المفهوم الدلالي للجبل في النص الشعري الجديد
سيف الرحبي.. وأسطرة الجبل أنموذجاً
إبراهيم اليوسف
إن من يعد إلى تجربة الشاعر العماني سيف الرحبي، ليجد أن ثمة علاقة حميمة تربطه بعالم الجبل، حيث أن بواكير نصوصه الأولى التي ضمتها باكورتاه الأوليان-ولن نقول باكورته وهما-الجبل الأخضر- نورسة الجنون اللتين صدرتا في دمشق في العام 1981، لم تكتفيا بالإشارة إلى الجبل، بل إن إحداهما وسمت ب” الجبل الأخضر” كما أسلفنا،وإنه أفرد مجموعته الأخرى في العام 1996 بعد إصداره لست مجموعات شعرية سابقة عليها، كي يكون عنوانها ” جبال” . وإن هذه العلاقة بينه والجبل، لما تزل مستمرة حتى نصوصه الأخيرة، وبعد أن صدر له حتى الآن بضع عشرة مجموعة شعرية، آخرها عن مجلة دبي الثقافية، ضمن سلسلة كتاب دبي- الإصدار 30- 2009
وإذا كان الجذر اللغوي معجمياً هو جبل، فإن اسم الجبل ذكر في القرآن الكريم مفرداً سبع مرات، وورد ذكره مجموعاً ثلاثة وثلاثين مرة، حيث قوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} سورة الشعراء- ألم نجعل الأرض مهاداً و الجبال أوتاداً- سورة النبأ-6-7-
وقوله تعالى “لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ” [الحشر:21].
وقوله تعالى “وتنحتون الجبال أوتاداً” –الأعراف74،وقوله: “انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً”- الأعراف 143
كما أن كلمة الجبل قد ذكرت كثيراً تصريحاً أو تلميحاً أيضاً في القرآن الكريم، كذكره تعالى لكلمة الرواسي دليلاً عليها. بل إن كلمة الطود وحدها ذكرت عشر مرات في القرآن الكريم.
و”(‏الجبل‏)‏ في اللغة هو المرتفع من الأرض ارتفاعاً ملحوظاً يجعله يعظم ويطول على ما حوله من الأرض، والجمع أجبال وجبال.
فالجبل – في القاموس الجيولوجي – عبارة عن جسم صخري هائل يرتفع عن (سطح الأرض) ويتميز بمنحدراته الحادة وقمته المستدقة. “*
” يعرف الجبل بأنه كتلة صخرية بارزة فوق اليابسة بشكل واضح، ولها وتد ممتد في الطبقات ال”تحت سطحية” ويكون طوله تسعة أضعاف القمة وثقله النوعيSpecific Gravityاقل من الثقل النوعي للطبقات التي يخترقها‏.‏
ويطلق مصطلح الجبل عادة علي الارتفاعات التي تزيد عن ستمئة متر فوق مستوى سطح البحر وإن كان هذا الارتفاع ليس محدداً لأنه أمر نسبي يعتمد على تضاريس الأرض المحيطة، ففي منطقة سهلة التضاريس قد يكون نصف هذا الارتفاع مناسبا للوصف بالجبل‏ وتوجد الجبال عادة متصلة في سلاسل جبلية طويلة‏ ولكنها قد تكون أحيانا علي هيئة مرتفعات فردية معزولة‏”**.
وهو ما يضفي قداسة على مفهوم الجبل، من خلال علوه، وعوالمه، وأسراره، حيث ينطوي على الكثير من الهيبة، والعظمة، والمكانة.
والشاعر سيف الرحبي، الذي شغف بعالم الجبل، واستهواه كعلامة واضحة ، من خلال شموخه، وأنفته، وقوته، وجبروته، وجلده، وهويرسخ دعاماته عميقاًفي المكان لا يبرحه، أنى واجهته عاصفة، أو ريح، أو سيل عارم، ومهما كللته من ثلوج، فهي لن تزيد إلا من وقاره، وعنفوانه، وبهائه، وعزته وسؤدده.
