كنتُ أرقبُ طلوع القمر من ساحل «البستان« بتعرّجات جباله المسنــّنة. كان قد بدأ في الظهور بما يشبه تهاويل نائم على سفحٍ، ثم كشتلة تتفتح تدريجيّا لا تلبث أن تتحول إلى غابة عائمة في الأفق؛ بلطخة الحبر المائلة للسّواد، تميمة القمر في أسفاره اللامتناهية ينير الأكوان. كنت أرقبه على هذا النّحو حتى يهيمن اكتماله على المشهد البحري الفسيح بكامله، حين اتّصلت المرأة العريقة في الذّاكرة، وعلى الفور سألتُها: هل ترون القمر في داركم؛ قالت: كل يوم في مثل هذه الأوقات (ضَاحّ) في البيت، على شرفاته وفي هضاب المكان. لم أعد مفتوناً بالقمر في هذه اللحظة، بل بالتعبير عنه بكلمة (ضَاحّ) في اللهجة العُمانية الصّميمة التي لم أسمعها منذ ثلاثين عاماً. هذه الكلمة بدلالاتها الإشعاعية الكثيفة المُبهجة، تلك القادمة من أزمنة الطّفولة التي أوشكت مفرداتها على الانقراض.

ٌٌٍ

ها هو فجر الصحراء والجبال ينشقّ مع صوت المؤذنين ويعبر قارة غامضة من الأطياف والظلال الثقيلة…

اكادُ ألمحُ حشدَ العميان في القرى البعيدة وهم يهرعون من المنازل شبه المهدّمة نحوَ المساجد كأنّما يطلقون صوتاً واحداً أو صرخةً تحمل في تضاريسها طحالب النّوم والألم وتلك الوَحْدةِ القاسية.

ٌٌٍ

كلما تسمو بي لحظة تفكير خاطفة نحو سماء الروح ورفعتها اللامحدودة، أفاجأ بمطب أو حفرة تستغرق وقتي لتفادي السّقوط في غياهبها الموحلة.

ٌٌٍ

يحمرّ الأفق، تزفر الرّيح ويزحف الموج كجبال مزبدة بالغضب، وأنا مضطجع على العشب الطري فريسة أنياب خفيّة، منتظراً لمسة الملاك المفاجئة.

ٌٌٍ

تُزهرُ التناقضات في سريرةِ الكائن وطواياه، جرفٌ تلطِم فيه الأمواجُ بعضها، مرْعَى وحوش ضارية في قفرٍ. هكذا يولدُ الجمال والحب من براثن هذا العمق الهادر.