الهواري غزالي*

لا يمكن -على الإطلاق- استبعاد وجود صورة التِّنين في قصائد شاعر مثل سيف الرَّحبي، وليس هذا الرَّأي من قبيل إصدار أحكامٍ جاهزة، إنَّما هو يقينٌ مؤدَّاه أنَّ الشِّعر المفتوح على الإحساس الكوني لا يمكنه أن يعدم وجود هذا الكائن الأسطوري داخل مخيِّلة صاحبه الشِّعريَّة.

لننظر عن كثبٍ إلى تجربة هذا الشَّاعر التي تتقاطع في عمقها الجوهري مع محاولات فهم «الإنشاء» الكونيّ الذي رجع إليه الكيميائيُّون القدامى في محاولة منهم لإعطاء التَّركيب -فيما بعد- بعدًا خلَّاقًا فيها، فتُستخدمُ الرِّموز -كالتِّنِّين- للدَّلالة عليها استخدامًا لا يقف على فهمه إلا خاصَّة الخاصَّة.

وقد يستغرب الكثير من قرَّاء هذا الشَّاعر الذين خبروا أدبَه حكْمِي هذا بعدما اتَّفقَ أغلبهم في عدم استخدام الشَّاعر التِّنين لا في نصوصه النَّثريَّة ولا الشِّعريَّة، فلا يكاد يأتي أحدٌ منهم على آخر صفحة من صفحات أعمال الشَّاعر النَّاجزة إلا ويعود إلى نفسهِ مبتهجًا بحسنِ رأيه وبعيد نظره، فلا نكاد نعثر على أثر له أو وجود.

إلَّا أنَّنا إذا ترصَّدنا في القصيدة هذه المفردة كما عُرفت بذلك في التراث العربي، فلن يكون لرأينا ما نخالف به هؤلاء. أمَّا إذا أوسعنا النَّظر وتجازونا هذا الحكم فلا نرى الشَّاعر إلا وقد نأى بنفسه عن هذا الاستخدام المكرور المعاد، ولجأ إلى التَّوريَّات والتَّعميات والتَّلغيزات.

ولن نكرِّس لهذا المقال جهدًا في البحث عن طرق هاته الاستخدامات، فهذا عملٌ يستنقصُ من أفق الكتابة الشِّعريَّة ويجعلها مقتصرةً على بناءٍ فقط وقاصرةً عن النَّظر الواسعِ والعميق، وإنَّما سنعملُ على ترقُّب حركة التِّنين ورصد تفاعلاته الرَّمزيَّة لغرض فهم علاقة الشَّاعر بالحياة وتحديد طبيعة ملامح جزءٍ من بين أجزاء الوعي الجماعي الذي رمز إليه التِّنين في الأخير.

وإذا كانت الأسطورة قد رسمت التِّنِّين على أنَّه سحلية ضخمة وطائرة، له عينا أفعى وأنياب تمساحٍ ومخالب نسرٍ وجناحا خفَّاش، فإنَّه يكاد يكون، وهو مُنشَأٌ، حيوانًا مركَّبًا في شعر سيف الرَّحبي من عنصرين: أحدهما يزحف وهو الثُّعبان والثَّاني يحلِّق وهو الطَّائر، وهذان العنصران مكوِّنان أساسيَّان لكينونة التِّنين. لنقرأ قوله في أكثر من موضع:

  • الجيران الذين كانت حناجرهم تسيل في جوف اللَّيالي المدلهمَّة، بالغناء والمرح وقرع الطُّبول، باتوا ينتظرون ظهور الأفعى مصحوبة بقمرها المزدان بزغب الطَّائر الأسود (…).
  • يعشعشُ الحمامُ والطُّيورُ الأخرى في خاصرة الجسور ونوافذِ القِلاع (…) كما تعشعشُ الثّعابينُ والنّسورُ في الأماكنِ نفسها. عاصفة على جناحٍ متعب.
  • هذا الدَّمُ المنسابُ على أجنحةِ طائرٍ / ثعبانٌ يفترسُ النَّهارَ بعينيهِ الدَّامعتينِ بالسَّواد. الأعمال الكاملة: 1 – 149.
  • حين تنقذف في خضم المياه الباردة، تنسى صورة الثُّعبان الطَّائر الذي سيخطفك إلى الضِّفة الأخرى طعاما سائغا لأطفاله وأصدقائه الذين لا يثملون إلا بامتصاص دماء البشر وافتراس أشلائهم، (…) تحسّ أنك دخلت هنيهةً في فضاء الأبدية المستحيل. الأعمال الكاملة: 3 – 112.

