د. الهواري غزالي *

عندما اِلتَمَسْتُ من سيف الرَّحبي مرافقته إيَّاي لقرية سرور بسمائل، وارتَضيتُ في خضم نشاطات معرض مسقط الدُّولي للكتاب لهذا العام أن يكون هذا السَّفرُ وجيزًا، أدركت بعدها أنَّي ارتكبت خطأً كبيرًا باستعجالي العودة مساءً، فالبقاء بسرور ساعاتٍ من الزَّمان يشبه ارتشاف الرُّوح لقطعةٍ من الموسيقى قبل أن يعبُر الأذنَ سريعًا رنينُها ثمَّ يمضي من الذَّاكرة إيقاعُها الفتَّان. 

جاء سيف ضحًى وعزمنا الذَّهاب إذَّاك لسرور، وقطعنا تلك الصَّحارى المهيبة حيثُ الجبال واعدةٌ بالقطيعة مع الحياة، ووصلنا كما يصل بحَّار إلى مرفإ تتَّكيءُ عليه وهي في زورقها المتهادي ذاكرةُ شاعرٍ مجروح.

في تلك الواحة حيثُ يتجلَّى تناقض الطَّبيعة، بين جبالٍ جرداء قاحلة ومرعبة تعتلي العين في اغتصابٍ لها وأراضٍ خصبةٍ خضراء وساكنة في انخفاضٍ للقدمِ إليها وتواضعٍ، يبدو الإيمان بالباطنِ أكثر ضرورةً للحدس والعقل والنَّفس من الاعتقاد بالظَّاهر، واعتناقُ البسيطة أولى درجةً من الكفرِ بالكبرياء. وها هي عيني تسقطُ على جداول ماءٍ رقراقٍ نابعٍ من تلك الجبال ومنسابٍ بين الحقول في أفجاجٍ متوازيةٍ ومتوازنةٍ، تسبحُ فيها أسماكٌ لا أدري من أين جاءت وإلى أين تذهب.

شكَّلت لي هذه الصُّورة صدمة حقيقيَّة أمام الطَّبيعة، فكيف لأسماك أن تسبح بجداول ماء في أكثر المناطق صمودًا أمام الجحيم.

في هذه اللَّحظة، تشكَّلت لديَّ نزعةٌ فلسفيَّةٌ دفعت اعتقادي قدما في اعتبار الصَّحراء فردوسًا باطنيًّا أسفل درجات الكون، في مقابل فردوس السَّماوات أعلاها، جنَّةَ نعيمٍ متخفِّيةٍ في مقابل الجنَّات التي يُنظَرُ بها المؤمنون. لا يمثِّل هذا التَّناقض الانقسام الوحيد، بل ستتجلَّى انقسامات في المفاهيم وصراعات في القيم وتجاذبات وتنافراتٌ سنحاول في هذا المقال قراءةَ أهمِّها.

ولقد تصادف، وأنا بمسقط، أن قرأت عنوان سيف الرَّحبي الجديد “عاصفةٌ على جناحٍ متعبٍ” الذي نشرته دار الآن منشورات بعمان بالأردن لهذه السَّنة 2023. ويتوزَّع هذا العنوان على نصوصٍ مكتوبةٍ في شكل وارداتٍ، يوميَّاتٍ اقتطعَها من ذكرياته وهو في شوارع القاهرة ليالي رمضان، في شوارع باريس ومقاهيها وكنائسها، متوغِّلًا أكثر في الأماكن الأسطوريَّة حيث أشباح أطلنطا الغارقة في الزَّمان، وحيث العصور الجليديَّة الأولى التي يفتِّشُ فيها عن شفاعةٍ ما تزيلُ عن صدر الانسان قلق الحداثة المريب. في العنوان نفسه، امتدادٌ بالحنين لذكر الذين غادروا من السُّلالة نفسها؛ وليعقوب عاشق الحمام، وهجٌ بالعقل لذكر أشباه النَّفس ونظائرها، لمحمَّد حجِّي، وشكري وخوري وزفزاف وخير الدٍّين، ولجورج سيمنون وفيللني بالمقاهي الباريسيَّة. في الكتاب، يصرِّح سيف الرَّحبي أيضًا عن عدميَّته الوجوديَّة في مقابل تلك العدميَّة الفلسفيَّة التي لا تملك العمق كما هو واضحٌ في غرقها البعيد بالصَّحراء، فبالنِّسبة له، كلُّ رجلٍ في الصَّحراء هو عدميٌّ بالطبيعة. ولذلك، تتكشَّف المفاهيم عنده عن نسبيَّةٍ متوازنة، فبينما تمثِّل فكرة الموت في عالمنا الثَّقافي تعويضًا عن قسوةٍ دنيويَّةٍ، فإنَّها تمثِّلُ عند اليابانيِّين نبعًا متدفِّقًا بالجداول التي تسقي الحياة والفنون (ص. 40). ولذلك، فالموتُ يغيِّر من معناه في أزمنة القحط والجفاف إلى معنى آخر في الأزمنة الخصيبة.

