صدام الزيدي

في كتابه الصادر حديثًا، استمرارًا لمنجزه المكتوب في أدب الرحلات: “رحلة إلى جبال سراييفو” (دار العين المصرية/ 128 صفحة)، يدوّن الشاعر العماني، سيف الرحبي، يومياته في البوسنة، التي يزورها لأول مرة رفقة ابنيه ناصر وعزان وأمهما، حيث تتداعى الذكريات عن خروج البوسنة والهرسك من عباءة الاتحاد السوفياتي، وانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، في سياق كتابة ممهورة بقصائد نثرية تتخلل الصفحات، وترمم انكساراتها، بينما يستكشف كاتب مسكون بالأسئلة، ولا حدود لشغفه بالمكان، تجلياته، وانهياراته، بلادًا خارجة لتوها من حروب دينية وسياسية. كما يتذكر الرحبي مدنًا عربية، وأصدقاء من الأدباء والكتاب العرب أيضًا، متسائلًا في لحظة نشوة، بينما كان يراقب قطة تجول في حديقة منزل مسور مؤجر لهم وسط غابة جبلية عن السعادة، ولماذا لا تدوم: تأتي خاطفة وتغيب طويلًا؛ القطة التي صارت صديقة لعائلة عمانية قدمت من خلف الجبال والبحار والصحاري إلى البوسنة في أعقاب الانتشار المريع لوباء الكورونا.
في مدينة سراييفو، يختار الرحبي وعائلته الإقامة في فندق غير بعيد من الجبل الذي يطوق المدينة، بل هي جبال عدة باتت تعرف، في سياق الكتاب، بجبال سراييفو. وهنا تتداعى الذكريات عن تلك البلاد في الشرق الأوروبي، ومنها بلغراد، التي كان الرحبي قد زارها قادمًا من صوفيا المجاورة في أواخر العهد الشيوعي الآفل، حين كانت عاصمة يوغسلافيا، الدولة الوحيدة التي انقسمت إلى دول عدة.
منذ الوهلة الأولى، يحاول الرحبي قراءة تفاعل البوسنيين عندما يأتي الحديث عن حقبة “الشيوعية الاشتراكية”، وأثرها الباقي على بلدان الشرق الأوروبي عمومًا، فيجد أنهم “لا يكنّون ودًّا للروس”.
الجبال المحيطة بسراييفو، بغاباتها ومتنزهاتها وأوديتها، وهدوء سكناها، وكلابها النابحة في الليل، توقظ في ذاكرة الشاعر الرحالة يوميات صوفيا في أواخر السبعينيات، فيلحظ تشابهًا بين جبل صوفيا المكلل بالغيوم والثلوج، حيث كتب نصه القصصي الأول “تجليات النزهة الجبلية” المنشور في مجموعة “الجبل الأخضر” الصادرة في دمشق، وجبل (فيتوشا) المطل على سراييفو (المدينة).
جبل سراييفو المتناسل إلى ذرى مكللة بالضباب يعود بالذاكرة، أيضًا، إلى لبنان (الغارق في الأزمات والطائفيات) ومدنه المحروسة بالجبال، ولا تتشابه الأمكنة هنا فحسب، بل المآلات، فالبوسنة مثل لبنان خارجة من حروب دينية وإثنية طاحنة بعد انفراط عصر الاتحاد اليوغسلافي، والبوسنة الآن تحلم بمستقبل واعد تتجلى طلائعه في حيوية واستقرار لافتين.
وتتداعى رحلة موازية تجوب الذاكرة وتنبش في أرشيفها الغزير، ففي لحظة صباحية بوسنية مؤثثة بطقس رائع (مع انعدام الحاجة إلى المكيف للنوم) والغيوم مسترسلة في أفق مدينة ليست في حجم المدن الكبيرة الضاجّة، وإن حملت ملامحها، يحضر لبنان في راهن أزماته وأوجاعه: ما زال يرزح تحت كابوس حروبه المتعددة الأشكال والألوان والجذور، برمادها الساري المشتعل القابل للانفجار.