إن عالم الجبل، كان على مدى التاريخ عالم هؤلاء الجبابرة الذين تغويهم أسراره، فيلجؤون إليه، وهو يحتضنهم، كي يفكوا بعضاً منهاما استطاعوا، كي يروا أنه ملاذ للأباة من الآدميين، وكريم الطير، بل والكواسر، والزواحف،والدواب، والأشجار،لا يكف يعلن عن ينابيعه التي لا يتلكأ ماؤها الزلال عن بياضه، وإجابته عن سؤال الظمأ.
وإذا كان الشعر العربي، منذ القديم قد تناول الجبل، من خلال اكتنازه على خصيصة القوة ، والبأس، فإن الشعر الجديد حاول الدنو من شعابه، وذراه، وسلاسله، كي يجعل منه رمزاً، يتماهى مع سواه من رموز تحتفل به القصيدة الجديدة، على أيدي بعضهم، من أمثال الشاعر سليم بركات***
حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة:
إذا كان مفهوم المكان يتأصل على نحو خاص في النصوص الأخيرة للشاعر سيف الرحبي- ومن بينها مجموعته الأخيرة ” السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة” وذلك كامتداد لرؤيته المكانية التي لا يتلكأ قارئه في تلمسها منذ أولى نصوصه، من خلال ارتفاع المكانية عن جغرافية الفضاء المؤطرة.
‏ثمة مفردات مكانية كثيرة، يمكن للقارىء الاستدلال إليهافي نصوص هذه المجموعة، وهي كلها تشكل الفضاء المكاني الأرحب الذي يتناوله الشاعر، ضمن عناوينه المتعددة التي تتجاوز مكانه الأول، الذي فتح عليه عينيه، وها هو يعود إليه، يعايشه- يومياً- دون أن ينسى ما عرفه من عناوين، فيما قبل، ولا يزال مسرد المفردات التي تشكل هذا الفضاء في تنام واطراد.
وإذا كان الشاعر الرحبي قد خصص – من قبل- أكثر من عنوان من عنوانات مجموعاته الشعرية” الجبل الأخضر- الجبال” 1981-1996 ، ليتضمن كلمة” جبل” أو جبال”وبين تاريخ إصدار كلتا المجموعتين مسافة زمنية هي خمسة عشر عاماً،فإن رائحة الجبال، وظلالها العالية، ودنوها من الغيوم التي تكللها، وغرقها في الأفق الساحر، بشهادة الكواكب في مداراتها الهائلة، لا تزال تمارس غواياتها له، وسطواتها على روحه، فقد موّه نأي العنوان” حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة ” عن تضمن اسم الجبل، مجازاً، أو صراحة، بالتعويض عنه من خلال تخصيص إهداء المجموعة إلى الجبل، وهو إهداء إلى جماد، يحاول أن يؤنسنه، ويخرجه عن طوره طوداً أبياً، قريباً من عالم الشاعر ، بل مقرّباً الشاعرمنه، أو داخلاً في دورة غموضه، يقول في إهدائه:
إلى…
( كل هذه الذرى
ولا أحد
تركله رغبة الصعود إلى جبل)
إلى الجبال الساجية
في ليلها السرمدي
ثم يوقع الإهداء باسمه، والاسم هنا لا يأتي فائضاً، بل دلالة على تشبثه بالإهداء، كموقف، مادام أنه يطرح هنا جملة دلالات تتشظى دفعة واحدة، وهو يعيد الجبل إلى مفرداته كذرا متعددة، أمام غياب شهوة الصعودمن قبل أحد، كي يرتقيه في عليائه.
ولعل إهداءه المجزأ هنا إلى قسمين، حين يجد أن ما ضمنه بين هلالين( ) لا يشفي غليله، وهو في حضرة جبله العارم، فإنه يترك –فضاءاً أبيض- قبل أن يعود ويكرر الإهداء، مرة أخرى:
إلى الجبال الساجية
في ليلها السرمدي
إن الإهداء بمكونيه، بجزئيه، ليتضمنان موقفاًمعرفياً من الشاعر تجاه رمزه الذي يتناوله في لحظة استثنائية، فهو موزع في الجزء الأول من الإهداء إلى ذرى- جبال- متشظياً عن كلمة جبل، التي يوردها قبل إغلاق الهلال، مباشرة، كي يبعثره بعد إهداء فرعي ثانوي إلى الجبال الساجية، متبوعاً بالبياض آنف الذكر، بيد أن هذا الجبل بات على خلاف ما يريده له الشاعر فهو أعزل، ساج، غارق في لجة الليل السرمدي، بل إن لا أحد تركله رغبة الصعود إليه لمعانقته في عليائه، وهو ما يثير حفيظة الشاعر،حين يرقب عن كثب عزلة رمزه المقدس، وسقوطه العلاقة المبتغاة بينه ومن يوجه إليه الخطاب،وهو من لا بد أن يكون معنياً بالجبل، كرمز تليد.
