محمد حجيري

ي آخر تواصل عبر “الواتس آب” مع الشاعر العُماني، سيف الرحبي، قال: “حُرمنا من بيروت فصار صدع في الحياة ومحطاتها”… أضاف: “السنوات الأخيرة التي لم نذهبْ فيها إلى بيروت، أحسستُ عميقاً بالفقد الحقيقي والفراغ يملأ الأرواح والقلوب، رغم أنّي حاولتُ أن أعوّض هذا الفراغ بأسفار كثيرة، شرقاً وغرباً، لكني لم أشفِ ذلك الغليل والظمأ إلى تلك المدينة التي كنا نحدق في مراياها الى الثقافات والأزمنة والصداقات الحميمة، كما عبّر الصديق صبحي حديدي وكأنما يعبّر عن جميع اولئك الذين مسّهم سحر بيروت، وكرمها العميق، حتى وهي ترفس وسط الحروب والأزمات، لأن كل مثقف عربي يحمل على عاتقه دَيناً لتلك المدينة المنكوبة راهناً، سواء عاش فيها أو تردّد عليها أو لم يعش، فلا بدّ أن يحمل شيئاً من ذلك الدَين”.

لطالما كانت بيروت في وجدان الشاعر العماني من ضمن جولاته ومحطاته، يزور مدن العالم وأقاليمه بلا توقف، ويزور بيروت، عاشقًا متسكعًا، جالساً على رصيف بحرها. فهو يحبّ الترحال والسفر لأنه جزء من حياته الفردية والذاتية بعيدًا من نسيج الجماعات الاهلية ووهم السلالات والقرابة. وقال في لقاء بيننا قبل أن تنفجر ألوان المدينة ويحلّ عليها السواد والرماد، إنه يحاول ألأّ يرى المدن التي يزورها غالبًا بعين المقيم والمستقّر، وإنما بعين العابر والرّحّالة والمشّاء. يضمن له هذا العبور نوعًا من عدم الاندماج في النسيج الاجتماعي، جراء طبيعة قلقة، تكوّنت عبر فترات زمنية طويلة نسبيًا رغم تباين هذه المدن واختلاف أجوائها ومناخاتها الاجتماعية والثقافية وحتى الطقسية الطبيعية.

المرة الاولى التي زار فيها الرحبي بيروت كانت في العام 1970 قبل الحرب. كان وقتذاك في الثالثة عشرة من عمره، ومكث في بيروت نحو خمسة أيام، ويتذكّر صورة المدينة على نحو ضبابي رومانسي، كما في الكتب والألبومات أو في الصور التلفزيونية والسينمائية بالأبيض والأسود. ثم زار بيروت في أواخر السبعينيات، حين انتقل بشكل نهائي من القاهرة إلى دمشق التي أمضى فيها قرابة خمس أعوام، وتنقل بين دمشق وبيروت ومدنٍ أخرى وكانت حينها الحرب على أشدّها، وكانت “جمهورية الفاكهاني” التي عرف فيها الكثير من الأصدقاء. لقد أغراه سابقًا في بيروت تعبير “النموذج الثوري” في مستواه العربي، لكن في الفترة اللاحقة حتى هذا لم يعد هاجسه، ولاحقاً صار يأتي الى المدينة كي يستمتع بواقع تناقضاتها ورعبها وجمالها، كمعيشٍ ومتخيّل أدبي.

حتى في مراحل كنا نعتبرها تشاؤمية، نحن القاطنين في بيروت، كان سيف الرحبي يزور المدينة ويتسكّع، يصبِّح على البحر، ويمسِّي على المقهى، يلتقي الأصدقاء ويكتب اليوميات والتأملات والشعر. لكن يبدو أن بيروت الآن في مرحلة ما بعد بعد التشاؤم، هي في مرحلة النكبة الخالصة والمخاض العسير والصعب، في زمن الرثاثة الذي يجعل أي عاشق لا يفكر بالمجيء إليها. ففي العام 2022 أصدر كتابه “رحلة إلى جبال سراييفو” ويعد الكتاب مزيجًا بين الشعر والنثر؛ أجواء الكتاب يخيم عليها واقع تفشي فيروس كورونا والمظاهر التي صاحبت تلك الجائحة الكارثية. ويستحضر سيف الرحبي من وحي جماليات طبيعة لبنان، الذي يعيش الآن تحت وقع أزمة اقتصادية آثمة. كما يربط الشاعر، الذي يتطرق بحسرة إلى الواقع اللبناني الراهن وأزمة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، بين تاريخ لبنان الحديث المليء بالصراعات والنزاعات الطائفية والأهلية، وبين تاريخ البوسنة والهرسك الذي شهد هو الآخر فظائع ومذابح عرقية ودينية ضد المسلمين بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي.

ومَن يستعيد جزءاً من كتاب “أرق الصحراء” الذي نشره سيف الرحبي العام 2005، ويتضمن جانباً من يومياته في بيروت، يلاحظ كم تبدّلت المدينة وانقلبت رأساً على عقب، سواء في مقاهيها القديمة التي أقفلت (المودكا، الويمبي وسيتي كافيه) أو وسطها الذي تعثر وأصبح خاوياً أو أشبه بمدينة أشباح أو روادها الذين رحل عدد كبير منهم وكان سيف يلتقيهم في خلال زياراته وفي سهراته.. صورة يرسمها سيف للنسيج الثقافي في بيروت، وقد تبدّدت الآن بالكامل. صورة لمدينة تشظّت معالمها، اغتيلتْ

يقول سيف: “كل مدينة أكون على وشك الرحيل نحوها، تسبقني إليها الأحلام، أحلام كثيفة أعيش أحداثها، ووقائعها طوال الليل. وكالعادة تبدأ بداية طيبة تقترب من نشوة السعادة، لكنها في مسارها المتموج هذا، لا تلبث أن ترتدّ الى نهايات كابوسيّة مفزعة”.

ولعل بيروت الآن كابوسية بامتياز، قبل الرحيل نحوها…