الكويت – محمد الأسعد
منذ العام 1980 وسيف الرحبي يواصل مغامرة شعرية جميلة ومفتوحة على أكثر من احتمال، جميلة بسبب حوارها مع تراث ((قصيدة النثر)) الأكثر حرية في التعامل مع التجربة بأداة مرنة وطيعة الى حد ما وتلقائية بلغة النثر ومفتوحة على الاحتمال، لأنها لا تتوقف عند هذا الحوار مع ماضي قصية النثر وأشهر أعلامها (الماغوط وأنسي الحاج وتوفيق صايغ)، بل تحاول تجاوزه نحو صوتها الخاص.
الكثيرون استفادوا من ممكنات هذه القصيدة، بعضهم بتهيب وخشية حذر أن تكون المغامرة غير مجدية منبريا وجماهيريا، وبعضها اندفع إليها واعطاها ممكناته. ولكن كلا النوعين لم يكن يحسب خطواته أو يعي أين يضعها، فبعضهم ظهر وكأنه سفينة غادرت السواحل وظل يحلم ويحن إلى العودة، وبعضهم لم يعد يحلم حتى بوجودها، وأمعن في رحيله. هكذا تتبدى تجربة الرحبي عصفا بلا مرسى، وإبحارا لا غاية له سوى الإبحار ولكن هذه الكلمات غير دقيقة فالعقل القارئ يطالب بتحديد أكثر دقة لما يعنيه ابحارا بلا عودة، وعصفا بلا قرار. فما الذي تعنيه قصيدة النثر عند الرحبي؟ أو ما الذي تعنيه في اصفى نماذجها وأكثرها قدرة على توظيف الشعرية بأداة النثر؟
هنا لابد من اقامة مقارنة سريعة. لدينا سواحل القصيدة التقليدية المألوفة، ذات المنارات والصور والتعرجات الهادية، نعني الصيغ الإيقاعية والمعجمية التي حافظت عليها قصيدة الشطرين أو ((مصفوفات الطابوق)) المنتظمة، ولدينا قصيدة التفعيلة التي عبثت بهذه المصفوفات، فجاءت على غير انتظام عند بعضهم (السياب وحاوي وأدونيس والبريكان وحجازي… الخ) وجاءت على شيء من الانتظام الذي يحيل الى سلفها ذي الشطرين (نازك الملائكة، وعبدالصبور وفدوى طوقان… الخ).
ولدينا في الجملة المقابلة بحار القصيدة النثرية، غير المألوفة، حيث لا منارات ولا صدى ولا تعرجات هادية، بل حركة ايقاعية تتخلق مع كل سطر، بل ومع كل شاعر، كما هي لدى الماغوط وأنسي الحاج وتوفيق صايغ ارتداداً الى أوائل القرن العشرين كما هي عند جبران خليل جبران، وأمين الريحاني.
المغامرة المقيدة
في هذه المقابلة تبدو لنا فروق جديرة عدة بالانتباه جوهرها وفاء النوع الأول والى حد ما النوع الثاني من قصائد المصفوفات (التفاعيل) للصيغة. للقالب الوزني والمعجمي. ذلك الذي يسند الانشاء الشفاهي في القصيدة التقليدية  والذي تواصل ودخل في القصيدة المكتوبة (البارودي وشوقي والجواهري وبدوي الجبل والبردوني… الخ) وتخلص قصيدة النثر من التراث الشفاهي بكل صيغه، واعتمادها على ذبذبات الشعور والتجربة الخاصة، بكل شاعر، قيل في تعليل هذا الفرق الجوهري ان قصائد المصفوفات مكتوبة للأذن، والثانية مكتوبة للعين، ولكن الفرق اعمق من ذلك، إنه التطابق بين الصيغ الوزنية والمعجمية في المصفوفات وغياب هذا التطابق في قصيدة النثر.
صحيح ان قدرة شاعر المصفوفة عل تحوير الصيغة وتوليد صيغ أخرى ملحوظة إلا أن هذه القدرة محدودة، أي أن مغامرته محكومة بقواعد، وانحرافه أو انزياحه مشروط بهذه القواعد، سواء أكانت تتعلق بطبيعة المجاز أم بطبيعة الأعراف الايقاعية (انتظام الأشكال او الحفاظ على التفاعيل). ولهذا نلاحظ امتلاك شعراء هذا النوع للقدرة على التطريب.