هذه الفلسفة العدميَّة ستنتقل به في الكتاب نفسه إلى اعتبار القيم الانسانيَّة متباينة بين مكانٍ وآخر؛ إنَّها نظرةٌ مشرِّعةٌ لأخلاق القانون، [المرضُ في بلدانٍ كثيرةٍ ليسَ فرصةً لتأمّل نعمة الحياة والصحة والوجود برُمّته، وإنما لتعميق إذلالِ الكائنِ واستعبادِهِ وقتلِه: إنّه المرآةُ الأكثرُ مأساويّةً لانحطاطِ أوضاعِ القانونِ والاجتماع والأخلاق. ص26]

وعلى هذا النَّحو، يفتِّشُ سيف الرَّحبي عن تخفيف حدَّة العلاقة بينه وبين الوجود، باحثًا عن غناء ما يرافقه وهو يخرق حجب الوجود في تلك العتمة المسيئة. ها هو يصادق الزِّيز، واليمام، والصُّفرد، والسُّنونوة، واليمامة والبابو وطائر الطٌّوفان في حركة تدلُّ على تكوين رمزيَّة عالية من اهتمام سيف الرَّحبي بالكائنات الرُّوحية التي تؤخذُ في الرَّمز بكونها طائرة.

وكان أوَّل ما أثار انتباهي في هذا الكتاب تلك الجملة العجيبة التي يستوفي فيها صورة الأسماك في الصَّحراء قائلًا: [ناعسةً تسبحُ السَّمكة في الأكواريوم، وبقفزةٍ رشيقةٍ تجد نفسَها في المحيط الهادئ. عاصفةٌ على جناحٍ متعب: 4]، وفي مقطعٍ آخر: [الصَّبيّة، الطفلةُ حين نزلت الماءَ لأوّل مرةٍ/ اِفترَّ ثغرُها العذبُ عن بهجةٍ وحبور/ (إنَّها ليست لوليتا، فليس مِن ملامح شبَقٍ مبكّر، بل براءة مطلقة)/ ظلّتْ تسبحُ كتلك السّمكة في الأكواريوم حتى اختطفها نسرُ الخيال محلّقًا بها إلى فضاءاته الشَّاسعة/ توقَّفت الصَّبيَّة الطِّفلة برُهةً عن السِّباحة والحَركة كمن يعود إلى ذاته البعيدة/ حدّقتْ في أمّها، شجرتها الأرضيّة التي تلوذُ بها من هجيرِ الصّحراء/ في ذاتِها البعَيدةِ زائغة كأنما تعودُ من أسفار نسرها السعيدة. عاصفةٌ على جناحٍ متعب: 7].

يتشبَّثُ سيف الرَّحبي بالماء في كلِّ حروبه التي يخوضُها،فهو وإن جاب المعمورةَ كلَّها، لا تفتأ نفسُهُ تجلسُ أمامَ فجِّ ماءٍ بقرية سرور لتغمسَ رجليها فيه مستمتعةً بتلك البرودة التي تنبئ عن نهاية الوقائع والكرائه أخيرًا.

ولنتوقَّف في هذا المقال، على سبيل الحصرِ لا الاستثناء، على مفهوم الأكواريوم وعلاقته بالنَّفس الانسانيَّة لعلَّنا نستدرج في ذلك معًا طريقةً لفهم تصوُّرات سيف الرَّحبي الشِّعريَّة.

