الأحداث تتسارع دوماً، تتسارع وتتكاثف بشكل عاصف حتى لا يكاد يستقر منها في الذاكرة إلا نتف أطياف لأحداث غابرة، رغم أنها نفسها أحداث الأمس واليوم واللحظة..
لا يكاد الحدث في هذا الموكب المندفع نحو هاوية النسيان ، ينبثق في فضاء الواقع وقنوات الإعلام والوعي ويخلق تلك الجلَبة والبريق الكارثي أو ما ينذر بذلك، إلا ويسارع حدث آخر ونازلة أخرى لتدفعه الى التواري إن لم يكن المحو والاختفاء. ليتصدَّر الجديد المشهدَ ومساحة الخطاب بثاً وتحليلاً واختلافاً بين متصارعين واقعيين وافتراضيين… يرفس الحدث الآخر ويزيحه في هذه السلسلة اللامتناهية من وقائع الحياة البشريّة، أو من هذه المسخرة الأرضية العابثة بالمصائر والتوقعات.
أحداث ووقائع سياسيّة واقتصادية، اجتماعية ، وثقافية.. السياسية طبعا هي محل الصدارة والسيادة والهيمنة وبصفتها التعبير المباشر عن الصراع الاقتصادي، كما أن الحرب المسلحّة هي التعبير والاستمرار المكثف لصراعات سياسية وعقائدية، أخذت منحى العنف العاري وأدواته وفصاحة هذه الأدوات التي يحل صليلها محل أدوات الخطاب وصليله، حيث يبقى هذا الأخير تابعاَ وشارحاً جلبة المذبحة وصراخ الضحايا والأبرياء، مسوّقا كل طرق شرعيّة القتل أو “الشهادة” التي يقوم بها ضد الطرف الآخر من أبناء جلدته وعائلته وقضيته في الحالة العربيّة الراهنة وجوارها القريب.. أو ضد عدو فيه من صفات الوهم والاستيهام أكثر من تشخيص الواقع والحقيقة.
يتصدر الحدث السياسي بهذا المعنى ونوازله التي تتناسل في لحظة لتحتل الساحة كاملة أو شبه كاملة، إذ، تتراجع الأحداث الاجتماعيّة على شاشات الفضاء وصفحات الصحف بكافة أنواعها دعك من تراجع (الثقافي) حدّ الطرد والإمحاء والتلاشي، فمهما كانت الأهميّة الجوهريّة في تناول الشأن البشري المأزوم والمستهْدف في أعماق وجوده المادي والمعنوي.. مهما عظم شأن الحدث الثقافي والفني الحقيقي لا يمكنه أن يحتل إلا أطراف المشهد الإعلامي وحواف اهتمامه وبالتالي اهتمام المتابعين والمتلقين. ومهما صغر شأن (السياسي) لابد أن يرتفع الى سدة الواجهة والاستئثار وهو لا يمكن إلا ان يكون صغيراً في بلدان لا وزن لها على صعيد التاريخ بكافة صُعُده، إلا ما يريد (الآخر) القوي أن يلبسه لها ويخضعها لمنطقه، وهي في معظم الأحوال ، ترفع رايات الانتصارات المجيدة لمنتجها الوحيد من مذابح لا تطال، غالباً ، إلا الأخوة والأقرباء، في رقعة الأرض المشتركة، وما يتبع ذلك من خراب وفقر ومن ضغائن وأحقاد، لا تمحوها الأزمان بسهولة كما تمحو الصورة الأحداث والنوازل واحدة بعد أخرى بذلك الشكل السريع.
تبقى أطنان الخطابات المسوّقة على نحو مخيف وكابوسي لفرقاء تلك البلدان التي يراد لها أن تكون خالية من الوزن الحضاري والمعرفي والانساني وأن تستمر .. يبقى ذلك التذاكي والتفاصح والدوران في خواء الكلام وفراغ اللغة المُهانة والمعذَّبة مثل بشرها.. علامة الانحدار الأكيد..