خالد المعمري*

يرصدُ الشعر العماني في كثير من نصوصه الحديثة ذاكرة المكان العماني، وينطلق منها في تشكيل نصوصٍ مرتبطةٍ بالواقع المكاني. وتُثير هذه النصوص أسئلة مختلفة في عملية الاستعادة، لماذا المكان العماني بالتحديد؟ ولماذا يعمد الشاعر إلى استعادته وتمكين دلالات الشعر وجمالياته أحيانا في عملية الاندماج الشعري؟ ولماذا يتحول النص الشعري إلى فضاءٍ موازٍ للفضاء الواقعي؟ إنها أسئلة ناشئة من عملية الاقتران بين الواقعي والمتخيل، أسئلة تأخذ من المرجعية صورتها الشعرية وتعمل على إعادة إنتاجها؛ لذا فإنّ المرجعيات المكانية تتشكّل وفق رؤية شاعرية تتوسع أحيانًا في النص، وتميل أحيانا إلى الاختصار، كما تعتمد على الذاكرة في استعادة طفولتها المكانية، وإعادة ترتيب المكان الواقعي برؤية شعرية فلسفية.

ويمكن القول إنّ سيف الرحبي من أبرز الشعراء الذين كتبوا شعرا في المرجعيات المكانية، سواء المكان العماني أو غيره، فجاءت نصوصه مستعيدةً الأمكنة العمانية بذاكرتها وفضاءاتها وشخوصها، فنجد المكان العماني مثلا في قصائد: (قصيدة حُبّ إلى مطرح)، و(بورتريه إلى سرور)، و(سيجارة بحّار مُسِنّ)، و(شاطئ الحيل)، و(من الجبل الأخضر إلى نزوى)، و(سمائل)، و(الجبل الأخضر).

إنّ سيف الرحبي في نصوصه يُعيد استنطاق المكان، وإعادة تأثيثه بالأسطورة حينا، وحينا بالموروث الشعبي العماني متقاطعا مع اللغة في تشكيل المكان الشعري وتقديمه في لوحة شعرية.

في نص (بورتريه لسرور) يعتمد الرحبي على التصوير البصري في تكوين الصُّوَر؛ فالنص أقرب إلى اللوحة/ البورتريه التي يصنعها الرسّام مختصرا دقة الجمال في مشهد بصري عالي التركيز، وهذه الفكرة بما فيها من صُوَرٍ صنعها الرحبي لبلدته سرور، فهي إذن تتقاطع مع الرعيان والحطاّبين والسَّحَرة والمُغَيَّبين والفجر والسيول والبروق وصائد الوعول وعرّاف المياه في نصٍ شعري قصير يختزل جمال القرية وذاكرتها وأساطيرها وموروثها بما يُشبه البورتريه، يقول الرحبي: لَنْ يعودَ اليومَ حطَّابوكَ ورُعيانُكَ مِنَ الجبال، ولَنْ يعودَ الغَجَرُ حاملينَ فوانيسَهُمْ على امتِدادِ الهِضاب، وكذلك صائدُ الوُعولِ وعرّافُ المِياهِ لن يعودوا إلى بيوتهم هذا المَساءَ، فالسيولُ الكاسرةُ سَدَّتْ منافِذَكَ الوَحيدةَ والبروقُ بحيواناتها الجائعةِ تقصُفُ الطُّرُقاتِ.

لَكِنْ وخَلْفَ التِّلالِ القريبةِ، ألمَحُ الفؤوسَ تلمَعُ في لَيْلِكَ الكثيفِ وأَشْتَمُّ بُخورَ السَّحَرَةِ.

هلْ أبحَثُ عَنْ نيرانٍ أُخرى لحكمَةِ الأجدادِ، وأرحَلُ إلى أسواقِ بَيعِ «المُغَيَّبين؟» أم أرجِعُ إلى مسجدِ الوادي أحضرُ قُربانَ الجُمْعَةِ؟ إنّ سرور هنا مكتظّة بالثنائيات: السحرة والمغيبين، البروق والسيول، صائد الوعول وعرّاف المياه، أسواق المغيبين وقربان الجمعة. إنها نظرة يستعيد معها الشاعر طقوس المكان وتمثلاته في النص، كما إنه انزياح قائم بين التراث الشعبي القروي وبين الطبيعة التي تحتضن المكان، إنها سرور مختزلة في لغة الشاعر ولكنها مرجعية ممتدة للحكايات والأساطير.