وليست بيروت (ولبنان عمومًا) هي من تحضر بقوة لتهزّ أركان الروح، فثمة دمشق، والقاهرة، والرباط، ومدن في الشرق الأوروبي، وفي الشرق الآسيوي، ولا تغيب عمان بصحرائها وجبالها وذكريات الطفولة هناك عن السياق السردي المكتوب بشغف مأخوذ بالمكان حد التماهي مع أدق تفاصيله، كاهتزاز غصن شجرة في حديقة منزلية، أو حيرة غيمة توقفت في كبد السماء لتقول شيئًا يصعب تفكيكه بالكلمات…
ومثل ذلك تحضر حروب البشر الضارية إلى الواجهة فتفسد “هناءة” لحظة التقاء مع الطبيعة في ضوء النهار، أو تحت قمر سراييفو الحالم في شرفات السماء، فنقرأ إشارة إلى الوجع العربي الدامي في اليمن ولبنان وفلسطين وسورية وليبيا، وغيرها.
يتقاطع الرحبي مع التقريرية والنمطية التي جرت العادة أن يُكتب بها “أدب الرحلات”، حيث يلزم تقديم إحاطة تفصيلية دقيقة عن المكان: عدد سكانه، حدوده، جغرافيته، مزاراته، فنادقه،… إلخ. فكل هذا يمكن التعرف إليه بضغطة زر من القارئ العادي (والكسول أيضًا) عبر خدمة “ويكيبيديا”، وفي الواجهة الإلكترونية عمومًا، مغترفًا من رصيد معرفي حول منعطفات البلد والمراحل والأنظمة السياسية المتتالية منذ حقبة الشيوعية، وهو الذي قرأ آداب وفنون البوسنة، ولاحقًا ستنشر مجلة “نزوى” التي يترأس تحريرها، ملفًا عن الأدب البوسنيّ. وإن كان لم يلتق بأدباء وكتاب بوسنيين إلا أنه في مسامرته لصاحب البيت (الموقت في غابة سراييفو الجبلية) وزوجته وابنتهما التي تجيد الإنكليزية، يستذكر معهم في نقاش ودي أسماء أهم أدباء البوسنة وأوروبا الشرقية، لا سيما أولئك الذين فرّوا إبّان الحقبة الشيوعية القاسية إلى الغرب منخرطين ضمن الطلائع المهاجرة الباحثة عن أفق الحرية والديمقراطية.
وبشاعرية خالصة، يشتبك مع أسئلة الوجود الكبرى: ثنائية الحياة والموت، الخير والشر، الجمال والقبح، الفن والتدمير، النجاة والهلاك، غموض الأكوان وشجون الكائن وعذاباته وانسحاقاته وتعطشه للدم ورغبة التنكيل بالآخر، وإشاعة الخراب، منذ “هابيل” و”قابيل”، وللأسف، يزداد هذا السلوك المرضي اليوم في ظل آلة الموت، وقدرات التصنيع الفتاكة المدمرة.

“يتقاطع الرحبي مع التقريرية والنمطية التي جرت العادة أن يُكتب بها “أدب الرحلات”، حيث يلزم تقديم إحاطة تفصيلية دقيقة عن المكان”

ويؤنسن الرحبي كل ما تقع عليه العين، من طير وحيوان وشجر وغابة، مستلهمًا ماضيه وماضي المكان، فاضحًا ممارسات الانسان في سلوكه المكبوت وإرثه الدمويّ، مكاشفًا خبايا النفس البشرية المندفعة للهلاك على حساب القيم والمحبة والتعايش. وحتى الغربان المحلقة في سماء حديقة مجاورة، حيث يلعب أطفال الغميضة والاختباء، حالمين بالمستقبل والأعياد، لا بد من استلاف أسئلتها الغامضة الصامتة:
“كم من الجثث والعيون المفقوءة حلقت في هضابها هذه الغربان، وتغذت على أجسادها المجندلة وأحلامها المحروقة”…
وإزاء صرخة الدم التي تُدحرِج خاصرتها منذ الجد الأول المؤسس، وحتى البرهة الراهنة، في سطوع بريقها وزيفها الرهيب، يقتطع الرحبي حيزًا من تفكيره المحتدم في تلك الصباحات والليالي البوسنية المملوءة بشغف الحياة وصيرورتها، متأسفًا على حالنا وتاريخنا، إذ ليس لدى العرب القدماء، الذين على غرار أقوام كثيرة ترى في مرآة الدم والقتال صون الشرف والكرامة، العرف والقيم المتوارثة، وإنما لدى البشر المعاصرين، أيضًا، بشر الحداثة والمعرفة والأنوار، هذه المرآة القبيحة للغاية:
تاريخ الجبال والرعاة والدم يجثم على رأسي
يشاركني السرير والطاولة والنهوض،
يجثم ويتجدد كمقابر مفتوحة تذرو جماجمها ورميمها العواصف على مرّ الأجيال والأزمان.