تعتبرُ الأكواريوم الطَّريقة المثلى التي تمكِّنُ الانسان من الاحتفاظ بالأسماك حيَّةً في بيته، كما تمثِّلُ أيضًا طريقةً تبعث الاحساس بحيوية الكينونة المائيَّة وسط  فضاءٍ مخصوصٍ بالكينونة التُّرابيَّة. 

لنتخيَّل دهشة الانسان عندما رأى الأكواريوم لأوَّل مرَّة، إنَّها حالة يصطدمُ فيها الانسان أمام لوحةٍ فنيَّة متحرِّكة داخل فضاء زجاجيٍّ شفَّافٍ مغلق، حيث الحركة الوحيدة داخلها تنبيء بحيوية صارمةٍ داخل المكعَّبات، إنَّه توجيه حقيقيٍّ للعقل نحو أبعادٍ جديدة في النَّظر، حيث يتمُ الكشف أخيرًا عمَّا يحدث في ذلك العمق الذي لا نؤتاه إلا بالغوص المتقن.

ولقد أثارت فكرة الأكواريوم عند الفلاسفة والفنَّانين إشكالًا عميقًا نجده بالأساس عند كلود مونيه. في كتابها المذهل، الأكواريوم الآلة (Machine-Aquarium)، تقدِّم كليليا نو قراء دقيقة لأعمال هذا الفنَّان الفرنسي انطلاقًا من مفهوم برك الماء التي حوَّلها إلى حقيقة فنيَّة ذات يقينٍ لا يُناقَش. فالأكواريوم هي استنساخ لصورة البحيرة الغامضة، التي تسمح بأن نرى فيها أمامنا مستوياتها جميعًا بوضوح. إنَّ الأكواريوم تعرِّي غموض البحيرة والبحر الذي سمَّاه سيف الرَّحبي بالعدم الأزرق (Le néant bleu).  

 ومن يتأمَّل البحيرات، فإنَّه لن يرى إلَّا مستويَين: مستوى سطح البحيرة الذي لا يعمل إلا على عكس صور الضَّوء والسَّماء عليه، ثمَّ صورة العمق قليلاً، حيث تبدأ البحيرة في التَّحوُّل شيئًا فشيئًا إلى لون أخضر مع اقتراب العمق من القاع، ثم مستوى القاع الذي يبتعد في سواده الكلِّي عن قدرة العين في النَّظر إليه.

تعبِّر هذه المستويات الثَّلاث عن واقع النَّفس، فهي تملك سطحًا قد أثَّر عليه العالم الخارجي، ثمَّ سطحًا عميقًا، ثمَّ سطحًا باطنيًّا يصعب تكشُّفه أو الكشف عنه.

على هذا النَّحو، سنحاول الدُّخول مباشرة في حوار مع سيف الرَّحبي بشأن السَّطح الأعمق، لنتكشَّف ذلك اللَّاوعي الجماعي المتخفِّي فينا. ولنعد إلى المقطع الذي ذكرناه سلفًا في ذكر تلك الطِّفلة التي نزلت الماء أوَّل مرَّة، فابتهجت، ثمَّ بعدما سبحت قليلا داخل الماء في سطحه الثَّاني اختطفها نسرُ الخيال محلِّقًا بها، ثمَّ في حالةٍ من الصَّدمة، غاصت نحو السَّطح الثالث، (في ذاتِها البعيدة)، لتكتشف شجرتها الأرضيَّة التي يعتبرها سيف الرَّحبي أُمًّا لها-للطِّفلة.

كيف يمكننا، قبل أن نتوضَّح السَّطح الأخير، تفسيرُ هذه الحالة السّرياليَّة لكائنٍ سمَّاه باِسمين: الصَّبيَّة – الطِّفلة. ما المقصود بهذا الكائن؟

في الواقع، وقبل أن نثير تساؤلات حول شخصيَّة هذه الصَّبيَّة، لا بدَّ أن نحدِّد ما المقصود بالطِّفلة عند سيف.

