل هي بعيدة من هنا؟[
أطياف الخارج من ظلمة الغياب حيث نجمة هائمةُ في آخر الأفق.
لا أستطيع أن أسأل عن حياتكِ الجديدة وماذا تفعلين حين تستيقظين في الصباح، ومن هم زوّارك الجدد وبماذا تحلمين، وكيف طعم الفصول هناك؟
لا أستطيع لأنني لم افقْ من صدمة الفراق بعد. والدمع يقطع عليّ كل طُرُق التذكر. الدمع المحتقن في المآقي والأعماق أشرق به، أكاد أختنق فلا أستطيع التذكر والكتابة والسؤال.
في تلك الليلة، كيف سرى معراج روحك إلى ملكوت خالقه، إلى جنّة الرب؟
ها أنا أسأل متعثراً بديمة الدمع كالغريق.
* * *
البحر أكثر وحشةً هذا المساء
البحر القاحل كصحراء
الممتطي صهوة الغياب.
على الذروة ينتحب ابن آوى
في المنظر البحرّي للغروب..
أجراسُ ثقيلة
أجراسُ ثكلى تبيد السمع،
من أين تأتي هذه الجلَبة
في قلب هذا الفراغ الكاسر؟
الجَمال في مغيبه الواقعيّ
الجمال المضطرب بين ليلٍ وبحرٍ
ينير جبالاً ووهاداً
وينير الأبديّة
أسمع نداءها السرمديّ
على الظباء المسفوحةِ
في منحنى النهر
تستجير الآلهة التي اختارتْ
عزلتَها عن البشر.
الجيوش تزحف على المدن
المحاصرة
القنابل تهمي كالليل الجارفِ
بمجرّاته وكواكبه لتحيل المشهدَ
إلى هباء وأضغاث رماد.
حشرجة كلاب ضالّة
الكلاب التي انفجر قلبها من النباح
مذبحة الليل القاني
أعيشها ليلَ نهار
في النوم واليقظة..
وهناك نعاج افترستْ رعاتَها
واندفعتْ في الضوء الصاخبِ
نحو الربع الخالي.
أجلس في مواجهة البحر
وحيداً
تحفّني مواكب المياه والسديم
يوم كان العالم
في طفولته الأولى
لا يعرف سكيّن الجزّار
ولا انشطارَ الذرّة
ولا يعرف الطبقات
يوم كان حلماً في ذاكرة الغيب
وقِدماً من غير سقفٍ
ولا أزمنة.
أجلس على الرمل المصبوغ
بدم السُلالات
تلك التي مرّت من هنا
على السُفن الشراعيّة المثلثّة
أرقب البواخر العملاقة
ترمي فُضُلاتها على المياه العربيّة
أرقب النجمَ المرتجفَ
تحتَ ظل القمرِ الطالع بحشوده الضوئيّة.
الأبديّة ترعى ظباءها
في السديم
الأبديّة النازفة
تحت شرفة القرصان.
ثغاء ماعز في الطريق
ديكة تطير بأجنحتها في الأحلام
الليل بثقله ينزل على المكان
يحمل النعشَ والنجومَ
وبيديّ هاتين
حملتُه إلى بيته الأخير
وقبل ذلك
حملته في البلدان والقاّرات
في هبوب العاصفة
وأعماق البحار
في حلقات الذكر والسياسة
واجتماع الطلاّب
حملتُ وجهَك الناصع بالحياء والصدق
تميمةً لأيّامي
بوصلةَ لغموض الطريق
امتلأتُ بموتكِ قبل أوانه
تشرّبته وأنت تتنزهين
في بهو المنزل
وروابي الأفلاج.
كان ذلك من شدّة خوفي
من فرط ما حدّقت في سماء
المغيب
حدْسَ ضياعِ
وشحوبَ مصير
البحر أكثر وحشةَ هذا المساء
النوارس انطفأت في الهواء المحتقن
كنذير قيامة
الجَمال على موعد مع مغيبهِ
الجمال الأكثر عزلةَ من متاهة
من نعش نحمله على رؤوسنا
على قلوب تُكابر مصرعَها
في ليل القرية القاسي
بين الأطواد الهاذيةِ بالنيازك.
لكن المشيئة
المشيئة وحدَها
تجعل الطريق أقل هولاَ
وتجعلنا نفكر في نعشِ لا مرئيّ
يحمله الدهر
وجنوده الأيام.