ويستذكر الكاتب حقبة المنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفياتي، على ما أصابها من تصدع في القيم والسلوكيات، بحيث لا يجد الفرد موطئ قدم وسط الحشود الهاتفة بحياة الزعيم والحزب والدولة، لذلك فرّ معظم الأفراد المبدعين والمختلفين مع نظرية القطيع ومسلكه من فلاسفة وشعراء وفنانين وأكاديميين إلى أميركا وبلاد الغرب ليأخذ حيزه الطليعيّ في سياق النخب والجماهير هناك.
ويلاحظ، في سياق حديثه عن الحقبة الاشتراكية الآفلة، أثر الهيمنة السوفياتية والأنظمة التوليتارية التي كانت تدور في فلكه. هذا الأثر ما زال باقيًا مهما شطت المسافة في البحث عن آفاق جديدة، مثالها رأسمالية الغرب والسوق: ثمانية عقود من القبضة الحديدية التي أطّرت وقولبت هذه البلاد وبشرها لم تُمح بتلك السرعة، مهمًا كان الطموح كبيرًا والأحلام عالية… ومن هنا يذهب الرحبي إلى القول إن سلوك البشر البوسنيين (وأقرانهم في المنطقة) في يومياتهم وتفاصيلهم يذكِّر بتلك الحقبة (الشيوعية) التي تؤرِّخها معظم الشعوب السلافيّة، فهي حقبة سوداء قاتمة رغم كثير من المحاسن والإنجازات، بمعزل عن الحرية والديمقراطية، بل على نقيضها.
ولم يدم المكوث في سراييفو المدينة طويلًا، إذ لا بد من الهرب من صخب المدينة إلى الغابة الجبلية غير البعيدة، التي خضرتها وغزارة هبات الطبيعة فيها، ليست استعاراتٍ وأحلامًا كما في بعض جبال عمان وجبال عربية مماثلة، بل حقيقةً ماثلة تأسر الألباب.
وكيف يهرب الإنسان من دوامة الأسئلة التي تجثم على الرأس وتضاعف من الأرق والكوابيس، مع أنه في الجبل هدوء بعكس المدينة: بيت في قلب غابة، الأشجار المتنوعة اليانعة، ووادٍ ذو زرعٍ ومنابع مياهٍ وفاكهة. هنالك يستأنس الرحالة وعائلته بصداقة سريعة مع قطة كانت تنام تحت شجرة سرو، بمجرد أن رأتهم، ألِفَتهُم، وأقبلت إليهم كما لو كانت في انتظارهم منذ زمن. وهنا يعلق الرحبي في سياق تدوينه لهذه الجزئية من رحلة سراييفو، بقوله: إنها الصداقة من غير ريبةٍ ولا أي حذرٍ وخوف. ويكتشف، أيضًا، أن جميع البيوت المتناثرة في الغابة الجبلية محمية بكلاب ريفية تدافع عنها من هجمات الذئاب والثعالب المغيرة في الليالي المدلهمّة بالصمت والوحشة:
ديكةٌ تصدح في ريف سراييفو
مشمولةٌ بعواء الذئاب
أشجار السرو والبلوط والجوز
تتمايل مع الريح القادمة من جهة الشرق، لتمزّق هجعة السكون
كأنما الغيب يبدأ يبث رسائله
في هذا الهزيع من الليل.