تتميَّز هذه النّصوص -التِّي تتشكَّل وفق رؤية الشَّاعر في تركيب كائنين- بكونها حاملة لمفهوم الافتراس والموت، فها هو الثُّعبان الطَّائر بعينيه السَّوداوين وزغبه الأسود يمتصُّ دماء البشر ويمزِّقُ أشلاءهم. إنَّه الإيحاء نفسه الذي نجدهُ في مقطعٍ آخر، عندما يدلُّنا سيف الرَّحبي على التِّنين في صورة مختلفة، وذلك باستعارته لصورة جلجامش قائلا: (…) أحدِّقُ في أعماقِ النَّهرِ / في الاتِّجاهاتِ جميعِها / تلك التي تُشبهُ أفعى الحكمةَ التي لا تشيخُ / ألقُها الدائمُ في الذَّاكرةِ والطقوسِ / على صفحةِ المياهِ الموجودةِ قبلَ الإنسانِ / بانتظارِ تمساحٍ يصعَدُ نحوَ الأعلى / أو غُرابٍ يقلدُ مشيةَ الطاووسِ (…) الأعمال الكاملة: 3 – 119

ولا تذكِّرنا هذه الصُّورة -بالتَّأكيد- بقصة الأفعى التي اِلتهمت عشبة الحياة بملحمة جلجامش فحسب، بل أيضًا بالتِّنين خمبابا، الذي يتشبَّه بصورة التِّمساح الصَّاعد من أعماق البحيرة نحو الأعلى. فيكون التِّمساح هو أيضًا صورة تنِّينيَّة عند سيف. وللتَّذكير، فإنَّ خمبابا هو التِّنين الذي تصارع معه جلجامش في الملحمة التي تقول: إنَّنا سمعنا عن «خمبابا» أنَّ هيئته غريبة مخيفة، / فمن سيصمد إزاء أسلحته؟ / والغابة تمتدُّ عشرة آلاف ساعة مضاعفة في كلِّ الجهات/ فمن ذا الذي يستطيع أن يوغل في داخلها؟ / أمَّا خمبابا فزمجَرَتُهُ مثل عباب الطُّوفان / وتنبعث من فمه شواظ النِّيران، ونفسه الموت الزُّؤام / فعلام رغبت في تحقيق هذا الأمر؟ / فلا أحد يستذيع الصُّمود إزاء خمبابا في موطنه؟ / ولما أن سمع جلجامش كلام ناصحيه،/ اِلتفتَ إلى صديقه وضحك (قائلا): كيف سأجيبهم؟ / أأجيبُهم بأنِّي أخاف من خمبابا؟ «وسأظلُّ ملازما بيتي طول أيام حياتي الباقية؟ اُنظر ملحمة جلجامش، طه باقر.

وفي الأخير، وقبل أن نطوي موضوع استخدامات الشَّاعر، لا بدَّ أن نلفت انتباه القارئ إلى لجوء الشَّاعر في استثناءٍ كبير لذكر التِّنين بمفردته اللاتينيَّة لا العربيَّة وذلك في قوله: لكنَّني الآن في البلاد التي تشكل امتداداً للحاضنة الصينية الكبرى التي تصخب معتقداتها الميثولوجية بحب هذه الأنواع الزَّاحفة، وخاصة أعظمها خِلقةَ وشكلاً (الدراجون). الأعمال الكاملة: 3 – 104.

وإذا كان لفظ (دراگون – Dragon) الأوروبي الذي ينحدرُ من اللَّفظ اليوناني (spakwv / drákoَn) المتطوِّر اشتقاقًا من الأصل (spakovtos / drákontos) يشير إلى الأفعى من جهة، وسمك البحر العملاق من جهة أخرى، فإنَّه يفيد في العربيَّة القديمة أيضًا ضربًا من الحيَّات العظيمة، وقد ذُكر في الحديث النَّبوي على أنَّه يلدغ كالأفعى، وهو ما يزيل عنه نسبيًّا -سواء في اللُّغة العربيَّة أو اليونانيَّة- معناه الأسطوريِّ ويجعله قريبا من الاستخدام الطَّبيعي.

وللإجابة عن الأسئلة التي نطرحها باحثين عن القيمة التَّأويليَّة التي تتمتَّع بها الرُّموز، بما في ذلك التِّنِّين، فإنَّنا سنقيم منهجنا كما جرت العادة على أساس تحاورٍ متراوحٍ بين الأطراف الثَّلاثة: الشِّعر المعاصر في صيغة ما قدَّمه سيف الرَّحبي، الكيمياء العربيَّة القديمة، والمدارس الغربيَّة.