(منشأ التطريب البناء على المألوف أو نصفه ايقاعا وصوراً) فالمستمع (وهو شعر سماع) يستطيع اكمال العبارة قبل أن ينطقها الشاعر في غالب الأحيان بمجرد معرفته بالمذهب (الوزن). والسبب هو ان الشاعر يخاطب هنا صيغا مركوزة في ذاكرة المستمع (مذهباً وفكراً)، حتى وان حاد عنها قليلا يظل مربوطا بها مثل البندول جيئة وذهابا، مما يساهم في استنهاض قدرة المستمع على استكمال المعنى والصورة الثابتة من حيث الجوهر والاهتزاز طربا.
طائرة ورقية أفلتت
في قصيدة النثر كل شيء يجري عكس هذا أو ضده بالأحرى. فالتطريب مفقود (ونعني به التوصيل) لأن الشاعر يقطع الخيط الذي يشده الى الصيغة المألوفة  ولا يعود يتذبذب مثل بندول الساعة، بل يتحرك مثل خيط في فضاء انه طائرة ورقية، أفلتت من يد المستمع وما عاد يدري أهي طائرة ورقية أم عقاب تائه أم غيمة.
ما نعنيه بهذا ان شاعر قصيدة النثر لا يدفع بصور تامة، أو أفكار تسمح للمستمع بالزهو أو الاعتزاز بقدراته، بل بحالة من الصور تبدو منبتة الصلة بكل ما يعرف، لا حدود لها وتحويراتها وانحرافاتها لا قاعدة مفهومة لها. انه شاعر لا يقول ولا يتكلم، بل ينطق عن ((صبابة)) على حد تعبير قدامة بن جعفر في تمييزه بين نوعين من الشعراء، أحدهما ينطق عن صبابة والآخر يتكلم ويكاد شاعر النثر المعاصر أن يكون الأكثر وفاء لمطلب حازم القرطاجني الذي هاله خروج الشعراء من ((مهيع الشعر الى محض التكلم)) فعاد الى الشعر تاركا محض التكلم.. لغيره.
في مجموعته الأخيرة ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) (2000) يواصل الرحبي هذا الانفلات الدائم من المركوز والمتذكر في ذهنية المستمع والقارئ معا في جدله مع ممكنات بحر قصيدة النثر الذي لا تظهر أرض وراء أمواجه، وان ظهرت أحيانا نوارس توحي بوجود أرض، إلا أن القارئ سرعان ما يتبين ان هذه النوارس شأنها شأن الشاعر ليست بصدد التحويم حول شاطئ، بل هي ممعنة في رحيلها أيضا.
كل شيء راحل مثل صور تتدافع في فضاء، تحكي قصة أو تلمح وتشير، ولكنها لا تقول شيئا محددا بالمعنى التقليدي، أي بمعنى بلورة مغزى أو نتيجة، القصيدة لا تتكلم، بل توجد وبدل أن يتحدث الشاعر عن الموجة يترك لسطوره أن تكون هي الموجة وبدل أن تتحدث عن الطير تحاول أن تكون طيراً (ماكليش ويتمان، باوند… وآخرون).
