من عبارة الغياب ((كانوا هناك)) تبدأ مجموعة الشاعر العماني سيف الرحبي الأخيرة ((يد في آخر العالم))، وهي في الوقت نفسه مفتاح السرد وبوابة الحكاية المتداخلة والمتشابكة ومشرعة الاحتمالات النصية، فالشاعر يعلن منذ المفتتح نفسا طويلا هو نفس القص، والدخول في الماضي السحيق غالبا. والممتد الى الحاضر بعمق حضوره وقوته الغيبية، ماضي الجماعة والاجداد والسلالات، وماضي المكان والجغرافيا على حد سواء. يعلن منذ البداية نفسا استرجاعيا لا يخفي انكساره، وهو يقف وجها لوجه مع الغياب، غياب اولئك الذين ((ذابوا في هباء المغيب)) وتحول حضورهم المعذّب اسطوريا، طيفيا أو سجيا، لكنها الحكاية تجسدهم وتقيم لهم حيوات أخرى، استثنائية في الوقت نفسه الذي تحاول التخلص فيه من عبء حضورهم/ غيابهم، حضورهم في الغياب، أو غيابهم في الحضور، لا  فرق.

لمناسبة زيارته الاخيرة الى بيروت وصدور مجموعته ((يد في آخر العالم)) كان هذا الحوار مع الشاعر سيف الرحبي.

 ديوانك الاخير ((يد في آخر العالم)) يأتي بعد نحو عشرة كتب على امتداد فترة زمنية طويلة نسبيا، ما الذي تعتبر انك اضفته الى تجربتك الشعرية في هذا الكتاب؟

يأتي الكتاب في سياق تجربتي الشعرية الممتدة في الزمن نسبيا، امتدادها في أمكنة مختلفة وربما تضرب ايضا في مشارب ومرجعيات مختلفة ايضا، لكن ربما صوت واحد يوحدها في اللغة وفي استشفافات المعنى، فهذا الديوان من حيث الموقع المكاني والزماني يتموضع في المكان العماني تحديدا، هو والديوان الذي سبقه الموسم بـ((جبال)) وكتابات شعرية ونثرية أخرى لم تصدر بعد، بداهة يحاول الشاعر او الكاتب أن يطور تجربته ولغته ويدفعها دائما الى أفق يتوسل نوعا من الاختلاف، وبداهة ايضا ان تتطلب المسألة نوعا من عزلة ووحشة وتأمل في العالم والبشر والمكان.

 

سمة صدامية

  شعرت خلال قراءتي النص الطويل الذي يتكون منه الكتاب، وحيث تتداخل سيرتك الذاتية مع المكان وتاريخ السلالات، شعرت بنوع من ((تصفية الحساب)) الشعري مع هذا التاريخ والمكان.

طبعا هذه المطارح السلالية والمكانية الضاغطة على الذهن والاعصاب والجسد تستفز المخيلة لتخوض معها نوعا من تجربة قاسية، ذات سمة صدامية بمعنى آخر هناك نوع من المساءلة القاسية لها عبر الشعر، وايضا نوع من التطهر من استحواذها وسطوتها على الذهن والمخيلة المتعبين بالضرورة من ثقل هذا التاريخ وهذه السلالة وهذه الاماكن التي توغل في قسوتها دائماً.

نشعر في بعض نصوص النص بأنك تحاول أيضا قول شيء خارج الخصوصية العمانية، شيء عربي ربما.

هو النص الذي تشير اليه، وهو النص المركزي في هذا الكتاب ربما يتوسل الانطلاق من مشهدية مكانية معينة بمعالمها وسماتها وعناصرها المختلفة،ويخوض نوعا من الصدام معها، لكن لا يبقى أسير اطارها المحدد، وانما يمتد عبر سياق التجربة الحياتية والشعرية الى اماكن ومضارب العرب المختلفة وحالاتهم التي لا داع لذكرها من فرط وضوحها، ويمتد ايضا الى حالة العالم والاشياء بصورة عامة.

قلنا ان تجربتك الخاصة، وسيرتك الذاتية تتقاطعان في أماكن كثيرة مع العالم.. هل تعتبر هذا التقاطع الزاميا بطريقة ما في الشعر؟

الشعر ينطلق من حالات خاصة، ومشاهد وتجارب وحيوات خاصة جدا، لكن هذه الحالات مشتبكة بالضرورة بعناصر التاريخ والعالم المختلفة.

ولا أرى لزاما على الشاعر أن يخوض في نقاش أضحى مردوده ضئيلا، ان لم يكن عقيما، حول جدل الخاص والعام والذاتي والموضوعي.. الخ، حيث ان هذه العناصر بداهة مشتبكة ببعضها بشكل لا فكاك منه في التجربة الشعرية والكتابية كما هي في الحياة لكن بصورة مختلفة. فمن المستساغ لي شعريا أن أؤرخ للحظات خاصة حميمة، وأن انطلق من نوع من سيرة ذاتية داخلية، لكن هذه المسألة كما أراها عندي وعند آخرين من مجايلي لا تنغلق على ذاتها بهذه الطريقة او تلك وانما تدخل في مناطق الكتابة المتورطة في التاريخ وفي التجربة الحية بشكل صميمي وجارح.

