سيف الرحبي في مجموعته الشعرية الجديدة “قطارات بولاق الدكرور”
لا خروج من النفق إلا بالانتقال من الموت إلى الموت
المستقبل – الخميس 4 كانون الثاني 2007 – العدد 2492 – ثقافة و فنون – صفحة 20
جهاد الترك
يبدو سيف الرحبي في أحسن أحواله الشعرية في ما نقرأ له من نصوص في كتابه الأحدث “قطارات بولاق الدكرور” الصادر عن دار منشورات الجمل. الأرجح أنه بات، في هذه المجموعة، أكثر قدرة على الاستجابة لسبل الكتابة الشعرية ووسائلها المعقدة. والنتيجة المتوقعة، على الأغلب، أن اشراقاته، على هذا الصعيد، أصبحت أقرب الى نسيج المادة الشعرية وطبيعتها المتحركة، بسرعة، في فضاءات الأشياء وتكويناتها الغامضة. ومع ذلك، قد ينطوي هذا التصور، على ما لا يدخل الطمأنينة الى قلب الشاعر. فهذه الأخيرة ليست من عجينة الشعر في شيء. لا بل إنها نقيضه وعدوه التاريخي الذي يتربص به للنيل منه، وهو يندفع صعوداً ليستكمل رحلة لن يكتب لها النجاح، على الاطلاق. قد ننظر، بعين الريبة والذهول، الى شعراء يزعمون أنهم حققوا درجة عالية من الصفاء الذهني و”الروحي” بعد أن دونوا على الورق معادلات شعرية، فاطمأن بالهم واستكانت أحاسيسهم في بوتقة من الرضا على الذات. وقد نتساءل، في الوقت عينه، عن مصير ذلك الشعر الذي يزعم أصحابه أنه أرسى في نفوسهم حالة من البهجة والتوازن تشبه تلك التي يتحلى بها القديسون والأولياء ومن لف لفهم. ونسأل، في هذا المجال، هل ثمة شيء من الشعر في هذا النمط من الشعر؟ ربما القليل منه إذا شئنا توخي قدر من الموضوعية المحايدة. أما ما تبقى من هذا الشعر، وهو الكم الأكبر من هذه المادة العصية على الإذعان والاستيلاء والمصادرة، فقد جرى “اغتياله” على الطريق، بالتبسيط، والاحساس المزيف بالطمأنينة المبتذلة، والقناعة الكاذبة بأن للشعر حدوداً إذا ما تخطاها سقط في الهذيان التافه.
عبث الطمأنينة
ليس في هذه القناعات ما يحمل على الاعتقاد بجدواها. باستثناء أن في الشعر قوة كبيرة على التضليل والعبث بالعقول، وأحياناً قتل الرؤيا الشعرية في مهدها. ثمة استثناء آخر لا يقل خطورة وارباكاً، يتمثل في أن الشعر يحمل في رحمه نقيضه. يمارس على نفسه تدميراً ذاتياً لا رحمة فيه، غالباً ما يسفر عن رغبة عارمة في اضطهاد نفسه وتعذيبها بقسوة حتى تتلفظ بفعل الاستسلام. عندئذ، ينزاح عن هؤلاء الشعراء، بالتحديد، كابوس الشعر، فتعود اليهم طمأنينتهم وهناء العيش. في العادة، يلجأ هؤلاء الى المنطق التبريري المتوقع. يقولون إنهم أخذوا حاجتهم من الشعر، أو أن هذا الأخير قد أعطاهم أكثر مما يستحقون. وقد آن أوان الاقلاع عن الشعر بعد أن تحققت الغاية منه. ليس الأمر كذلك، على الأرجح. الأغلب أن ثمة خللاً عميقاً طرأ، في الطريق، على حساباتهم الشعرية، فأجهضت ذاتياً، والأصح، في أسوأ المواقف، أنها انتحرت نتيجة لعقم أصاب الذاكرة فجرفتها الريح الى الفراغ. الشعر، والحال هذه، قد ينزل بصاحبه، أشد أنواع العقاب، إذا ما خيل اليه، لحظة واحدة، أنه بلغ مأربه منه. فاطمأن اليه. وقد ينقلب عليه مجرداً إياه من سائر القدرات أو الامكانات التي اعتقد، للوهلة الأولى، أنه بات بمقدوره التذرع بامتلاكها. أخطر ما في الشعر، في هذا المجال على الأرجح، هو ألا يستدرجه الكاتب الى دائرة العداوة. أن يظل الاثنان رفيقي درب، لا يثقل أحدهما على الآخر حتى لا يتحول الحب بغضاً.