إن الجبل كرمز، ليستدعي إلى الذهن علوه، هذا العلو الذي لا يمكن فهمه إلا في إهاب شموخه وإبائه، ما يسبغ على من يتمثله بعضاً من الخصال التي ينطوي عليها، وهو في هذا ليقابل نقيضه الذي لا يتلكأ الشاعر يسميه:
الوادي- وهو يركع تحت أقدامه ، بشهادة السفوح، والهضاب، بل والبيارات التي تستظل بالجبل، ولعل الوادي، كرمز يتم استدعاؤه أنى كانت هناك ظلال للجبل، هاهو الشاعر يقول :
كان على الأفعى الخبيئة في ظل ” الروغ”
بوادي سمائل
أن تكون أكثر يقظة
أمام الفأس المسنون للطفل الجبلي
كان على الخروف أن يرتدي قناع المحارب
حين يضمحل القطيع
وماذا عن السحابة العزلاء
التي أراها تطلع الآن من خلف الجبل القريب
ماذا عن حفيف الكوابيس لشجر يتمايل في نومه
عن رجال ينزلون من السماء.
إن كلمة جبل، تتكرر في أولى قصيدة تضمنتها المجموعة الشعريةمرتين، مرة كنسبة، وأخرى بشكل صريح وهي ” كي تعود اليمامة “، وإن مفردة الجبل ترد مرتين في القصيدة الثانية ” ترتيباً في المجموعة” ليل المقتولين على الضفاف” ناهيك عن تكرار كلمات ك: السفح وما يدل على الجبل، أو ما يشكل مفرداته كالذرا إلخ في قصيدة” كي تعود اليمامة” ص15
إن مفردة جبل هنا، تخرج من مشهديتها كمكون جغرافي، أو مفردة سياحية، عابرة، متعددة إلى أبعد من ذلك، بل أبعد من مكانيتها الباشلارية – نفسها- المرموزة أصلاً.، لتكون رمزا ً على رمز، من خلال إرث المفردة في ذهن كل من يعرفه، وما لها من أبعاد، ودلالات، لاسيماوأنها دخلت هنا في حوجلة السحرة، وعوالم بخورهم، وإيماءاتهم، وحركاتهم، لكي تهمنا في النهاية خلاصة الظل المشهدي، مكثفة، تتجاوز إهاب ما هو معرفي، يقرأ في ضوء العلاقة العادية بين المفردات التي تشكل مجرد عبارة، خارج تفاعل الصور الشعرية ضمن عمارة النص، على نحو كامل.