تحدثت في البداية عن مرجعيات شعرية أثرت في نصك، والنص نفسه يفتتح بالكلام على الهاوية والعتمة… ((الهاوية)) التي هي ربما اختصاص بورخيس.. هلا حدثتنا عن هذه المرجعيات؟

قبل المرجعية القرائية، او قبل المكسب المعرفي اللاحق، فتحت عيني لأول مرة في مكاني الولادي على خلاء مرعب،وعلى متاهة لا محدودة من الصحارى والجبال والبحار المتاخمة لبعضها في متاهات لا نهائية، هذا المشهد ظل يلاحقني انى ذهبت وشكل نوعا من المرجعية الأولى والمهيمنة في
التجارب الشعرية والكتابية اللاحقة. دائما تتغذى الكتابة من هذه الصحراء الشاسعة لتقول لاحقا ما تريد قوله، وفي السياق نفسه تأتي المرجعيات المعرفية والقرائية التي تغذي وتوسع هذا النسغ الأول للتجربة وللمتاهة التي تأخذنا الى البعيد دائما، والمتاهي دائما.


 

تأثرات

  حسناً، لكن اضافة الى التجربة الذاتية والحساسية الداخلية هناك تأثرات نصية او شعرية او كتابية..

هناك ايضا في هذا  الكتاب بالذات، وربما نثارا في كتب سابقة مجموعة عناصر وشخوص مستعادة من المكان العماني لتطرح اشكاليات تتمحور حول هواجس الشخصية والوجودية التي أعيشها في اللحظة الراهنة. فمثالا الصحراء والربع الخالي هما بؤرة انطلاق من تلك المتاهة المحددة الجغرافية نحو العدم الكلي للكائن وللأشياء في عبورها السريع الى الزوال. وايضا شخصية البحار ابن ماجد استحضرتها لا لفحوى بطولاتها ومعارفها الخارقة كما هو شائع، وانما لارتطامها بالخسارة، وهكذا استحضار تلك الاماكن والشخوص ليس لذاتها، وانما ايضا لتقول شيئا آخر من الهواجس والانشغالات التي نعيش.

هناك اشكالية تدور حاليا حول الشعر وتراجع مكانته في العالم، وانت تكتب قصيدة النثر في مناخ جغرافي واجتماعي لا يتقبل بسهولة هذا النوع من الكتابة.. ألا يشكل هذا الأمر مفارقة بالنسبة اليك؟

أغامر بالقول ان هذه المسألة كمسائل أخرى شاقة في الحياة البشرية وانشغالاتها الاستهلاكية والسطحية الكثيرة، وخاصة في مجتمعات خليجية ذات نمط حياة معين وايضا عربية تعيش كل هذا الكم من التسطح ومن الانكسار ومن فقدان الأمل الحقيقي.. أغامر بالقول انه لابد من خوض هذه التجربة والتصميم عليها شرطا وجوديا للاستمرار بمعزل عن تلك القطيعة السائدة، اضافة الى مسائل وممارسات اخرى تتعلق بالسمو الروحي والفكري على ما أشرت، أغامر بهذا القول ليس لأني مليء بالامل وبالاحلام الكبيرة بتغيير البنى القائمة، فتلك سذاجة وربما ادعاء واضحان، لكن من باب تصور ان العالم لا يمكن ان يعاش بدون اجتراح تلك المناطق الجمالية والروحية في الشعر والعاطفة والعلاقات والحياة بصورة عامة.

في اطار المغامرة نفسها تعكف منذ خمس سنوات على اصدار فصلية ((نزوى)) الثقافية، وهذا أمر يطرح ربما نوع التحدي نفسه الذي تطرحه الكتابة الشعرية..

المجلة ربما تدخل في اطار هذا التصور أو هذا الطموح الذي أراه ضروريا لاستمرار الحياة بمعنى ما، وطبيعي انا بجانب الكتابة الشعرية اشتغلت في مجلات وصحف كثيرة طوال ما يربو على العشرين عاما. وحاولت الاستفادة من مجلات صدرت سابقا وبما يتلاءم مع الشروط المكانية والثقافية للمجتمع العماني، فالمجلة تصدر من داخل المجتمع، وهو مجتمع ليس من السهل ان يتقبل مجلة كهذه، وبهذا المستوى من الشروط الفكرية والجمالية او الثقافية بصورة عامة. حاولت المجلة استيعاب هذه العناصر بدون ان تقدم تنازلات تدمر طموحها في أن تكون مجلة جيدة وايضا بدون ان تتحمل تبعات طموح كبير معبأ شعارات واحلاما ليست من باب قدرتها او تصورها.

غالبا ما تنطلق مجلاتنا الثقافية العربية من مشروع أو عنوان كبير يكون بمثابة الرافعة للمجلة.. هل تستطيع القول انك تخوض تجربة ((نزوى)) انطلاقا من طموح كهذا؟

لا أستطيع أن اطرح حيثيات مشروع معين، لكني كتبت في أكثر من افتتاحية عن بعض التصورات على الصعيد العماني والعربي، وعلى صعيد الاستفادة من الانجاز العالمي الضخم، من غير أن تتحمل  المجلة تبعات كلمة ((مشروع)) أو ((بيان))، لا أعتقد أن شروط الزمن القائم في حاجة الى كثير من ادعاءاته، وأي مجلة أو مطبوعة من خلال تقدمها في طرحها وشرطها الثقافيين تعطي الفكرة عددا بعد عدد بشكل واضح.

المستقبل – بيروت  – 9 اغسطس 1999م