ميسون شقير*
تقول الشاعرة الاسبانية غوادا لوبي غراندي التي رحلت مؤخرا: “أعتقد أن كل قصيدة هي الكلمات الأخيرة لحطام السفينة”، كما تقول الشاعرة السورية سنية الصالح: “إن القصيدة تقف على بعد أميال من النار الشعرية، وهي تقرر مصير العالم، ونحن نستطيع أن نتجاوزها فقط بخفقة قلب”، في حين يقول فرويد “إن مأساة الإنسان تكمن في حاجته إلى الشعر”، وهنا يأتي الشعر بصفته حارس شجرة الحلم، وسيد بذرة الدهشة التي تعيد انتاج أسئلة يعج بها هذا العالم، تلك الأسئلة التي تلجأ إلى الشعر ليس لكي يغلقها بإجابات جافة، بل كي يرفع نبرتها المنخفضة، قليلاً.
سيف الرحبي شاعر ذهب مع الشعر طوال حياته، في رحلات شائكة مليئة بالمخاطر، ليقتحم الأماكن المظلمة، ويُخرج كل خفافيشها إلى الضوءـ وعلى الرغم من أنه أصدر عددًا من المجموعات الشعرية، إلا أنه لم يشفَ من الشعر، ولا من قلقه الشهي، ولا يريد لقارئه أن يشفى بدوره، فكل ما يريده هو أن يجعل القارئ يجلس في صالة الانتظار، وأن يذهب معه إلى غابات التساؤل، وأن يعود به بعدئذ إلى نفسه سالمًا من الجمود والبلادة، سالمًا تمامًا من فكرة المطلق، لقد جعلته كل من حساسيته العالية وشاعريته الفطرية، قادرا على كشف ما وراء قشرة العالم، وعلى الدخول إلى النفس البشرية، وتقديم نص شعري صادم أصيل، وعير متكلف، نص يأتينا من كل الجهات، نابضاً دفاقاً ومؤثراً ينتمي إلى الحداثة، من دون أن يفقد توازنه وتماسكه، ودون أن يضيع في إنتاج الغرابة لأجل الغرابة، بل هو نص يعرف تماماً ما يريد أن يقول:
«طيور بيضاء تعبر الأنهار الكبيرة،
في الليالي الأكثر وحشة من أرامل الحرب.
جُسورٌ وأشجارٌ مغمضة تتنزه
مع العابرين،
وكأنما في متحف من ظلال.
ومن البعيد ترى أشباحهم، تترنح
وسط القناني الفارغة
لبلاهة النهار.
تعرفهم واحداً.. واحداً
كلعنةٍ لا شفاء منها،
كأمجادٍ لا اسم لها.
لقد جاءوا من البيت المجاور لأحلامك،
باحثين عن صدرٍ أكثر رأفةَ من المعرفة
وفي الظلال الكبيرة لفجرٍ مدلهم،
يغيبُ الجميعُ
عدا ضحكة واحدة».
في المسافة ما بين الرقة والرهافة، وبين الذكاء والقدرة على تحقيق المفاجأة والدهشة، تأتي قصائده كحالة مكاشفة لأعماقنا الهشة، في مزيج فريد من البساطة اليومية ومن التفاصيل المعاشة، ومن الانفلات من هذه التفاصيل إلى مدلولات تتجاوزها وتؤسس عالمًا موازيًا أقل وحشة وأكثر قابلية للتفكك، وأكثر قدرة على الاستمرار، حيث يعتمد الشاعر على تبني حالة السؤال التي يجب أن يتركها النص في روح متلقيه مباغتا حادا وغير قابل للهروب، السؤال عن كل ما نعيش، عن الحب، وفقده، عن الجسد وسخريته، عن الغربة، عن الحنين، عن الضياع والانتماء، وعن كل ما ضاع منا من أسئلة على الطريق حين كنا مشغولين فقط بالوصول، مراهنا أيضا على إمكانيات الشعر اللامحدودة في صنع مرايا تحيطنا وفي تحطيم هذه المرايا لنفسها كلما لاحت صورة جديدة تجعل قلوبنا تقف على رؤوس أصابعها من فرط اللذة:
«في الصباح المبكر
والنوم ما زال أفقاً مكتنزاً بالمرايا،
تمشي خطوتين، متعثراً بأحلامك..
أحلام أنيقة عن مذابح
عن نساءٍ بعيدات.