سيكشف استقراؤنا لأعماله الكاملة عن إدغام دلالتين في المفردة، فبينما تفيد مفردة طفلة بصيغة نكرة نقيض طفل، فإنَّ المفردة معرَّفةً تفيد التَّطفُّل.

تصاغ هذه المفردة على معاني كثيرة من أهمِّها الطَّفل بالفتح وهو النَّاعمُ، فيقال: امرأةٌ طَفْلَةٌ، أي ناعمةٌ، والطِّفلُ بالكسر وهو المولود والصَّغير من الكائنات. في الجزء الثَّالث من أعماله الكاملة يستخدم سيف الرَّحبي مفردة طفلة بالكسر في صيغتيها النِّكرة والمعرَّفة بين [وطفلة تبتسم على منحنى زقاق في بلاد مجهولة الاسم والهويّة. ج3 -168] وبين [عرف الأب أنَّ تلك النَّظرات الطِّفلة، نظرات حنانٍ ربَّانيِّ فريد. ج3- 117]. فأمَّا النِّكرة في الأولى فقد أفادت معنى الصَّبيَّة، وأمَّا المعرَّفة في الثَّانيَّة فقد أفادت تركيبًا ما يوحي به نعتُ النَّظرات. ودون جلد النَّص للاعتراف بأولوية التُّراث وسلطته على التَّعبير لاسيما في التَّمييزِ بين طَفلٍ وطِفلٍ، فهل يمكننا فهمُ هذه المفردة على أساس كونها تفيد التَّطفُّل؟ للإجابة على هذا السُّؤال، سنعود أدراجنا ونحن دائمًا في الجزء الثَّالث، حيث نجد قولَه : [«وُلدتَ حُـرّاً / أيها الطِّفلُ / وسترسفُ في القيودِ / أنى ذهبتَ»/ وهذا، ما تشي به النَّظراتُ الطِّفلةُ / حين يذهبُ الرَّجلُ / إلى فتحِ البابِ/ نحو البَهوِ والفراغِ /يتبعهُ بابٌ آخرُ/ والسورُ.ج3 – 68]. تعود مفردة النَّظرات الطفلة كأنَّها تريد أن تحدِّد المعنى في اقترانه بالوشاية، فالوشاية تعقب التَّطفُّل، لا الطُّفولة. وسنستنتجُ ههنا حقًّا أنَّ المراد بالطِّفلة هو التَّطفُّل. ويكون المعنى أن الصَّبيَّة إنَّما أرادت السِّباحة في الماء من باب التَّطفُّل لا من باب كونها طفلة.

إذا اِتَّفقنا ههنا في أنَّ المقصود بالكائن هو الصَّبيَّة المتطفِّلة، فإنَّ المعنى باتِّضاحه سيمكِّنُنا حقًّا من فهم رمزيَّة هذه الصَّبيَّة.

وللقيام بتحقيق في هذه الشَّخصيَّة الغامضة، التي تظهر مثل ذلك اللُّغز في الأفلام الأمريكيَّة الحديثة، فإنَّ العودة إلى شعر سيف الرَّحبي يفرض نفسه كبابٍ لا مناص من الدُّخول عبره، وسنجد حقًّا مقطعا يزيحُ الكثير من الألغاز، فهاهي الشَّخصيَّة الغامضة تعود من جديد مرتبطة بالماء وبالبحر وبالصَّيادين، حيث يتساءل الشَّاعر عن مصدر وجودها : [ريحُ الجنوبِ هدأتْ قليلاً / هدأتْ ريحُ الجنوبِ / لكنّ القواربَ لم تغادرْ أماكنَها / والصيادون بِلا مِزاجٍ. / طفلةٌ تركضُ حافيةً على الشاطئ / تصطدمُ بالسواري، بالألواحِ / واللافتاتِ./ تريدُ أن تقولَ شيئاً /لكنها خرساءُ / ريحُ الجنوبِ أخرسَتْ صوتَها./ لم يتحرّكِ الصيادونَ / لم تغادرِ القواربُ إلى عُرض ِالبَحرِ / من أينَ بزغَتْ هذهِ الطِّفلةُ الشعثاءَ/ الجميلة؟ / هل لَفَظَها البحرُ / أمِ انفجَرَتْ من حُلُمٍ عنيفٍ لأحدِ الصيادينَ / بعد أن هاجَمهُ القِرْشُ ذو المِطرقة؟ / الصبيّةُ تركضُ في العراءِ / ترتَطِمُ بسماكةِ الفراغِ / فتسقطُ جثةً هامدةً].