وإذا عرف القارىء أن الشاعر ضمّن المجموعة الشعرية نصين متتالين عن أبويه هما: الأب في قبره ينام-ص 47 الأم- ص 49 وهما والداه- تحديداً،والأقرب إليه، كما يفترض، بل راح يهديه إلى الجبل، بذراه، وهو ساج، رغم أن الأب هو أبعد من الجبل، حيث يقول كما يقول العنوان في قبره ينام، بل إن أمه نفسها، قد أنهكها الفراق، إلا أن الجبل سرعان ما يظهر، وهو يتحدث عن عوالمه الحميمة:
كان يحاول مد رجليه أكثر من طاقته، استنفار جسده الآخذ نحو المغيب، تحت القلعة الحصينة على ذروة الجبل الذي زرته سجيناًفيها أواخر الستينيات، كان يمضي مستنفراً كل ما تبقى له من خلاليا وأعصاب، مستنفراً ماضيه ضد الموت والفناء، ضد الخذلان الذي يستشعره الجسد في نهاية تطوافه ص 47
إن الأب/ رمزه الآخر، كان سجيناً في قلعة، تقع في ذروة الجبل، وهو يستنفر أدوات مجابهته للفناء أو الموت، وكيف لا ؟ مادام سجنه عالياً- هكذا- في ذروة الجبل…!؟
وها هو يستحضر أمه التي يقدمها لنا، في لحظة تعبها، وذبولها، وهي تهذي بجمل متقطعة، من هنا وهناك، تخلط فيها الأزمنة والأماكن :
تسألني عن حياتي وأحوالي وأناس لم ألتقهم منذ أعوام طويلة تتراءى لي دهوراً، وأحقاباً، منذ عهود الطفولة البعيدة، حين كانت تحرث القرية جيئة وذهاباً، وعلى مصاطب الجبال الدكناء التي تنحدر على صفحة فجرها الأول طيور القطا والصبا
ص49
إن كلمة الجبل مفردة أو الجبال مجموعة، أو الطود أو الجبلي- كنسبة إلى الجبل- لتتكرر سبعاً وثلاثين مرة، في الشريط اللغوي للمجموعة الشعرية، ماعدا إشارات الشاعر إلى الجبال من: ذرروة- سفح- بل وحتى هضاب، تلال التي يكثر ذكرها بين حين وآخر، ضمن معجم مفردات الطبيعة الهائلة التي تحتاج بدورها إلى إحصاء خاص،لقراءتها، واستبيان دلالات هيمنتها على الفضاء النصي لدى الشاعر على هذا النحو.
مؤكد أن تكرار كلمة جبل، بهذا الشكل، لم يأت ، كما أسلفنا اعتباطاً، لأن مفهوم الجبل متوغل في أعماق لا وعي الشاعر، وإن كان توظيفه وفق دواعي لحظة الكتابة الشعرية، يظهر على امتداد الشريط اللغوي للمجموعة الشعرية، متعدداً ، متجدداً، غير مكتف بمجرد بعد، داخل إطار الرمزية المستنفدة، الصماء، بل متشظياً، كشعاب، وذرى ، وجبال، لا سيما وهو يقرأ لحظته الحاضرة في ضوء اللحظة الغابرة، كي يمضي معدداً انكساراته، وأوجاعه، حالماً أن يعيد جبله إلى الصورة التي يريدها له، وهو يجتذب الظلال الآدمية، تستحم في ظله الكبير.
كما أنه إذا كان الجبل عالماً، خاصاً، مقابل عالم السهل، أو عالم البحر، الذي لا ينسى نصيبه منه، بل يشغله، هو الآخر، إلا أن هذا العالم ليظل مثار شغف وولع الآدمي، على مر الدهور ، يقرؤه كل بحسب مدركاته، كي يكون للشعر دروبه إليه، وهو في ثرائه، ملاذ للشاعر، كما هو ملاذ أمين من عواصف، وأعاصير، ومخاطر تحدق به، ها هو يفتتح نصه الذي يحتل عنوان المجموعة ويتكرر بهذا المقطع الأكثر دلالة على شأو الجبل ومكانته:


الجبال عرين الذكرى
تفقس النسور بيوضها
الأقرب إلى لون الرمال والصخور
من فرط ما ارتطمت بالأزلية

..
أيام تتلوها أيام
ونحن نحدق في هذا الوثن
الممدد على أرض الأنبياء.
إن الجبل الشاهد على تفاصيل البرهة المعيشة، والخارج من جماد التشيؤ، لهو طافح برائحة التاريخ، مادام عريناً له، ومادام ذلك المكان الذي تخيرته النسور كي تفقس بيوضها فيه(دون أن تفارقه البتة صورة سجن أبيه) وليستعير الاستمرار الفينيقي،مؤسطراً، في مواجهة هولة ميدوزا التي تعمل في الاتجاه الآخر، وهي تحول من ينظر في عينيها إلى حجر:
لم أعد أتذكر شيئاً
عدا كوني موجوداً في زاوية من إبط هذه الميدوزا، رأسي من بقايا القمل في سجن البارحة، أتحدث وأشباحي الكثيرة التي تمرح سعيدة وتقفز كالجنادب تحت مطر الربيع الذي لم أذق طعمه منذ قرون..