تتسرب من الراديو الذي نسيته مفتوحا، أغنية اختارتها الصدفة بأن تكون. إنها ليست اغنية، بل حريق أشواق وحنين لاهب. أظل أسمعها، او بالاحرى اتقلب على فراش عذاباتها وهجرها بلذه تشبه استمراء نكئ جراح غائرة واستبطانها حتى الالم المبرح. صوت، كلمات، ألحان، تندفع أمواجها الى الطرف الاقصى من جروف الاشواق. تقطر دما وفراقا نوعيا. إنه ليس كأي فراق عرفه البشر، فراق العشاق الذين عذبهم الزمان ولوّحت جلودهم شمسُ الفاجعة…
لم تكن سيدة الغناء العربي والتي نسميها على سبيل الفكاهة وحش الغناء، لهيمنتها المطلقة على كامل عناصر المشهد. واذا تجاوزنا الدعابة فلا ضير في كلمة الوحش، فهي بجانب عبقريتها الغنائية، وحش حنين ووَجْد واشواق تندفع بهذه المكونات الى مستوى متطرف مثل وحش جريح.
وحشة واستيحاش ورغبة التوحد بالمعشوق حد الافتراس،المعشوق الملفع دائما بهالة الغياب..
اذا استحضرنا حنين الوحش، أنثى الدب في ليل الاسكيمو، او عواء الذئب في حلكة الربع الخالي.
من اي جراح مفتوحة ينفجر ذلك النداء الممزق للحيوان؟.
لم تكن سيدة الغناء أو وحشه، وفق الرؤية التي تعنى بسيرتها، متطرفة في حبها وأشواقها، كانت ممسكة بخيوط اللعبة كأي مستبد يراوغ ضعفه بهيبة جلبتها سلطة الشهرة. كانت متطرفة على مسرح الاغنية حيث تمارس سلطتها القوية وحضورها..
ماجعلني اكتب هذه الاسطر، ليست الأغنية فحسب والتي سمعتها مئات المرات (ربما هذه المرة في ضوء الشموع التي تحبين موجها الخافت) إنما الرسالة الاخيرة
(رغم أني أؤمن باللاعنف
في حل المشاكل
إلا أن رغبة عارمة
تتملكني لخلع أزرار
هاتفك البغيضة
من محجرها
واحدة تلو أخرى…
وسأحكي لك بعدها
مالذي يفعله الشوق
بامرأة متطرفة)
الرغبة الضمنية المستترة بداهة وراء أزرار التلفون المسكينة، هي خلع العيون من محجرها ( لا خير في الحب إن أبقى على مهجِ) كما يعبر ابن الفارض..
اندفاع الاشواق وعنفها، حتى ولو تلبست شكل الرقة والتوسل والخضوع. بعض القصائد التي وصفها مؤرخو الادب بالغزلية، وهي تذهب إلى ابعد من ذلك، حيث البعد الوجودي العميق في لب صنيعها… تفصح عن ذلك بوضوح، قصيدة أبو ذؤيب الهذلي على سبيل المثال ومتن عريض يحتل تاريخ الشعر والادب..
في نفس السياق وبكيفيات مختلفة، تندرج ابداعات المتصوفة من كل المذاهب والاديان، المشارب والأمكنة. ذلك الشطح الجانح نحو التوحد والحلول. ذلك الرحيل المضني نحو الانحلال في (المنطقة العليا) التي يمكن ان تكون المعشوق بكل تجلياته، حيث تسكن روح الانسجام المطلق كبحيرة صافية وسط تجاذب محيطات هائجة.
* * *
دثّريني يا حبيبتي
إنني أرتجف شوقا وبردا
أرتجف من رؤية المسافة البرزخية
بين جبلين
تتكوّم بينهما السلاسل والاشلاء
دثريني
ألقميني حلمة نهديك
لأمتص حليب الاعماق
لأرتشف رحيق الوردة
أغرقيني في مياه
خلجانك المالحة
شهيدَ الرغبة الحنون
أنا الذي تشرد في تخوم البلاد والقارات
أوصل الليالي بنهاراتها
سنينَ ضوئية
من غير بيت ولا دليل
لاهثا فوق جسور من جثث وانهيارات
أنا الذي
خبر البلاد
بمرارة المهزومين
في معركة الاحلام
لم تعد لي طاقة الصبر والانتظار
غادرتني ارادة المحارب
في منازلة المسافة والغياب
دثريني يا حبي
واغرقيني
في اغوارك الطحلبية
* * *
يبدو أنني لا أستطيع الوفاء بميثاق الكتابة لك، كل صباح على ذلك النحو من الاستمرار، مزاجي معكر جراء سهرة البارحة الهذيانية و مع اصدقاء قدموا، من أكثر من مطرح ومكان من هذا العالم. هذا النوع من السهرات ربما يؤدي وظيفة الافراغ المتعوي السريع، حيث تحتدم الاحاديث والذكريات والنميمة. مركب من غير اشرعة، تدفعه الريح في كل الاتجاهات حتى يتلاشى في المهب العاصف. ولا يتبقى غير مرارة في الحلق ونتائج فاجعية في الجسد والروح. مع مرور الزمن يفقد الواحد منا الاندفاع لمثل هذه الجلسات التفريغية احيانا، يميل اكثر إلى الهدوء والتركيز في البعد عن الصخب الجماعي، حتى ولو في صوره الاكثر قربا وحميمية.