تكاد تعبِّر هذا المقطع عن واقعٍ غريب يحيط بذهن سيف الرَّحبي،وهو يتساءلُ : من أينَ بزغَتْ هذهِ الطِّفلةُ التي تركضُ بشعرها الأشعث الأغبر جرَّاءَ سفرها الطَّويل؟ هل هي ما أسفر عنه البحر، أم مجرَّد بنتٍ من بناتِ أحلام الصَّيَّادين؟

في مقطع آخر وهو نصٌّ طويلٌ جدًّا، تقترب الصُّورة أكثر من أذهاننا، وسنعثرُ حقًّا على أنَّ اقترانًا يكاد يكون متلازمًا بين البنت والبحر، الذي يسمِّه أيضًا بالمعشوق الأزليَّ. وها نحن عندما نوغلُ بهدوءٍ وبدون قلق في نفس سيف الرَّحبي، سنجد أنفسنا حقًّا مقتنعين بأنَّ الصَّبيَّة ليست في الواقع سوى ما يعطينا الماءُ-البحرُ إيَّاه، إنَّها مولودة الذِّهن وواردة النَّفس تجوبُ عالم الشَّاعر الدَّاخلي وتصرخ، وتسبح، وترتطم، وأحيانًا تموت وهي في عنفوانها. في هذا العدم الأزرق، تتأتَّى الفكرة عند سيف صبيَّةً متطفِّلةً على الوجود، فيصفها مرَّة أخرى موحيا لنا بهذه العلاقة بينهما رمزيًّا ؛ (الفكرة والوجود)، فيقول :

[الصَّبيّةُ التي عَشِقَتِ البحرَ كثيراً، لم يبادلْها الحُبَّ هذا المساءَ. هناك على مقرُبةٍ من جزيرةِ القرودِ التي تتسلقُ الأشجارَ بذكاءِ الإنسانِ الأولِ، أَلقَتْ صنارتَها، مع صِبيةٍ آخرينَ اصطادوا أسماكاً صغيرةً تلمعُ في ضياءِ المغيب. / بقيَتْ على صبرها تنتظرُ هديَّةَ الذي وُلدَتْ على ضِفافهِ… وكانتْ ترى السماواتِ بضفافِها تذوبُ في خِضَمِّ زُرقتِهِ المتلاطمةِ. / بدأ الليلُ في النزولِ وأصواتُ طيورٍ بحريّةٍ تختلطُ بصفيرِ الأعماقِ. بدأ صبرُها بالنفادِ : / (أريد سمكة ولو صغيرة صغيرة جداً) لكن المعشوق الأزليَّ أصمُّ لا يستجيب: / لقد خذلك البحر أيتها الصَّبيَّة، خان خيالك المتوقد بالحبّ، هو الذي يعطي كنوزه أحياناً لمن لا يستحق مثل بلادنا. لكنكِ على يقين ستعيدين المحاولة غداً، فليس لديك من مشاعل عدا البحر والبراءة والغيوم، ستعيدين المحاولة، فحلمكِ ما زال في نضارته لصيد البحر والحياة. – ج3 – 143.]

إنَّ تسميَّة الفكرة بالصَّبيَّة وربطها بالماء هو حتمًا ما أشار إليه بن عربي قديمًا في قصيدته “كشف الأستار لخواص الأسرار”، في قوله :  يا طالب الأسرار في الأسماءِ إنَّ الذي تبغيه عند الماء.

إنَّ الإقرار بأنَّ الصبيَّة هي الفكرة (وليست النَّفس) في علاقتها بالوارد الذي يُؤتينا إيَّاه البحرُ هو ما ينبغي أن ندافع عنه ونحن ندرس شعر سيف الرَّحبي. ففي شعره كلِّه، يناضل الشَّاعر من أجل الخلاص في الماء، في مقابل تلك الأرض النَّاريَّة التي تبعث فيه الخوف باستمرار. 