إنّ المرجعية المكانية حاضرة أيضا في (قصيدة حُبّ إلى مطرح) التي افتُتِنَ بها الشعراءُ والكُتّاب في عمان، وكتبوا فيها نصوصا تُبيّنُ ملامح جمالها المكاني. يكتبُ سيف الرحبي عن مطرح قصيدةَ حُبٍّ متذكّرا الطفولة في ذاكرتها الأولى هناك: حين تمدَّدتُ لأولِ مرةٍ على شاطئِك الذي يُشبهُ قلبا نبضاتُه مناراتٌ ترعى قُطعانُها في جبالِك الممتدةِ عبرَ البحر.

أُطلقُ بين مُقلتيكِ مَنجنيقَ طفولتي وأصطادُ نوْرسا تائها في زعيقِ السُّفنِ.

نجومُك أميراتُ الفراغِ وفي ليلِ عُريِكِ الغريبِ تُضيئين الشموعَ لضحاياكِ كيْ تُنيري طريقَهم للهاويةِ.

أُبعثرُ طيورَكِ البحريةِ لأظلَّ وَحيدا. أُصغي إلى طفولةِ نبضك المنبثقِ منْ ضِفافٍ مجهولةٍ، تُمزّقُ عواصِفُها أشرعةَ المراكبِ، كم من القراصنةِ سفحوا أمجادَهم على شواطئِكِ المُكتظّةِ بنزفِ الغِربان، كمْ مِن التُّجارِ والغُزاةِ عبروكِ في الحلمِ كمْ مِن الأطفالِ منحوكِ جنونهم مثلَ ليلةٍ بهيجةٍ لعيدِ ميلادٍ غامض؟ القرويون أَتوكِ من قراهُم، حاملينَ معهم صيفاً مِنَ الذِّكرياتِ.

يعمل الرحبي في استعادته للمكان على استعادة صور الماضي والطفولة الكائنة فيه، فيظهر ارتباطٌ وثيقٌ بين المكان وبين مشاهد الطفولة؛ لذا يجيء النص في هيئة مقطع تصويري مكتظّة فيه الصُّوَر والمشاهد في تراكيب مختلفة ودلالات معبّرة عن الهُوية المكانية لمطرح.

ويمزج سيف الرحبي بين الطفولة وبين التاريخ؛ فمطرح بمرجعياتها المكانية فضاءٌ مفتوحٌ على الطفولة وعلى التاريخ وعلى الجَمال والذاكرة والحب والشوق. إنها دلالات قائمة على الفرح والشوق والحب والذاكرة، يستعيد النص ذلك قائلا: مطرحُ الأعيادِ القُزَحيّةِ البسيطةِ والأمنياتِ المخمَّرةِ في الجِرارِ، الدنيا ذهبَتْ بنا بعيدا وأنتِ ما زلتِ تتسلقينَ أسوارَكِ القديمة.

وما بينَ الطاحونةِ و «المثعابْ.» يتقيأُ الحطابونَ صباحاتٍ كاملةً، صباحاتٌ يطويها النِّسيانُ سريعا.

هذهِ القِلاعُ بقيتْ هكذا تحاورُ أشباحا في مخيِّلة طفلٍ، حيثُ بناتُ آوى يَتَجولْنَ جريحاتٍ بينَ ظِلالها كموتٍ محتمَل وحيثُ كُنا نَرى عبرَ مسافةٍ قصيرةٍ ثُعبانا يخْتن جبلاً في مَغارةٍ لمْ أنسَك بعدَ كلّ رَحَلاتي اللعينةِ لمْ أنسَ صياديكِ وبُرصاكِ النائمين بينَ الأشجار.