أنت أيضا ساهمت في تعكير المزاج، لا كلمة ولا رسالة، ولا من صباح الخير، تطوح بي خارج السرير، بينما الطقس الخماسيني يحتدم في الخارج…
غالبا حين استيقض من النوم، واحس انه مازال غير كاف ولا بد من اختلاس ساعة اخرى لتعيد الي توازن النهار.
ولتسهيل المهمة الشاقة لمن يعانون من ارق مزمن، أحاول استدعاء مشهد اثير على المشاعر والروح، والعيش في رياضه الوارفة في غيابها.
المشهد دائما يأتي من الماضي ويحتل حلبة ظلام الغرفة والعيون المغمضة الحالمة، بتلك الوديان الشاسعة المتدفقة، بغزارة الشعاب والامطار الجارفة بين خط الجبال وارخبيلات النخيل المستسلم لعصف الريح والمطر.
هذا المشهد الذي يشكل أرض النعمة والطفولات المغدورة، هو ما يخدر الحواس اليقظة بحدة، ويجعل اختلاس ساعة نوم جديدة أمر ممكن.
بعدها يتسلل إلي صوتك الصباحي، ليجعل الحياة أقرب إلى الوعد الجمالي الممكن…
(معلق أنت بحلمة
سماء قاحلة
وفائضة أنا عن ذاتي
كطمي خصيب
وبين يتم شفتين
وانسياب نهر
ينسكب السكون
في انتظار العاصفة)
* * *
بمحض الصدفة بعد أن قرات رسائلك المختلفة هذا ليوم، والتي تسرد نكتا ومواقف ضاحكة
سبق أن حدثتك باني قمت بجولة في احشاء المدينة وهوامشها ونقاط تجمعها، إلتقيت بخلق كثير، هكذا دفعة واحدة، فمنذ حللت هنا لم اغادر الحي الذي اقطنه، ولقد عكس نفسه هذا المشهد المباغت، احلاما وهذايانات في نومي. رحلة النهار الواقعية، كانت بموازاتها رحلة في تخوم الاحلام واللاوعي اتخذت اشكالا بشرية وحيوانية على شكل زواحف في اماكن غائمة على التحديد.
كانت تقترب من هيئة الكابوس وهلعه، لكنها لم تتخذه كما في الماضي، حيث كنت اغرق في مستنقع من الدماء والصراخ.
بمحض الصدفة اقرأ إميل سيوران ( الضحك هو المبرر الكبير للحياة. وعلي القول إني حتى في اعمق لحظات اليأس. كنت قادرا على الضحك. هذا ما يميز الانسان على الحيوان. الضحك ظاهرة عدمية تماما كما أن الفرح يمكن أن يكون حالة مأتمية).
ما يشبه وصفة علاج من هذا العدمي الكبير… فحتى أمام المحن الحياتية والنكبات، ليس كالضحك علاجا حين ينسد الافق امام المنطق والعقل والتدبير، وتستحيل هذه الاقانيم التي من المفترض ان تسير الحياة بهديها، الى ادوات تدمير وتعميق لمآسي الوجود، اليومية الحسية، الاجتماعية، او تلك التي يصل بها الفكر الى كهف استسلامه المغلق، ويرتطم بكثافة اللاشيء ومطلق الفراغ.
يرتد المترحل في ليل الفكر والوجود الى الضحك والمفارقة كحل مؤقت لمعضلات لا حل لها..
بهذا المعنى تشكل السخرية والضحك السلاح الاكثر مضاءا في مواجهة (رعب الصيرورة) والزمن والتاريخ.
والبشر في احوالهم العادية، يلجأون الى مخزونهم الخيالي في اعادة صياغة حياتهم المحطمة، من قبل قوى الظلم والطغيان والانحدار القيمي، ونقدها عبر النكتة والسخرية والضحك، كممارسة انتقامية من شروط بالغة القسوة تربض على مجمل حياتهم وشؤونها.
من هنا تشكل موهبة المرح وخفة الدم، ثروة لا محدودة لتلطيف الحياة والتخفيف من جريان الزمن الثقيل مثل ثقل البشر، اولئك الذين لم يمنحهم الخالق هبة المرح وقدرة السخرية، فيحيلون الحياة إلى جحيم.
«اذا حل الثقيل بأرض قوم
فما للقاطنين سوى الرحيل».