بسبب شحنته الرَّمزية في الكيمياء التي تمثِّل الاحتراق، والقوَّة، والطَّاقة، فإنَّ هذا الحيوان يرمزُ لنوع من الفوضى المظلمة التي تتفاعل داخل الماء الكيميائي، فهو يساهم في تلك «الولادات الكامنة» التي تلتقي فيها البرودة بالرُّطوبة، فعند مهاجمته، ينفث الناَّر (الطاقة) فينبعث من فمه الدُّخان؛ إنَّه متحمِّس في الوقت نفسه وبارد. ولذلك، فهو يمثِّل في الفلسفة التَّأويليَّة المرحلة الابتدائيَّة للتَّحوُّلات.

أطلقَ الكيميائيون على التِّنين اسم طائر هرمس، وشبَّهوه من حيث شكله المتطاير بالرُّوح القدس، وجعلوه في رمزه الكوكبي «عطارد» على علاقة وثيقة بالذَّهب، أي الوعي. والوعي هي إيجابيَّتُه الوحيدة، ذلك أنَّه يمارس يقظته عند مداخل القلاع التي تختزن الكنوز. فهو يقف على سر الحياة المختوم عسسًا، وعلى رأسِ الذَّهب الفلسفي حارسًا إيَّاه،، فيعبِّرُ بذلك رمزيًّا عن النَّشاط المكثَّف ليلا ونهارًا. ونجدُ في الأساطير أنَّ البطل الفيلسوف عندما يذهب للبحث عن الكنز، سيجدُ التِّنين وعيناه مفتوحتان، لا ينام أبدًا، متمسِّكًا باللَّحظة الآنية أي تلك التي تبقي صاحبها على الاستيقاظ الدَّائم.

ق 40-32،31: لحظة ابتلاع الوعي عن طريق اِلتقام الأقاليم وتصييرها في جوفه.

إذَا صَفَّر التِّنِينُ فِيهِ تَدَكْدَكَتْ

رُبَاهُ وَبَسَّتْ هُضْبُهُ وَثَنَايَاهُ

وَصَارَتْ هَبَاءً فانْثَنَى لالْتِقَامِهَا

وَصَيَّرَهَا فِي جَوْفِهِ فَاغِرا فَاهُ

وإذ يجمع التِّنِّين في شكله المتوحِّش بين المبدأ التُّرابي لكونه حيوانا راجلا، والمبدأ الهوائي لكنه يملك أجنحةً ويطير، فإنَّه يتَّخذُ رمز المادَّة المتحوِّلة، والقوَّة الفيَّاضة، إنَّه أيضًا رمزٌ للمادَّة الأولى التي تعرف بالهيولى التي تتجلَّى في كونها مصدر الصُّور الأولى المتراكمة بالآلاف في أحلامنا. وبمقدور هذه المادَّة الأولى -كما يعتقد كارل يونج- أن تبتلع الوعي لتقوده في الأخير إلى مرحلة الجنون.

إنَّ الإيغال في اللَّاوعي، يدفع بالوعي نحو طريق محفوفةٍ بالمخاطر، ولذلك، فسيكون الوعي مضطَّرًا للانقطاع عن الواقع لغرض ضمان تحوُّلاته الباطنيَّة. يمثِّل الوعي ذلك البطل الذي يلتهمه الوحش وهو في مبتدأ الطَّريق. لننظر في قول الشَّاعر الأندلسي بن أرفع رأس وهو يعبِّر عن لحظة ابتلاع الوعي لدى التِّنِّين من خلال اِلتقامه الأقاليم وتصييرها في جوفه: ق 40-32،31:

إذَا صَفَّر التِّنِينُ فِيهِ تَدَكْدَكَتْ

رُبَاهُ وَبَسَّتْ هُضْبُهُ وَثَنَايَاهُ

وَصَارَتْ هَبَاءً فانْثَنَى لالْتِقَامِهَا

وَصَيَّرَهَا فِي جَوْفِهِ فَاغِراً فَاهُ

أو عن استكماله مرحلة تطهير الوعي عن طريق تردُّده في الأحشاء، ق 19-11،10،8: .