وفي لغةٍ سردية يكتب سيف الرحبي نَصَّه (سيجارة بحّارٍ مُسِنّ) عن بحّارٍ مجهولٍ في العذيبة كما أشار في عتبة الإهداء. ويتقدّم النص ساردا صورة البَحّار وحركته في بلدة العذيبة بمسقط.

إنّ تأثيرات المكان واضحة في النص باستعمال دلالات البحر القريب من البلدة؛ نجد الشاعر ينطلق من العتبات باستخدام مفردات البَحّار المُسِنّ، والبَحّار المجهول واقترانهما بالسيجارة في دلالتها التي ستنطفئ بعد حين، ومعها يكون المعادل الدلالي قائما على النهايات، هكذا يُقدّم النص صورة البحّار الذي ينظر إلى البحر في آخر حياته التي قضاها بين الأمواج.

تردُ مرجعيات المكان محمّلةً بألفاظ البحر، فقاموسه ثريٌّ بها، إذ نلحظ مفردات: (البَحّار، والمصطبّة، وعظام الأسماك، والجروف البعيدة، وأرخبيل الجزر، والجزيرة، والساحل المهجور، وصورة ابن ماجد، والصاري، والدلافين، والبواخر، وأساطيل الحرب، والموج، والسنارة) التي هي في ذاتها سربٌ من الذكريات والصُّوَر التي تتجزأ من موضعها لتسكن الذاكرة، وباستعادتها يُضاء المكان بدلالات الوداع والرحيل والنهايات، فمنذ إشعال السيجارة حتى انطفائها يبقى المكانُ عالقا بصوره وذكرياته في الذاكرة التي هي مستودعٌ لها: يجلِسُ على المَصْطَبةِ أمامَ بيتِهِ المصنوعِ مِنْ سَعَفِ النَّخيل وعِظامِ الأسماك يُحدّقُ في جُروفٍ بعيدة (بخياله لا بعينه) في يدِهِ سيجارةٌ واستكانة شاي وخلفَ كلِّ نَفَسٍ أو رشفةٍ يسحبُ أرخبيلا جامحا من الجُزُر وراءَ كُلِّ جزيرةٍ سربٌ لا يَفنى مِنَ الذِّكريات وراءَ كُلِّ نَفَسٍ ساحلٌ مهجورٌ تنعقُ فيهِ الغِربان صورةُ (ابن ماجد) رُوحُ صديقٍ ترفرفُ فوقَ الصّاري وراءَ كُلِّ نَفَس رفُّ دلافين يحسَبُه سَواحِل وراءَ كُلِّ نَفَسْ قَمَرٌ مُنطفئ، لكنْ رغمَ ذلكَ ظلَّ يُضيءُ أشلاءَ المقذوفينَ من البواخِرِ وأساطيلِ الحربِ وراءَ كُلِّ نَفَس يَشُكُّ الموجُ بِسنارةِ أيامِه إذ تبرزُ يَدٌ مِنْ شُرفةٍ مليئةٍ بالضَّباب، تُلوِّحُ بالوَداع.

تنتهي السيجارةُ ولا تزال في يدِهِ قطعةُ نقدٍ نَسِيَها ذاتَ مرةٍ بحّارٌ مِنَ المكسيك.

إن مرجعيات سيف الرحبي المكانية قائمة على الهُوية في مضمونها، فالبحر بكل دلالاته هُوية الإنسان العماني، والملاحظ في نصوصه أيضا أنّه قادرٌ على استعادة الهُوية المكانية العمانية وتوظيفها؛ فمن الفضاء البحري إلى القرية ثم إلى الجبل، نجده اتّخذ من دلالاتها ذاكرة قائمة على الاتساع والتمدّد في النص بصورة أعمق، كما ساعدت اللغة والتراكيب الشاعرَ في بناء النصوص وتوظيف المكان والانطلاق منه إلى تكوين صورة شعرية ولغة تعبيرية تتناسب مع هذا المكان

.

*المقالة جزء من دراسة في الشعر العماني ستصدر قريبا.

*شاعر وكاتب من سلطنة عمان