* * *
حين كنا صغاراَ، كنا نلعب بين القبور، وكانت الفراشات وجراد المقابر يطير بمرح كأنه في حديقته الغنّاء، كنا نمتطي الضريح ونمسك بالشاهدة كلجام خيل أو حمار، نركله وكأننا نمضي في الطريق المألوف للمارّة والسابلة.. حين كبر الأطفال قليلا تركوا هذه العادة المشينة..
صار الطفل يتأمّل القبور برهبة، القبور الحديثة العهد والعتيقة التي يتخيّلها تملأ فضاء الأرض كالنجوم في السماء.. يتأملها ويتخيّلُ كل من يحب يتمدد داخلها وكأنه في قيلولة..
* * *
يوم كنا حلماً في الظلام البعيد
كان النسيم الأكثر مرحاً
ينفض الشجرَ على سطحِ
المقابر والأجداث
يغسلها بسحر حنانه العميق
كانت السُلالة تقترب
من زهرة المصير
السُلالة المترحّلة في الظلام
التي وُلِدتْ من ظلّ غمامةٍ
أو معراج شجرة
نخلة أو أراكة في الهضاب
من سطوع النجم
فوق السهولِ الحاضنة للقطا والنمور..
يوم كنا حلماً في خَيال الأمّهات
كان الموت أكثر رحمةً
وكانت الحياة…
* * *
كانت الجيف والجلود المسلوخة تُرمى على المقابر، وكذلك الكلاب والقطط التي صرعتها النسور الضارية التي لم تجد ما يلجم جوعها واندفاعاتها نحو التهام أي شيء يقترب من مناطق بصرها الثاقب. حتى أن بعض الصخور، وُجد على متنها علاماتِ مناقيرها القاصمة.
في هذا المناخ الكابوسي الذي يعكر صفو حياة الموتى وهدوءهم ويربك أحلامهم التي تتواصل مع أحلام من سبقوهم في جوف الأرض السحيقِ ببشره وأسماكه وحيواناته..
فكر الطفل في نومه، أن الموتى سيخرجون، ذات ليلة، من أجداثهم، محتلّين القرية وشفاههم تزبدُ بالصراخ والاحتجاج على ما آلت إليه الأمور، التي لو كانت مستقيمة لكانت كرامة الموتى من كرامة الأحياء…
وفكرّ فيما يشبه رؤيا المنام لمجنون القرية الذي يأتيه كثيراً في نومه، أن تدهور أحوال القرية والجفاف وقلة الرزق والصراعات التي تمزق أوصال أواصر الناس وأخلاقهم، ليست إلا عقاباً أنزله الموتى بأهلهم الأحياء وجزاءً من الغضب على سحق مشاعرهم بهذه الصورة، تحت التراب.
* * *
الزهرة التي قطفتها لكِ (داليا)
من بين الأنقاض
بقيت على الطاولة
تحلم بالعناق
زهرة البنفسج
التي كانت تسكب رحيقها
على شمعة جوار السرير
أو على المخدّة،
لتهدئة الأعصاب..
حين صحوتُ
في منتصف الليل
سمعتها تهذي
صوتها يرتفع في هستيريا
كأنها تحدّس بأمر ما..
كان طائر رحيلكِ
يصدح على الأبواب
* * *
بيدكِ الرحيمة
تعهدّت الزرع بالنموّ
وأيامنا بالإخضرار
بحنانك الأكثر شساعةَ
من محيط.
في الصباح الباكر لفجرٍ نديّ
يستيقظ الملاك الحارس
ليرعى أطفاله ويتاماه
في الشدائد والأعياد
والليالي الأكثر غِلظةً للألم
الجميع ينتظر بهاءَك الميمون
البشر والحيوانات
الطيور المذعورة في أعشاشها
ينتظرون البشرى
لأن الروح
يبسط رأفته على الجميع.
* * *
فلسطينيّة الشقاء والتضحية
لا يهدأ لك بالُ
إلا حين يفك القدَر أغلالَه
لتنتشر الغيوم على ظهر البيادر
والنساء من قبضة الجلاّد
حتى يبتلع الجحيم مجرميه
وينعم المؤمنون بالحريّة..