يمثِّل  النَّسرُ المستوى الثَّاني من تطوُّر الفكرة المائيَّة في تشكُّلها الأسطوريّ، وقد استخدمه الكيميائيُّون العرب في شكل العقاب الذي سيمنح في الأخير الطِّفل السيِّدَ العقلَ الكامل. يقول بن أرفع رأس عنه في ديوانه شذور الذَّهب مثلًا:

فَقُصَّ جَنَاحَيْهِ بِرِفْقٍ، فَإنَّهُ

إذَا قُصَّ عَنْهُ الرِّيشُ صَارَ عُقَابَا

وَطَيِّرْهُ بَعْدَ القَصِّ، وانْصِبْ لِصَيْدِهِ

شِبَاكاً تُسَمَّى في الرُّموزِ قِبَابَا

تَصِدْ مِنْهُ طِفلاً كَامِلَ العَقْلِ سَيِّداً،

وَلَكِنَّهُ إنْ ضِيمَ لاَ يَتَغَابَى

إنَّه رمزٌ كيميائيّ حيٌّ للغاية ويشعُّ بمعاني متعدِّدة. وعندما يمثُل، كما نجد ذلك في رؤية الحالمين، فإنَّه يقودنا كدليل إلى نوع من الحدس المبهر، إنه ينقل الطَّاقة اللَّازمة حتَّى تستطيع الأفكار التَّحليق. والنَّسر عند كارل يونغ يملك إحساسًا يدعم ذلك الفكر الواعي من جهة، ويعمل على بناء علاقة من التَّعاون مع اللَّاوعي. ولذلك، فإنَّ الشُّعراء كلَّهم وغيرهم أيضًا يحلمون بالنَّسر لأنَّه -في فكرهم الواعي- يستكمل الانسان الذي لا جناح له، من جهة، ومن جهة أخرى، يوضِّح لهم -في لاوعيٍٍ جماعيٍّ كامل- كيفيَّة الطَّيران والارتفاع إلى الأعلى، معبِّرًا بذلك عن طموحٍٍ يسمح للشُّعراء بتوسيع دائرتهم الخياليَّة.

ولا نستغرب هذا الشُّعور، إذا عدنا حقًّا للتَّأكُّد، ونحن نقرأ في شعر سيف الرَّحبي، أنَّ الفكرة الحالمة هي نسرٌ مكسور الجناح، أو فيما إذا كان قد استطاع التَّحليق بعيدًا، لن يصيبَ إلَّا بلادًا مستحيلةً حقًّا. يقول : [حَلَّق النسرُ في سماءٍ مُقفرة من النجوم يُطاردُ غيمةً في حقولِ خيالِه المُعشبة، غيمةً ستمطر بعيدًا في البلاد المستحيلة. [عاصفةٌ على جناح متعب – 15.]. ويقول في مقطعٍ آخر: [حلَّقَ النسرُ دهرًا بين السماواتِ والأنجم والكواكب، حتى لامسَ (كما كان يحلم)،= بعد ابتلاءاتٍ ومِحنٍ، بجناحهِ السَّماءَ المتلألِئةَ بالملائكة والرَّغباتِ التي كان مخطوفًا بسحرِ نُورها المُدهش./ وحين عاد خاليَ الوِفاض خائبًا من رحلتِهِ الشَّاسِعَة، أدركَ أنَّ التَّحليقَ والسِّباحةَ في الفَضاءِ اللانهائي، هو الجَمَالُ والحُلمُ والغايةُ بعد ارتطامِهِ الأخير. عاصفةٌ على جناح متعب – 42.].

وإذا اتَّفقنا في أنَّ النَّسر كما هو عند الكيميائيِّين رمزٌ للحُلم، وعند سيف الرَّحبي رمزٌ للجمال والغاية، فإنَّه سينتهي في الأخير بالارتطام، كما أوصى بذلك الكيميائيُّون، فالنَّسر لا بُدَّ أن يأكل جناحيه، لذلك سيسمُّونه بالذَّات المشوَّهة.