كل هذا سيبدو غير مفهوم، ولكن من قال ان الصور يمكن أن تفهم؟ أو أن يكون لها ان ترجع في النهاية الى مفهوم محدد ووحيد؟
يخرج شعر الرحبي على أشياء عدة مألوفة فنحن معتادون على أن تأخذ العبارات برقاب بعضها بعضا وتفضي احداها الى الأخرى ولكن هذه العبارات هنا لا تفضي الى بعضها إنها تتجاور بالأحرى، ويتأجل المعنى أو مجمل  الحالة الشعورية الى النهاية:
هذه العظمة التي أقلبها بين اصابعي
عظمة قاطع طريق في القرون الوسطى
عظمة الكاحل لعاشقة
في هضاب غرناطة وبيروت
عظمة الغراب الأول في الخليفة
ونحن معتادون على أن يقول لنا الشاعر لماذا وأن يفسر، وان يعلق، ويسرد حكايته بمنطق البداية والنهاية، ولكن ما تخرج اليه هذه القصيدة يظل عالماً مفتوحاً، لا انغلاق فيه شلال صور تتقاطع حاملة معها أمكنة متباعدة وأزمنة لا ربط بينها (منطقياً) تتجاور على مساحة بياض الورقة فكأن الشاعر يذكرنا بالمعمرين في التراث السردي العربي، أولئك الذين يعيشون الأزمنة والأمكنة، التي لا يتسع عمر الانسان الطبيعي، ولا ذاكرته للجمع بينها:
العقبان تسطع في الظهيرة
كأنما تسبح في ظلام خاص
بعيون مغمضة قليلا وناعسة
روحها القلقة تحلق فوق المدن
التي بنيت على عجل
من رفات حطابين وجماجم قتلى
لكل أن يرقص في سلاسله
لماذا أتذكر أشياء من تراثنا الشعري؟ لماذا قدامة بن جعفر والقرطاجني؟ أو لماذا تذكرني شعرية الرحبي بهذه الملتقطات الذهبية في غبار القرون؟
لان الشعرية اختلطت لدينا بغيرها، بالصيغ التقليدية بالقواعد المقررة (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) بمقولات تحاول دائما أن تبرر الشعر بغيره، وكأنه لا يحمل تبريرا بذاته هل لاننا لم نفهم الشعرية؟ هل لأن هذا الطائر العجيب الذي نلمحه أحيانا في قصائد راثنا غيبته العادة وغيبه المكرور، وحوله إلى ((معنى)) و((عرف))؟
وحنطه واستنسخ منه نسخا تباع في حوانيت الأكاديميين والكسالى وأعداء الشعر والشعراء؟ كل هذا وغيره يقف بين القارئ وبين الشعرية وتقف حالة ثقافية منحدرة فقدت حتى قدرتها على تلمس الابداع والجديد (الكثير من الحقائق لا تجد صدى في وضعية ثقافة متعبة) إننا نمجد الايحاء والإشارة والتلميح والتصوير ولكن بشروط وهنا نفقد القدرة على رؤية وقيمة ما يخرج على شروطنا نحن أناس المشروط والمقبول والمألوف ترابطت في ذاكرتنا الشعرية في القصيدة بالطرب والمفهوم وابتعدنا عن التجربة والممكنات وغرقنا في أغاليط مكرورة وحين يأتينا شاعر مثل الرحبي من خلال شبكة المادة الحيّة الاحساس بالأشياء لا من خلال المفاهيم، نشعر اننا نضيع ويفلت منا خيط القصيدة وعصفورها معا وحين يأتينا شاعر حقيقي لا يولد من المعجم ولا الديوان العتيد، بل من اختلاطاته والحمى التي تأكله والمغامرات الروحية التي تتكشف له، لا نحاول أن نسأل أو نشك، بل نرجع الى مرجعياتنا المألوفة وأكثرها فجاجة انني احترم رأي القرطاجني في الشعر مثلما، أحترم تجربة الرحبي وكل مغامر مثله على حدود مجهولة بالنسبة لي، وأعطيه الحق بان ينتسب الى ((الشعرية)) لا على ((القصيدة))، فالقصيدة، تقليدية أو تفعيلية انجاز متحقق ولكل أن يرقص في سلاسله ولكن الشعرية بحر من الممكنات يمكن أن تتجسد في هذا الشكل أو ذاك.
ويمكن ان تكون في سطور حكاية أو حكمة أو رؤية أو لوحة لا يقين في عالم الشعرية إلا إنني على يقين بأنها لم تكن يوما مما تهتز له الرؤوس وتطرب او تصفق الأيدي وتتعب من التصفيق إلا في عصور انقضت بما لها أو عليها الى حين كانت الشعرية متلبسة بحالات غريبة عنها، حين كانت ((محض التكلم)).
سيف الرحبي
–   من مواليد قرية سرور- سمائل- سلطنة عُمان في العام 1956.
–   درس في القاهرة وعاش في بلدان عربية واوروبية عدة.
–   ترجمت مختارات من أعماله الشعرية الى لغات عدة مثل الانجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والبولندية.
–   أصدر عددا من المجموعات الشعرية بلغت احدى عشرة مجموعة آخرها مجموعة ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) في عام 2000.
–   يعمل حالياً رئيساً لتحرير مجلة ((نزوى)) الثقافية الفصلية في مسقط.
الزمن (23/9/2000)