السرير، وحيد ومأهول بالريح
)من أي نجد أتيت
هذا الصباح، أيتها الريح؟ (
خطوة ثالثة تصلك بالمريخ
بعد أن تكون قد أفرغت النافذة
من البكاء.
تجلس أمام الموقد بكف أصفر.
الحيطان تبلع ريقها الجاف،
الشمس تتسلل بين الشقوقِ
ذئبة وديعة
والركوة تغلي، مثل مدينة يتشردّ
سكانها في رأسك».
وكما يقول جان كوكتو فإن الشعر الحقيقي «هو تزاوج الوعي باللاوعي»، من خلال تصعيد حالة الصراع مع أنفسنا التي لا تتوقف، والتي تعيد نفسها كلما خبت، تأتي قصائد سيف الرحبي كثقب في جدار حياتنا السميك، ثقب يسمح لنا بالتلصص بحرية على أنفسنا، وبالولوج إلى عوالم كنا قد خبأناها حتى عن ذواتنا وعن وعينا، مثلما خبأناها عن الآخرين:
«في ضوء الفجر، في ضوء الفجر الجميل
في ضوء هذا الفجر الأصم الذي لا يسمع ندائي
في ضوء السماء التي تمرحُ القطايا في شغافها
في انسلال الجناح المغتبط بطيرانه
فوق الجبال
في شروق العاصفة وهي تحملُ حقل أبي
إلى بلدٍ آخر
في هذا الضوء الشامخ
أكد لي الموتُ جلّ مواهبه الفريدة».
إن شخصية الإنسان المتعلم الجاد، المتعامل مع مشروعه الفكري والأدبي بمنتهى المسؤولية، وبقناعة عميقة بضرورة الثقافة لإنتاج ما يستحق أن يبقى، قد توضّحت لدى الشاعر سيف الرحبي من خلال رؤيته الخاصة للحداثة الشعرية، ومن خلال قبوله الآخر، واحترام الإبداع الحقيقي بأي شكل كان، وكذلك من خلال مفرداته ورموزه التي استخدمتها:
«لا أحد يقيس نبض الإعصار
لا أحد يستطيع
عدا صديقي الحكيم
الذي يحاول ترويض العاصفة
ويستيقظ في وحشة الليالي
لإسعاف الضحايا».
وبضمير المتكلم الذي يصل إلى العالم من خلال شدة الحالة الشخصية التي يقولها، بهذا الضمير القابل للتفرد والجمع، والقادر على محاكاة الذات والكون يؤثث عمارته الشعرية التي تصله بكل سكان هذه الأرض:
«الافلاسُ طيري الأليف
ربيتهُ بحنان المحبين
فقادني بين المدُن بمعرفةٍ خاصة».
نعم، ربما نحن نكتب للتعبير عمّا لا يوصف، وعمّا لا يزال يتعيّن قوله، وعمّا يحدث في مناطق العقل القوية، عن الذهول، وعن الرفض، وعن عدم الراحة، عن التمرّد، والدهشة، وعن الحب، نكتب من مفهوم الشعر الذي لا يقبل التعصّب الواقعي. وكما يؤكّد لويس أنطونيو دي فيلينا، فإن القصيدة تصل إلى أنفاسها الطبيعية، وتدفّقها العميق، من خلال تشويه وزعزعة السائد.
وبما أنه «لا فكاك عن اليوتوبيا، فهي حقيقة الغد»، على حد قول فيكتور هوغو، فلا بد لنا إذا أن نقول إن سيف الرحبي حاول ولا يزال يحاول أن يعيدنا إلى أنفسنا سالمين، حيث تعبرنا قصائده كسهم قتيل، سهم من الدهشة والمرارة ولذة الاكتشاف والنسيان، ومن تلك الرعشة الشعرية التي تصعقنا كسيف.
*ميسون شقير: شاعرة وصحفية من مواليد عام 1969 مدينة السويداء جنوب سوريا، تقيم في مدريد منذ نهاية عام 2014. حاصلة على جائزة الشعر التي تشرف عليها جامعات دول البحر الأبيض المتوسط في روما عام 2022، وكذلك جائزة المزرعة الأدبية لعام 2008 عن مجموعتها الشعرية «اسحب وجهك من مرآتي»، وجائزة اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين لعام 2008 عن قصتها «لم أنم حتى أستفيق».