* * *
الباكون كثيرون حولي
على الإخوة والأبناء والأحفاد
على الأمهات والشعوب
التي تُباد تحت جبال الحديِد
الهائجة في كل اتجاه
تحت المعطف الأنيق للحضارة
صراخهم يملأ الفضاء باللعنات
بالأمل القاتم للغد
بأفق السواعد الصُلْبة
التي تربت في النَبذ وأحزمة الفقر
بشغف التراب
وكبرياء الحب
على فسحة البحر المحاصرة
الأرض التي ترحّلت في المنافي
والجراح
مثل عصا الأعمى وسط ظلامه الغزير
الأرض التي يجثم على أديمها البرابرة
قادمين من كل بقاع الأرض
نفاية تاريخ
وخلاصة انتقام
الباكون كثيرون حولي
]فهذا كله قبر مالكِ[
الذي وسع أمة بأكملها
تتمدد في بطنه الكبير
مطالبةً بالثأر
* * *
كان مجرد الإحساس
بوجودكِ في هذا العالم
حتى لو كان ما يفصلنا
عدد من السنين الضوئيّة
وأرخبيلات من المجازر والأنقاض،
كان كافياً لشعوري بلمسة الملاك
الحانية
بالمركز وانبلاج الصباح العاشق
بأريج الزهر وسط خرائب المدن.
لكنك رحلتِ
بعد أن انتظرت الغائب
الذي لا يأتي
بعد أن ناء الجسد
بأعباء الروح
بعد أن نُحرت اليمامة
على باب المسجد
وسكت الهديل..
لأن الروح لابد أن ترحل
أن تترك الموكب
للوليمة والغبار
لنسل الأبالسة والفريسييّن.
لابد للروح أن ترتاح.
* * *
وجوه عابسةَ
وسماء أكثر عبوساً
بضرعها المعدنيّ الجاف
أرضِ البراكين الخامدة
التي جَـلَـدَتها عبر العصور..
الهاجرة في أوجها
حين انهمر الغيث على
قبر الحنونة ومضى.
* * *
لن تمحل الأرض
لن يهرب السحاب
لن يعم غضب الرب
لأن الأرض التي لامستها
أناملكِ القدسيّة
لن تهجرها البرَكة.
* * *
أيتها الكريمة الحنونة
من يعين الابن
على وحدته وشتاته
على الكوابيس الهائجة التي ليس لها
من قرار
الابن الذي يسهر مع الكتب والعظايا
والبعوض
العظايا التي أصبحت
تؤنس وحدتي
وتذكرني بماضيها البعيد
حين كانت حيوانات عملاقة
]كيف ضَمُرت إلى هذا الحد؟[
أيتها الغفورة الحنونة
التي لا ينضب نبع غفرانها
الهاذية بأسماء الله الحسنى
عن وَجْدٍ ومحبّة
من يعين الابن المرميّ على قارعة
العالم
حيث لا موت ولا حياة
حيث الكراهية دليل الأعمى
نحو الجحيم..
أيتها المزدانة
بالحضور والغياب
أنا الذي لا أجرؤ على القول
(بعد غيابكِ)
لأنني الآن امتلأت بنورك أكثرَ
بحلم اللقاء في تخوم الأبديّة
لأنّ اللقاء هنا
كان مطعوناً
بثقل البشر وفظاظة المكان.
* * *
هذا أول صباح
يطلع على العالم من غيرك رغم المرض الذي أرهقك أشهر وسنوات، ظلت جذوة روحكِ متقدة، الأمومة والخوف الذي تستشعرين دائماً تجاه الصغير والكبير. ظلّت حواسك يقظة لا تهدأ، لم يكن الموت هاجساً لك.
الحياة التي تصفينها برحلة الاستعداد نحو الآخرة. كان خوفك عليهم وعلى المصير الذي ينتظرهم.. العطاء من غير انتظار مقابل، سيرورة حياة، عادة وجود. العطف والشفقة والرحمة من بين شمائلكِ الكثيرة؛ وأنا حين أشير إلى بعض صفاتك، ليس سوى وضع الأسماء والعلامات الغاربة عن العالم، على ألمي، وضع اليد الحانية على الجرح الطري الذي سيّظل كذلك..
هذا أول صباح يطلع
صغاركِ سيفتقدون العيديّة والهدايا الصغيرة، لكن بعد قليل سينسون كالعادة، أما أنا فكيف أنسى الصَدْع  الفاغر في كياني كالهاوية؟ وكيف أستطيع ارتكاب ذلك بعد خيانتي الأولى بانفصالي المبّكر ورحيلي.. ربما لأن المحبّ من فرط حبه وخوفه وارتباكه لا يرى حلاً إلا بالانفصال عمن يحب كي يمتلئ به أكثر، وهو ما طبّقته بشكل لا واع ومتطّرف حتى أصبحتُ لا يقر لي مستّقر ولا قرار.