سيف الرحبي، على ما يبدو في نصوصه الثلاثة والأربعين، بات في موقع لا يبتعد كثيراً عن شروط علاقته بالشعر. بل إنه يقترب كثيراً من تلك الماهية الشعرية التي لا تدعو الى الاطمئنان الدائم أو المطلق. بل على النقيض من ذلك، تثير من الأسئلة والتساؤلات أكثر مما تطرح من الأجوبة والقناعات، على قاعدة أن ما يصل الشعر بالشاعر هو تجاذب وإحباط وهزيمة وفرح مشوب بالاكتئاب العميق. قد يبدو أهم ما في النصوص المذكورة، أن الكاتب يبقى سائراً خلف ظلال الشعر بعينين واسعتين تريان بوضوح ما يتدفق به الشعر من صور ومكتشفات من دون تبجج أو تكلف أو احساس بأي غلبة على الشعر. يخطو بصمت مطبق مقتفياً أثر الشعر. يلملم من حوله آثار أقدامه. يضعها في جعبته واحداً تلو الآخر. ثم لا يزعم بأنه عثر عليها. والأرجح أنه لا يطمئن لها، ولا يتيقن منها، ولا يمني النفس بها. فهي لا تعدو كونها آثاراً آيلة الى الزوال، لأنها ليست من صنف الحقيقة القاسية، بل من نسيج الوهم الذي ان صدقته غدر بك وألقى بك في متاهة الانهيار. تقنيات ذكية تنطوي على دربة عتيقة لا يستهان بها، يستخدمها سيف الرحبي بمهارة لافتة ليوطد علاقته بالشعر وفقاً لشروط هذا الأخير، على ألا يطعن أحدهما الثاني في الظهر. لا يجفل الشعر من الكاتب، ولا يقدم الشاعر على الإخلال بالمعاهدة غير الموقعة بينهما. المهم في هذه العلاقة الجدلية بين الطرفين ألا يرتعد الشعر خوفاً فيهرب، وألا يحس الشاعر بالهزيمة فيهزم مرتداً على أعقابه وهو يجر ذيول الخيبة. على هذا الاساس يتقدم سيف الرحبي حثيثاً بهدوء شديد وهو يتلمس ظلال الشعر البعيدة واضواءه الخافتة بصبر وخجل، من دون تذمر من هذه المشقة التي يصعب الخلاص منها متى حلت لعنتها على الشاعر. والغريب أن ثمة ما يدعو الشاعر، في هذا السياق المعقد، الى الإحجام عن التقاط الرؤيا بكاملها. لا يفعل ذلك أبداً ولا يتجرأ على الادعاء أنه قادر على ذلك. يأخذ منها ما قل ودل. ثم يتراجع قليلاً الى الوراء وهو مكتفٍ بما حصل عليه. ثم يحاول الكرة ثانية وثالثة ورابعة… وهكذا دواليك. وذلك على نقيض الأكثرية الساحقة من الشعراء الذين يسعون الى الارتواء بالكامل من ماء الشعر بعد مرحلة طويلة من العطش القاتل، لا نعثر، على الأغلب، على عطش من هذا القبيل، وعلى اغتنام لفرصة الارتواء الجشع من هذا القبيل أيضاً. قد يعزى السبب في ذلك، الى خبرة الشاعر في عدم الانجرار بعيداً خلف الرؤيا المحددة. يبقي على مسافة تجعله قادراً على التحكم بشروط اللعبة بحيث لا يجد نفسه مضطراً لكشف اوراقه جميعاً. وهو في الآن عينه، لا يطلب من الشعر أن يكشف أوراقه جميعاً حتى لا يسقط في متاهة الخداع. فهو يدرك، على الأغلب، أن الرؤيا الشعرية ذات قوة جاذبة عمياء ما إن تحكم قبضتها على الشاعر حتى تمارس عليه سيطرة كاملة قد تحيله حطاماً منثوراً.