أصدقاء ومدن
ويتذكر الرحبي في غير موضع من الكتاب، أصدقاء رحلوا في ذروة انشغال العالم العربي بحروبه ونكساته، مثل محمود درويش، وسعدي يوسف، وغيرهما، كما يتذكر بحرقة وشوق عديد مدن بصباحاتها وقهوتها ورفقتها، حيث لم تغب عواصم عربية عن البال، بمقاهيها وساحاتها:
آه، كل شيء يذكِّرُ بك يا شام
يا بيروت، يا قاهرة، يا قلبي
المكلوم على هذا الفضاء الشاسع:
المطاعم الأليفة بين العمارات
المقاهي، النساء والحانات
الساحات بالأُصص
والأشجار، بالباعة المتجولين.
وفي الترحال متعة ومعرفة وذكرى، فمن الاسترسال في معانقة الطبيعة والافتتان بها، والذهاب فيها حد النشوة والتماهي، والابتعاد عن أخبار الحروب وما تحمله نوافذ التواصل الافتراضية من البؤس،  وأنباء رحيل أصدقاء هنا وهناك، (مع أن الموبايل الخليوي ظل مغلقًا في معظم الوقت)، إلى الاستئناس بجمال البوسنيات (والسائحات هناك من شرق أوروبا) بطولهن الفارع وزرقة أعينهن الناهبة، إلى احتدام ذاكرة كلما ذهب صاحبها للاستجمام والنسيان عادت لتفتح بابًا استعاديًا (منهِكًا) من الماضي، القريب والبعيد، بوجوهه وقراءاته وأمكنته وحروبه وموروث أسلافه ومدونتهم، إلى التسكع في أفضية الحيرة اللامتناهية، حيث أسئلة الموت والحياة وقلق الإنسان في حله وترحاله، في غابات سراييفو الغامضة، وفي ملاذات لياليها الهادئة حد الرعب…
ويستلف الرحبي من ذاكرته السينمائية الغنية مشاهدات وانطباعات، في سياق حواراته مع البوسنيين، يدور فيها الحديث عن الحرب الأهلية (البوسنية) وتداعياتها الرهيبة، حيث يعلن إعجابه بالمخرج البوسنيّ (المقيم حاليًا في صربيا) أمير كوستوريتسا، لا سيما أفلامه المتوجة بجوائز سينمائية عالمية مرموقة: “أبي في رحلة عمل”، و”تحت الأرض”، و”معجزة الحياة”. الأول تدور أحداثه إبّان حكم المارشال تيتو، حيث الأبّ كان قابعًا في ظلام السجون، لكن الإشاعة تقول لأولاده وغيرهم، إنه في رحلة عمل.
وفي نزهته البوسنية الممتدة لفترة من الزمن المخطوف من تداعيات الكورونا، ورعونة الشتاء الغائب، يحاور الرحبي البشر والتلال والأشجار والغيوم والطير والنهر، مدفوعًا بنشوة سعادة خاطفة وعشق للمكان وشغف بتفاصيله وتآويله، لكن ذلك لن يمنع توارد أسئلة وجودية في كل ليلة وبرهة: سؤال الحياة والموت الذي أطلقه الإنسان الأول في انبلاج حياته الأولى، والذي ما زال متجددًا عبر الأحقاب والقرون، لا يتعب ولا يشيخ ولا يتوارى في الغياب. والسؤال ذاته، لعله يدور الآن في جمجمة القطة (البوسنية) التي أمست صديقةً للعائلة، بينما كانت تلعب – في المنزل المسوّر وسط الغابة الجبلية ـ مع العقائق المنسجمة أكثر في رعيها الأعشاب والحشرات الصغيرة: هذه “الهناءة السعيدة، لماذا لا تدوم؟”:
قطة تغبطها الملائكة والغيوم وأشجار السرو
مسترسلة في فردوس سلامها الخاص، منفصلة عن الكون والمحيط…