إلَّا أنَّه، لن يرتطم حقيقةً، في مقطعنا المعني بالدِّراسة، فهو إذ يحلِّق بالصبيَّة عاليًا، سيسافر بالفكرة إلى فضاءاته الشَّاسعة، لأن الفكرة بعد تحقُّقِها أوَّل الأمر، في تماسٍّ مع الماء، ستتحوَّلُ إلى مستجيبةٍ للتَّحليق في الأحلام، كما حدث للأميرة الفينيقيَّة “أوروبا” التي جذبها -حسب الأسطورة- زيوس  في شكلِ نسرٍ وحلَّق بها مختطفًا إيَّاها إلى اليونان.

إنَّ توقُّف الفكرة عن الحركة وهي على جناح نسرٍ يرتفع بها في الخيال، سيجعلنا نصطدم أخيرا بالسَّطح الثَّالث والعميق، وهو سطح الشَّجرة الأم. فمن الماء إلى الحلم إلى الشَّجرة، تتجلَّى ثلاث مستوياتٍ حقيقيَّة تخوضها الفكرةُ بشكلٍ صريحٍ في نفس سيف الرَّحبي.

وإنَّه لمن الغريب حقًّا، أن تتقاطع هذه الطِّفلة مجدَّدًا بالشَّجر في قعر المحيطات، في مقاطع مختلفة من أعماله الكاملة، يقول : [في رؤياك الأخيرة: «ابن عربي» / يسرِقُ قُبّعةً /  مِنْ طِفلةٍ / ويتغذى مِنْ لُهاثِ الشَّجرِ الطالعِ / مِنْ قُعْرِ المحيطات. الأعمال الكاملة – 1: 116 .]

فما علاقة القبَّعة المسروقة من طفلةٍ، وما علاقة بن عربي وهو يتغذَّى من الشَّجر الطَّالع هو أيضًا من ذلك السَّطح العميق المتخفِّي في قعر المحيطات؟

يدفعنا سيف حقيقةً إلى إدراك وعيٍ شعريٍّ متكاملٍ عنده، وهو يتحدَّث في جزئيَّةٍ فكريَّةٍ عن بن عربي. ممَّا يدفعنا إلى القول إنَّ الشِّعر عنده ليس إلهامًا، وإنَّما تحقيقٌ لرؤى قديمة اتَّفق أن تنضج من جديد حداثيَّةً ومفعمةً وعميقة وفي هيئةٍ أخرى أيضًا في كتاباته. فمن هو بن عربي بالنِّسبة له؟ إنَّه الفكرة المحلِّقة هو أيضًا، الباعثُ على المخيلة الشعرية والمعرفة. نقرأ قوله : [وليست هذه الإشارات بعيدة عن ظلال الفلسفة الجديدة من نيتشه حتى جيل دولوز، كذلك فإنها ليست بعيدة عن رؤى أكثر قِدما عند ابن عربي حين تحدث عن كمال الأشياء والوجود في نقصانها، وإن كان بن عربي ينحى منحىً ميتافيزيقياً خاصاً دافعاً فخامة الكمال إلى مركز المطلق. ابن عربي الذي كتب أيضاً عن الانفصال والترحل عن المحيط الخانق عبر السفر في الروح والأمكنة في المرئي واللامرئي، والكتابة عن هذه الأسفار في ما يشبه التوثيق الباطني، يمكن أن تكون أحد الأدلة الكبيرة في بحث المخيلة الشعرية والمعرفة. الأعمال الكاملة – 1 : 9].

وإذا كانت القبَّعة المسروقة هو ذلك التَّقاطع الذي يكون بين المدارس والأفكار، وبين القرون والحضارات، وبين الفلاسفة والكتَّاب، فإنَّ الشَّجرة قد تمثِّل الأصل الحقيقي في ذلك كلِّه.