يكتب الشاعر في نص عنوانه “أقدام”:
آثار أقدام هاربة على الأرض
مع خيط دم مسترسل الى اللانهاية
يتبعه القفّارون والكلاب
وشاحنات البوليس
تلك زاوية من اللوحة الكلية للمدينة
مع كل زوال
تجليات المدينة
يقتطف الشاعر، في الأسطر القليلة أعلاه، أحد تجليات المدينة وهي تنزل العقاب بمن سولت له نفسه العبث بشروط السلطة التي تزعم أن لها قدرة مطلقة على مقدرات التاريخ والجغرافيا، بمعنى مكان المدينة وزمانها في لحظة محددة. الشاعر يقتفي آثار الاقدام الهاربة بعد أن ينقل صورتها في الشارع الى أزقة الذاكرة. يجردها من علاقتها الحسية بالمكان والزمان لتصبح دلالة قوية على أبرز سمات الخارطة الداخلية للمدينة وهي تصطاد أبناءها في أزمنة القهر والاعتداء الفج على الحريات السياسية والإنسانية. إنها ضريبة الانتماء إلى المدينة في مرحلة يندر فيها الانتماء الى غير أشباح الخوف وأصنام القهر. هذه هي الصورة التي شكلها الشاعر في ذاكرته عن قسوة المدينة وعنفها وانتقامها. غير انها تشكل، في الوقت عينه، إحدى الوسائل التي يلجأ اليها الشاعر وهو يحيل هذا المشهد كائناً شعرياً حقيقياً وحياً. إن إعادة صوغ للمدينة، على هذا النحو، قد لا يعتبر، على الأرجح، تورطاً عميقاً ومبكراً للشاعر في التداعيات الناتجة من هذا الزمان والمكان المحددين. إنه رسم أولي لصورة المدينة، يشبه، الى حد بعيد، الإطار العام الذي يضعه الرسام للوحته المقبلة. الخطوة الثانية هي الأهم لأنها تمثل انتقالاً فعلياً من العام الى الخاص يبادر فيها الشاعر الى إعادة انتاج للمشهد بما يتوافق مع شروطه الشعرية. نلحظ، في هذا السياق، أن رؤيته الشعرية تكتفي بإعادة تشكيل آثار الاقدام وخيط الدماء ومطاردة الكلاب وشاحنات البوليس لأشخاص لا يذكرهم الشاعر في النص. وتختتم الصورة بما يشير الى انها أحد تقلبات المدينة وهي تصنع حياتها السرية في الخفاء أو وراء الكواليس.
من الواضح، على الأرجح، أن الشاعر لا ينقاد الى أبعد مما ذهبت اليه إعادة صوغ المدينة في أحد تجلياتها العنيفة. يوقف الرؤيا الشعرية عند هذا الحد على الرغم مما تنطوي عليه من أفكار ومشاهد أخاذة وجارفة. لا يستسلم للطمأنينة المخادعة التي يمارسها الشعر على الشاعر. وهو في ذلك لا يزمع على استنفاد المعنى لمصلحة الحركة الجاذبة القوية للشعر. وفي هذا ضرب من الصنعة المحترفة المقصود بها العودة، من جديد، الى ما تبقى من رؤى غير مستكملة يزورها الشاعر في وقت آخر. والأغلب أن هذا الأسلوب “الماكر” إذا جاز التعبير ينطبق، بشكل أو بآخر، على معظم النصوص التي يشتمل عليها الكتاب المذكور. يكتب قائلاً في المقطع الأخير من نص بعنوان “على حد الصيف عن البراكين والموتى والحيوانات”:
تتدفق الشعاب والانهار بالزبد
والاسئلة الغزيرة، لتذهب الى البحر الكبير
حيث تتحول الى بخار وسحب وبرد
هكذا يتابع العبث دورته متناسلاً
على شكل بشر وأنهار، صحارى وحيوانات.
اتساع المتاهة
الرؤية الشعرية في النص أعلاه معقدة وقد تبدو متشابكة ومخيفة نظراً الى اتساع دائرة المتاهة التي يصفها الشاعر بالعبث المتناسل. الصورة مخيفة تنبعث منها روائح القلق ومشاهد نهاية العالم. لا بل إن هذه الأخيرة هي التي تصادر، في الواقع، نعمة الحياة فتحيلها ضرباً مجنوناً من الأسئلة الوجودية الكبرى. ومع ذلك، يختبئ الشاعر وراء ظلال هذه الرؤيا المرعبة متقمصاً دور الراوي الذي ينقل الينا ما يراه من على الضفاف النائية في أعماق الذاكرة. يتقدم الى أتون الرؤيا بهدوء وحذر، ملتقطاً إطارها العام وشيئاً من تفاصيلها المتشابكة ثم يعود القهقرى ليرقب عن بعد معركة الشعر مع نفسه. يقاتل حيث يستدعي القتال من دون أن يخرّ صريعاً. ينجو بنفسه عندما يصبح الموت الشعري مجانياً أو من دون مقابل.