حضورك مقدّس وذكراك صلاة وملاذ في عالم الاستهلاك المقيت واللاجدوى. كيف لي أن أمشي على الأفلاج الجافة التي كانت تطفح بحنانكِ (بالأمس كنتُ أتطلع إلى النخل يصرعه الجفاف كما تصرع الحروب بني البشر)، حين  كنت تحملين على رأسك الماء، تسقين به الزرع والنباتات التي انقرضت وتسقين الحيوانات الضاجّة في زرائبها.
نظرتك التي تشمل الجميع، الحاضر والغائب الموتى والأحياء، بالرعاية والحب المتدفق الذي لا ينضب له معين.
* * *
هذا أول صباح
الصيف يزحف
الفرائص ترتعد حتى الإغماء
هولاكو على مشارف المدينة.
الجنرال المتوّج بالنصر
الجنرال المهيب
سيغرق بعتاده وجنوده
في نهر (ستيكس) الهادر
كي يختبر غضب الطبيعة
وليس البشر البائسين
الذين قضوا تحت
حوافر الخيل..
لم أحظَ بنعمة التوقّع
لربيع قادم
تزهر فيه الأشجار
ويخضرُ العاشق
بين اللهفة والأريج.
ولأنني جندّيِ مهزوم
هرب من براثن هولاكو
وما زال يمعن في الهروب
رغم أنه لم يتخل عن الحلم
بجولاتٍ أخرى
تدور فيها معارك العدالة
على أشدّها
حتى يعانق حتفه
بجوار قبركِ الكريم
* * *
لا أريد أن أرثي
ولا أن أتذكر
أريد النوم على الحافّة (كعادتي)
في بطن نسرٍ، أو على
سرير فاره..
وهؤلاء الموتى يتدفقون
من كل مكان
من الخرائب والنوافذ والقصور
يتدافعون بالمناكب
يحدّقون نحوي بحِيرة وندَم
سعالهم والأنين الليلي لا يتركني
أنام
* * *
كل هؤلاء المحصودين بمنجل الموت
كل هؤلاء الغرقى في الكهوف
القتلى في ساحة الحرب
الذين فتكت بهم الأوبئة
أو ماتوا على فراشهم
بعد نهار بهيج
الشهداء والأبرار والصِدّيقون
الذين مضوا
والذين سيمضون،
أراهم في هذه الليلة المقمرة
كإخوةٍ حقيقيين
وُلدنا من أمّ واحدة
قدموا من كل جهات الأرض
ليجتمع الشمل من جديد.
هذه الأطياف العائشة
في التراب
حيث تسكن الحقيقة.
كان علي أن أبكي أيها الموت
لكني لا أستطيع
دموعي تجمدّت في محاجرها
كالصخر المتحّجر في قعر بحيرة
البحيرة الجافة
التي تهزها رياحك العنيفة
كل ثانية وخلجة عين
لتعطي الوجود
دلالة العَدم القصوى،
أنا الذي ما زلتُ
أشير إلى الجبال والأوابد
بالبقاء الصلب والحتميّ
أمام اندحار الكائن
لكني في مرآة فجرك القاسي
أمام نعش يحمله مشيعون
في ضوء القناديل الشاحبة،
انهارت كل فكرة
أمام جبروتك المتمادي
أيها الفناء.
أيتها الصحراء:
الرواية لا تنتهي عند حد
والحياة انتهت!!!
* * *
كان ذئب يعوي من الوحدة والغضب
فوق الجبل المطلّ على منطقة (الشعاشع) هذه المنطقة أو البقعة من قرية (سرور) التي عليك كي تصل إليها أن تقطع الوادي بشكل طولي لجلب الطعام للدواب والحيوانات.
بقعة خضراء مشعّة، وربما من هنا اشتقاق الاسم، على السطح الصخري المنبسط للجبل الأجرد.. فلن تشاهد بقعة خضراء بعد عبورك هذه الواحة الظليلة التي تقع على حوافها القاحلة مقبرة من مقابر القرية المحاطة بزنار من المقابر والأبراج والحصون..
مقبرة مأهولة دائما بطيور (الرخمة) والجوارح  ومأهولة بطيور أخرى حيث ننصب فخاخنا في الصباح الباكر لاصطيادها.
هذه المقبرة غالباً ما تكون أجداثها مكشوفة من غير سقف ولا شاهدة ولا علامة.