وبدون الدُّخول في المفهوم الأنطولوجي لقصَّة الشَّجرة الأولى، فإنَّ الشَّجرة، وبحكم كونها نباتيَّة، أطلِق اسمُها رمزًا على مادَّة حجر الفلاسفة (الإكسير). وتعتبر شجرةُ الفلاسفة العظيمة زئبق الكيميائيِّين، وصبغتهم؛ وهي عند الكيميائيِّين العرب دهنهم، فبها يُصنع الذَّهب. ولنتذكَّر ذلك الزَّيت المضيء للزَّيتونة الوسطى كما يصفه بن أرفع رأس في قوله [23: 1-6]:

بِزَيْتُونَة الدُّهْنِ المُبَارَكَةِ الوُسْطَى

غَنِينَا، فَلَمْ نُبْدِلْ بِهَا الشِيحَ والخَمْطَا

فَلَمَّا أَتَيْنَاهَا وَقَرَّبَ صَبْرُنَا

عَلَى السَّيْرِ مِنْ بُعْدِ المَسَافَةِ ما اشْتَطَّا

نُـــــــــــــحَاوِلُ مِـــــنْـــــــهَــــــا جِـــــــذْوَةً لاَ يَنَـــــــــــالُهَا

مِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَعْرِفُ القَبْضَ والبَسْطَا

هَبَطْنَا مِنَ الوَادِ المُقَدَّسِ شَاطِئًا

إلَى الجَانِبِ الغَرْبِيِّ نَمْتَثِلُ الشَّرْطَا

وَقَدْ أَرَّجَ الأرْجَاءَ مِنْهَا كَأنَّها

لطِيبِ شَذَاهَا تَحْرِقُ العُودَ والقِسْطَا

أو كما قال في قصيدة أخرى [5 : 6-8] :

بِهَا شَجَرٌ لاَ يُنْبِتُ الدُّهْنَ غَيْرُهَا

فَلاَ صِبْغَ إلاَّ مَا حَوَتْ شَجَرَاتُهَا

عَلَى طُورِهَا مِنْهَا جَحِيمٌ وَجَنَّةٌ

خَبَتْ نَارُهَا فَاسْتَوْقَدَتْهَا صَلاَتُهَا

يَفِيضُ مِنَ الوَادِ المُقَدَّسِ نَبْتُهَا

مَذَانِبَ مَاءٍ لَمْ يُكَدَّرْ فُرَاتُهَا

وإذا كان قد رمز الكيميائيُّون العرب إلى الشَّجرة بكونها دهن الحياة، فالماء لا يعدو أن يكون هو أيضًا كذلك. وسنكون في الواقع، ونحن نتحدث عن الشَّجرة الأم، في جدالٍ حقيقيٍّ مع الفكرة وهي بين مستويَين: مستوى النُّشوء ومستوى التَّركيب، فأمَّا النُّشوء فهو دخولها الماء في صورة صبيَّةٍ تسبح،  وأمَّا التَّركيب، فهو وصولُها عائدةً إلى الأم، عالم المثال، الشَّجرة الأولى، تلك التي لا شرقيَّة ولا غربيَّة. وتكون الطِّفلة إذَّاك مولودةَ الماء والشَّجر.

وسنستنتجُ حقًّا، أنَّ المستويات الثَّلاث، هي نفسُها التي نجدها عند فرويد، وكلود مونيه، وعند الكيميائيِّين جميعهم بما في ذلك بن عربي نفسه، وعند الطُّغرائي أيضا في ديوانه المقاطيع مثلا حيث نختتم بقوله :

خُذِ الْعِلْمَ عَنْ قُرْبِ وَنَكِّبْ عَنِ الْبُعْدِ
 
 فَفِي الْقُرْبِ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى الرُّشْدِ

خُذِ الْحَجَرَ الْمَنْبُوذَ فِي الطُّرْقِ وَالثَّرَى
 
 وَصَيِّرَهُ مَاءً تَسْتَرِيحُ مِنَ الْكَدِّ


لَهَا جَرَيَانٌ بَارَكَ اللهُ فِيهِمَا
 
 إِذَا اْجْتَمَعَا صَارَا عَلَى هَيْئَةِ الزَّبْدِ

وَثَالِثُهَا فَرْدٌ وَإِنْ جُلَّ ذِكْرُهِ
 
 وَلَا بُدَّ لِلْاِثْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْدِ

وَلَا بُدَّ مِنْ حَلٍّ وَعَقْدٍ كِلَاهُمَا
 
 وَكُلُّ الَّذِي تَرْجُوهُ فِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