قد يغدو هذا التصور، على الأغلب، أحد المداخل لقراءة موضوعية لنصوص الكتاب، لانها تستتبع، بالضرورة الشعرية، استكشاف الصورة الكلية من زوايا ومنافذ أخرى قد تؤدي الى ملامسة منظومة من القضايا التي يرتقي بها الشاعر من الحيز الفردي الى المنحى الانساني الأعم. ثمة، في هذا السياق، رؤى مقفلة بالذعر والاحباط لا تبعث على البحث عن أجوية لهذه التساؤلات الصعبة، بقدر ما تبعث على التجوال البعيد في ما تؤول اليه من مشاهد داخلية قد تسبب القشعريرة. من بينها نص بعنوان “الزنزانة”:
الطبيعة المصابة بالدوار والارتجاف
تنعكس على حدقة الضفدع المذعور
قافزاً من ساقية الى أخرى
والظبي المطارد في القمم والسفوح
وتنعكس أكثر على عين السجين
الذي يفكر بأن لا خلاص من هذه الزنزانة
النص، كما يلاحظ، ذو أفق رؤيوي محكم بالبقاء في الزنزانة. والأرجح، في هذا الإطار، أن الضفدع والظبي هما وجهان لعملة واحدة، هي الشاعر بالتحديد، أو الانسان، على نحو عام. أسوة بنصوص أخرى، ينأى الشاعر بنفسه عن الذوبان التام في ما يتطرق اليه من كائنات أو شخصيات. يرقب أحوال الظبي والسجين والضفدع. لا يتقمصها بل يستشعر أحاسيسها ومعاناتها وعذاباتها المزمنة، لينطلق بعد ذلك الى الإقرار بأن الحياة هي الزنزانة الكبرى، ولكنها توحي بغير ذلك. ولأن الأمر كذلك، يكتسب الشعر، لدى سيف الرحبي، وظيفة هي من نسيج الحقائق القاسية التي لا تبلغها الا المخيلة المرهفة. الافق المسدود هو إحداها، وقد كتب عليه هذا الإغلاق المبرم الذي لا نجاة منه إلا بالموت. هكذا يخوض الانسان رحلته الشاقة من الموت الى الموت. ليس في هذه الرحلة الموحشة ما يبعث على الأمل الا الشعر الذي ينقذ الحقائق من نفسها، يفك أسرها جاعلاً منها نوراً جميلاً في النفق المحكوم بلعنة العتمة الداكنة.
النفق الملتبس
ليس في النصوص الثلاثة والأربعين ما يبشر بالخروج من هذا النفق الملتبس. وكأن الشاعر يسخر من أي محاولة لتزوير هذه الحقيقة الثقيلة. القدر على قاب قوسين منا أو أدنى، فلماذا نستمهله، أو نسترحمه، أو نستعطفه؟ لا شيء من هذا القبيل يجدي. وعلى الانسان ان يتعامل مع هذه الحقيقة بحركتها الداخلية التي لا مهرب من أحكامها. يقول الشاعر في نص بعنوان: “حياة”:
كان العجوز يتكئ على عصاه
خطواته الثقيلة
وأيامه الأكثر ثقلاً
لا يكاد يرى أمامه، عدا تهاويل
ووجوهاً تتوارى في العتمة
يتمتم بكلمات غير مفهومة
تشبه حياته
تلك التي مرت جحافلها قريباً منه
وأعشت عينين غائرتين في كهف
يرمز العجوز، في هذا النص، الى حالة التعثر والسقوط الأعمى في المتاهة. إنه هو نفسه الضفدع والظبي والسجين الذي حكم عليه بالنفي المؤبد وراء القضبان. حتى الوجوه التي يراها العجوز الأعمى سرعان ما تتوارى في العتمة دلالة على كونهم عمياناً يضيعون في الفراغ الأعمى. العميان والعتمة من النسيج عينه، أشبه بكائنات هلامية أو أشباح تبحث عن هويتها منذ البدايات التكوينية الأولى. هذه المتاهة ليست قدراً مستجداً. هكذا كانت. وهكذا ستبقى الى ما لا نهاية. وقد وقع الاختيار على الانسان ليشهد، فقط، على النفق المسدود المكتظ بالعميان. يسترسل الشاعر في ا استكمال معالم هذه المتاهة بنص آخر عنوانه “محاولة رسم لوحة”:
أحاول أن أرسم لوحة لفجر عسير الولادة
قبة تطفو على صفحة النهر
فيلسوف يرتجف هلعاً من فيض رؤياه
تحية الوداع التي تتحجر في الشفاه
أو القبلة التي تنطفئ لحظة الشروع فيها
سيارات الاسعاف التي يحتجزها القتلة
في شارع يغص بالجرحى
زهرة تحلم بالتفتح فتكسرها الريح
قميص يتدلى من حبل الغسيل وحذاء مقلوب
الولادة العسيرة
صحيح أن الفجر المرتقب عسير الولادة، غير أن الشاعر لم يبشر بولادته أبداً. وكأنه محتجز الى الأبد في رحم مغلق على نفسه كلما تكثفت العتمة فيه، ازدادت حاجته اليها. حتى سيارات الاسعاف التي التمعت في ذاكرة الشاعر، قد صادرها القتلة في شارع ينتشر فيه الجرحى. والأرجح أن المقصود بذلك الانسان في حد ذاته وقد اثخنته الجراح وهو يأبى أن يصدق أنه ضحية نموذجية في زمن المتاهة الكبرى.
هذه، على الأغلب، الأجواء الداخلية للكتاب. يلتقط سيف الرحبي أكثر لحظاتها رعباً وحيرة وانكساراً ودوراناً عابثاً في حلبة المتاهة. وعلى الرغم من الابعاد المقفلة لهذه النصوص، إلا أن الشاعر لا يقف إزاءها مذهولاً مكتوف الأيدي، مشلول الرؤيا أو مأخوذاً بفجيعة السقوط الدائم في وادي المتاهة. الأرجح أنه يقيم تسوية ذكية مع هذه الرؤيا الغامضة. لا يستسلم كلياً لتجاذباتها الحادة خشية ان يتحول تفصيلاً معقداً من تفصيلاتها المتنافرة. يؤثر، في هذا السياق، أن يراقب هذه الرؤيا المخيفة من على تخوم الذاكرة، رغم إحساسه العميق بها، ليسترد أنفاسه وهو يدون بعضاً من سجالات هذه “الملحمة” التي يموت فيها الجميع مراراً وتكراراً، وهم أموات في الأساس لم يتبق منهم الا ملامح الأشباح:
طفل عالق في مضيق الرحم
نور يختنق بحنينه الى السطوح
سفينة تترنح وسط الإعصار
وفجر يحلم بنقيضه
ولا تكتمل العبارة التي فرت من مخيلة الشاعر
لتحط في بحار بعيدة
قد نتساءل، في هذا الإطار المحموم من انغلاق الرؤيا على كائنات همشها فقدان الهوية، عن جدوى الكتابة التي تدور، هي الأخرى، في هذا الفلك المقفل على نفسه بإحكام. هل يضيف الشعر معنى الى هذه الرؤيا التي هبطت اضطرارياً في ملعب المتاهة؟ الأرجح نعم. يبدو الشعر، وحده، في هذه المنافي البعيدة، فعلاً للحرية التي اختلست من الانسان، على حين غرة. إنه إعادة تمثل لهذه المشاهد القائمة في قعر الذات على نحو يحيلها ضرباً مستساغاً لفهمها وإعادة تشكيلها تمهيداً لوضعها في مكانها الصحيح في حركة الانسان نحو الانعتاق المطلق الذي لن يحدث أبداً. ومع ذلك ليس من شأن الحرية التي توفرها الرؤية الشعرية أن تحكم على هذه المشاهد بالزوال أو الإمحاء. إذ كم تغدو هذه الأخيرة حيوية وهي تستعيد المخيلة الى بداياتها الأولى قبل ان تتشكل الأشياء قسراً في عالم الواقع. قد تبدو العلاقة بين المخيلة والرؤيا المذكورة ضرباً من التناقض والانسجام في إطار من جدلية دائمة، تسفر، باستمرار، عن تعزيز مساحة الحرية في الشعر. هذا، على الأغلب، الضوء الخافت الوحيد الذي يتسرب، من حيث لا نعلم، من وراء الجدران السميكة للنفق المظلم الذي أثار سيف الرحبي بعضاً من صوره في الكتا