هكذا بادية الجماجم والعظام والأكفان، كأنما ثمة طقس شعائري حتّم أن تكون طريقة الدفن من غير سِتر ولا غطاء، قرباناً للوحوش.
لكن الصحيح أن وقوع المقبرة في سّرة الجبل جعل منها هدفاً للشِعاب المنحدّرة من الأعالي..
على هذا النحو، تبدو الأجسام المتفّسخة المتحللّة في الحُفر، للناظر إلى وجوهها التي بقيت ملامحها متماسكة، في هيئة ضاحكة، حزينة أو عابسة، تبدو على صلة أليفة مما يقلل من هيبة الموت الخرافيّة في تلك اللحظات التي يتجمد فيها الزمن. ويجعل جيش أشباح الموتى ينفجر لاحقاً مع الابتعاد عنها أو في المنام.
الصديق (أبوأحمد العبري) أخبرني أن مقبرة تقع خلف الجبل الأخضر، يدفن فيها الموتى واقفين كطقس متوارث قديماً بتلك المنطقة من العراء بين الشموس المحدقة.
هل هو نوع من عقاب ضمني على آثام ارُتكبتْ في الحياة؟ فهدأة الميت في ضجعته ببطن الضريح، نوع من راحة ومنام.. الموتى الذين ينتشرون في ليل القرى، سائرين في نومهم، يتفقدون ما تركوه من أثر في حياتهم العابرة.
ربما راحة الموتى ليست في جمال المقبرة وحدائقها وأشجارها الوارفة، فهناك أسباب أكثر غيبيّة وتعقيداً، لكن هذا ما يتبّدى في خيال الأحياء. فهذا المشهد يخفف من واقعة الموت التي تتخذ أبعاداً أكثر قسوة ووحشيّة حين تكون في أرض قاحلة، جرداء مجدبة..
المقابر الأوروبية الأكثر بذخاً وأناقةً وهدوءاً من البساتين والحدائق العامة، فكأنها الجنان نفسها التي تحوّلت فيها إحدى الإلاهات إلى خمائل وأشجار وفق الأسطورة كي تُـسعد أرواح الموتى.
مرة كنت أتنّزه مع الصديق الذي رحل هذا العام في حادث فاجعيّ قلّ نظيره إلا في أيام الكوارث والحروب ]ومتى كنّا خارج ذلك؟[.. حيث كان ينتظر قطار الانفاق حين أحسّ بدوخةٍ، هو المتزن الذي لم يشك من أي مرض- سقط على أثرها تحت عجلات القطار الذي سحقه بشكل لا يمكنني حتى محاولة استعادةَ تلك اللحظة الأليمة من طرف قصيّ إلا ويجتاحني الدوار والانهيار..
كنت مع رشيد صباغي، نتنزه في مقبرة (بيرلاشيز) بباريس التي تضمّ في جنباتها المتموّجة بالنعمة والغواية الكثير من أدباء فرنسا.. علق بذاكرتي حديث رشيد الذي كعادته، يمتد ويتشعب وفق قدرته اللامحدودة في الانتقال من مجال معرفي إلى آخر من غير أن يصاب بالتعب وبنفس القوّة.. في هذا السياق كان الحديث حول المقابر وطقوس الموت والدفن والحرق في أكثر من بلد ومكان.
* * *
ريح الجنوب هدأت قليلاً
هدأت ريح الجنوب
لكن القوارب لم تغادر أماكنها
والصيادون بلا مزاج.
طفلة تركض حافية على الشاطئ
تصطدم بالسواري، بالألواح
واللافتات.
تريد أن تقول شيئاً
لكنها خرساء
ريح الجنوب أخرست صوتها.
لم يتحرّك الصيادون
لم تغادر القوارب إلى عرض البحر
من أين بزغت هذه الطفلة الشعثاء
الجميلة؟
هل لفظها البحر
أم انفجرتْ من حلم عنيفٍ لأحد الصيادين
بعد أن هاجمه القرشُ ذو المطرقة؟
الصبيّة تركض في العراء
ترتطم بسماكة الفراغ
فتسقط جثةً هامدة.
* * *
البحر أكثر وحشة هذا المساء
الجَلَبة تبيد السمع والحواّس
من أين تأتي
من أي الجهات؟
نحيب ابن آوى الذي ينزل كالصاعقة
أم صمت اللقالق على الشاطئ المهجور
أم البحر فاض بمائِهِ
فأغلق أنفاس الأرخبيل..
لا نأمةَ
لا نداءَ استغاثة
فراغ مطبِقُ وعويل.