وَيَا لكَ تِنِّينٌ حَوَتْهُ سَحَابَةٌ

بِهَا مِنْهُ أفْعَى لِلْجُسُومِ مُصُوصُ

لَهُ مِنْ هَوَى الإقْدَامِ بَعدَ نُكُوصِهِ

عَلَى عَقِبَيْهِ فِي القِتَالِ نُكُوصُ

تَرَدَّدَ فِي الأحْشَاءِ حَتَّى تَكَامَلَتْ

طَهَارَتُهُ فِيهِنَّ خَيْرٌ نَقِيصُ

ولذلك، فكلُّ الأضداد التي يختزنها اللَّاوعي، يقوم الوعي -وهو في حالةٍ من الصَّدمة- بفصلها عن بعضها البعض رغبة في السَّيطرة عليها، ثمَّ بتنظيمها بعد ذلك. ولهذا الغرض، فإنَّ علماء النَّفس يعتقدون أنَّ الجسد هو من يتصرَّف في العقل وليس العكس.

ويحلُّ التِّنِّين محلًّا رمزيًّا ليعبِّر عن هذه الأضداد الكامنة، فهو السُّم الزُّعاف والدواء المخلِّص في الوقت نفسه.

لننظر مرَّة أخرى في قول بن أرفع رأس وهو يعبِّر عن هذه الأضداد الكامنة في شخص التِّنِّين ق 18- 29،28:

إذَا فَسَخَ التِّنِينُ جِسْماً بِسُمِّهِ

وَدَاوَاهُ لَمْ تولِمْهُ نَفْثَةُ نَاهِشِ

هُوَ الرَّعِشُ المَفْلُوجُ فَاعْجَبْ لِبَاطِشٍ،

مِنَ الحَرِّ مَفْلُوجٍ، مِنَ البَرْدِ رَاعِشِ

وتكاد تكون قصيدة الطُّغرائي أكثر القصائد اختصاصًا برمزيَّة التِّنِّين، وهي موجودة بديوان ننهي تحقيقَه هذه الآونة المقاطيع: ق 8 – 10، 1، فهو يصف مسكن التِّنين في كونه يقيم في داخل نفسه، إنَّه لا يوجد إلَّا في جوفه، ومسكن التِّنِّين عبارة عن جزيرة في جرفٍ هار تأوي الشَّياطين:

قَدْ خَرَجَ التِّنِّينُ مِنْ بَحْرِنَا

بَيْنَ ضَبَابَاتٍ وَ أنْوَارِ

هَامَتُهُ فِي الأَرْضِ مَنْكُوسَةٌ

وَرِجْلُهُ فِي فَلَكِ النَّارِ

أَقَامَ فِي دَاخِلِهِ مُدَّةً

يَقْذِفُ تَيَّاراً بِتَيَّارِ

وَالنَّارُ تَحْتَ البَحْرِ مَشْبُوبَةٌ

بِجَاحِمِ فيِ الحَجْرِفَوَّارِ

وَمَسْكَنُ التِّنِينِ فِي جَوْفِهِ

جَزِيرَةٌ فِي جُرُفٍ هَارِ

مَأوَى الشَّيَاطِينِ وَمِنْ فَوْقِهِ

غُرْفَةُ أخْيَارٍ وَأَبْرَار

ِ

لَهُ دَوِيٌّ وَحَفِيفٌ كَمَا

الرِّيحُِ إذَا جَاءَتْ بإِعَصَارِ

يَحْرِقُ مَا مَرَّ بِهِ رَاجِعًا

مِنْ حَيَوَانَاتٍ وَأَشْجَارِ

جَاءَ فَمَا مَصَّ سِوَى مَصَّةٍ

مِنْ ذَنَبٍ بِالدُّرِ مِسْطَارِ

وَسِرُّنَا يَقْصُرُ عَنْ كَتْمهِ

مَجَالُ أَوْهَامٍ وَأَفْكَارِ

وباستنطاق هذه الرَّمزيَّات، فإنَّه من المهمِّ جدًّا تقديم تأويل هرمونيطيقي لما جاء في شعر سيف الرَّحبي، علمًا بأنَّ هذا الأخير لم يختبر علم النَّفس ولا الكيمياء القديمة ولم يعبِّر عنها من باب الاختصاص، وإنَّما هو من قبيل التَّأكيد على حيويَّة اللَّاوعي الجماعي للإنسانيَّة.

يعيد سيف الرَّحبي في «كلِّ لحظة جديدة، كلِّ موت قديم»، عن طريق التِّنِّين، ترتيب علاقته اللَّاواعيَّة مع الثَّقافة الشَّرقيَّة، فلاوعيُه العميق الذي تكشَّف له في شكلِ حالة انبعاثٍ وأمل يقع على طرفٍ نقيضٍ مع وعيٍ سيطرت عليه حالاتٌ من الإحساس بالخراب والشَّرِّ. إنَّ التِّنِّين في صيغته الضِّدِّيَّة يعبِّر عن هذه المفارقة بين الثَّقافات، إذ جعل من تنِّين الصِّين المادَّة الأولى، القوَّة الفيَّاضة، الأمل الكامن، وجعل من تنِّين الثَّقافة الشَّرقيَّة، رمزَ المادَّة المتحوِّلة والخراب المؤجَّل؛ يقول: لكنَّني الآن في البلاد التي تشكل امتداداً للحاضنة الصِّينيَّة الكبرى التي تصخب معتقداتُها الميثولوجيَّة بحبِّ هذه الأنواع الزَّاحفة، وخاصة أعظمها خِلقةَ وشكلا (الدَّراجون) الذي يرمز لديها إلى نماء الحياة والخصب والانتصار. على عكس بعض المعتقدات الشَّرقية وغيرها التي ترى في هذا الحيوان الأسطوري وأشباهه، رمزا للشَّرِّ والخراب، يجري التَّخلُّص منه على يد رمز الخير والانبعاث، لتعود الأرض اليباب إلى النَّماء، ويتدفَّق الأمل في شرايين الحياة من جديد./ ربَّما أصبحتُ صينيًّا في هذه اللَّحظة العابرة، وأنا أشاهد الحيَّة بحبٍّ وحزنٍ، وهي تزحف وتتوارى هاربة نحو جروفِ الدَّغل. الأعمال الكاملة: 3 – 104.

تستدعي المرحلة الابتدائيَّة للتَّحوُّلات عن طريق التِّنِّين بأن تسمح للشَّاعر من باب وعيه بالواقع الولوجَ في شكلِ كائنٍ مصدوم إلى عالم اللَّاوعي. يتحدَّث سيف الرَّحبي في قصيدة يعود الغريب، عن ظهور الغريب فجأةً وهو عائدٌ من لاوعيه العميق إلى ديار الأسلاف بعد طول غياب، ولكنَّ عقلَه يصطدم منذ الخطوةِ الأولى بالهواء المسموم والأحقاد القديمة، فيتمنَّى لو يبتلعه التِّنِّين، تلك الأفعى المجنّحةُ ذاتُ الأجراسِ كما يصفها، فتغوص به كالحوت الخرافيِّ مرَّة أخرى في الحكايات العميقة.الأعمال الكاملة: 3 – 146.

ها هو يقرُّ مرَّةً أخرى بأنَّ الإيغال في اللَّاوعي يدفع بالإنسان إلى نسيان وعيه الأوَّل، بل سيقوم بتحويله إلى وعي مختلف، وذلك باختلاق حيَّةٍ حمراءَ رؤوفةٍ وأمينةٍ مكان التِّنِّين (الثُّعبان الطَّائر) المفترس، ثمَّ لا يلبث أن يعبّر مرَّةً أخرى عن اللَّاوعي بجملة فضاء الأبدية المستحيل بعد أن كانت في شكل مياه باردة تسبح ضدَّ تنِّينٍ يشتعل بالنَّار. يقول: حين تنقذف في خضم المياه الباردة، تنسى صورة الثُّعبان الطَّائر الذي سيخطفك إلى الضِّفة الأخرى (…)، وتتذكر الحيَّة الحمراء وقد استحالت إلى رأفةٍ وشدوِ يمامٍ وأمان / تحسّ أنك دخلت هنيهةً في فضاء الأبدية المستحيل. الأعمال الكاملة: 3 – 112.

إنَّ فضاء الأدبيَّة المستحيل هو نفسه مياه الرَّحم الأولى حيث تستعيرُ الثَّعابين لجلد الملائكة، الأعمال الكاملة: 1 – 63، وهو نفسُهُ البحرُ والكأس حيث يغرقُ أمام المغيب في شكلِ تنِّينٍ يفترسُ النَّهار، يقول: سادرا أرقُبُ المغيب / هذا الدَّمَ المنسابُ على أجنحةِ طائرٍ / (كأنَّه) ثعبانٌ يفترسُ النَّهارَ بعينيهِ الدَّامعتينِ بالسَّوادِ / (…) هكذا… هكذا / حتى أختفي مع سكانِِ مدينةٍ / غرِِقَتْ في البحرِِ / أو أختَفي في كأس. الأعمال الكاملة: 1 – 149.

*د. الهواري غزالي استاذ محاضر في جامعة باريس