* * *
المرض، محنة المرض ترمي بنا دائما إلى وحدة أعمق من تلك التي نحملها كقدر طبيعي، وتلازمنا كما يلازم الظل المتطاول صاحبه، او كصفة هي ما تبقى لنا من ميراث الاجيال الحزينة والقلق الطويل.
وحدة أعمق، هاهو الليل يبدا نصفه الآخر، وأنا أتلوى على وقع الألم والحمى التي يرشح بها الجسد المقذوف في آخر كهوف هذا الليل الوحشي.
تتقاطر في مرآة هذياناته، صور الموتى القريبة وتلك التي أوغلت في الزمن وطواها النسيان أو كاد.
بعد مكالمتك الاخير ة في منتصف النهار، وكنت على الطاولة، أمامي القهوة والاوراق وكتب مبعثرة، أحسست بطلائع هذه الزائرة الثقيلة، وفق وصف المتنبي. لكن زيارتها بدأت قبل حلول الظلام، وان تمكنت من طريدتها، بعد ان حل والقى بمرساته الغليظة على الوجود والكائنات ولفها تحت جناح هيمنته المطلقة.
كنت قد بذلت جهدا لتفادي غزوة فيروسات الشتاء، كما عودتني هذه المدينة على مدار سنوات وأيام، لكنها أدركتني، كما يدرك ليل الخوف صاحبه المرتجف المذعور أمام زحف سورة الغضب… (وإن خال وسع المنتأى ومداه).
الوحدة والمرض، ولا شيء عدا روح ترتجف بالحرارة والشوق إلى شقيقها، تنظر إليه في معترك المسافة، وتستله من بين الجوارح والأشباح، لتبلل حلقها الجاف برضاب عسله الشافي، وتستحضر ذلك البهاء النبيل، لدحر فيالق الموتى التي بدأت تنتشر في أرجاء المكان، وتحتل الخيال بعزيمة واندفاع. لكن حتى في خضمّ هذه المحنة العابرة، امام ديمومة حمى الوجود وأسئلته المتناسلة كما يتناسل الموتى من الاحياء وفي احلامهم وطموحاتهم المتدفقة باستمرار نحو المصير، حيث الانتظار هو الرجاء الاخير للقاء المحبين، الأقارب والأعداء والأصدقاء، إن كان هناك أصلا من لقاء!
في هذا الخضم المحزون، لا أنسى أيتها العزيزة، أن وحدة المرض أقل فتكاً من معايشة اولئك الذين لا نمت لهم بصلة قربى روحية.
معايشة الوحدة والمرض اقل هولا من اولئك الذين لا يشبهوننا في شيء…
(حبيبي يغفو على كتف الليل
بعيدا جدا
يبدو نقيا وشفافا
حتى لا يكاد يرى
أغمض عيني كي أرسم تفاصيله
وأستمع إلى نبضات
قلبه الوحيد
وأغطي جسده المتعب
بالمعوذات وشراشف الدفئ والنور
حتى لا يلسعه
برد أحلامه البعيدة)
* * *
سلام عليك
أما بعد، فلا شيء يستحق الذكر…
هذه العبارة التي تفرض نفسها علي اللحظة، مقصيةً كل الجمل والعبارات المتدافعة نحو ساحة الورقة البيضاء، ذات الخطوط الخضراء مع خط عمودي أحمر، يقسم الحلبة من الأعلى الى الاسفل، ويتجه بثقة المقاتل نحو لا نهائيّة الفراغ، لا نهائية الشوق.
لا شيء لدينا يستحق الذكر. ربما يأتي الجواب، ولدينا أيضا. بمعنى أن الأمور التي تجري على وتيرتها الحياة، صارت من النوافل والعادات النمطية، فلا تستحق الذكر والتسطير. لكن حتى ولو شملت هذه الامور والنوافل، مسائل مثيرة ومرعبة كالمذابح والانتحارات الفردية والاجتماعية ( حتى الحيتان صارت تنفق جماعات بما يشبه الانتحار الجماعي ) والزلازل والبراكين!؟،فهذه صارت ايضا من ثوابت العادات ونوافلها.
لا شيء يستحق الذكر، أتذكر هذه العبارة منذ الطفولة البعيدة حين كان الاهل يتبادلون الرسائل المكتوبه، بين القرى والدساكر والمدن البسيطة، بالخط التقليدي المتداول، والقلم والمحبرة.
مسافات ضوئية قطعها العقل البشري، منذ تلك الفترة التي لا تزيد عن الاربعين عاما، لكنها تبدو كقرون بالنسبة لهذا العقل الخلاق والتدميري.
كل تلك المسافات والتطورات والرؤى، وهذه العبارة ( لاشيء يستحق الذكر) مازالت تشكل فحوى الوجود البشري وحقيقته المستترة والمعلنة، لا شيء يستحق الذكر، عدى ذلك الخط الذي يقسم الورقة وينقض من الأعلى نحو لا نهائية الفراغ، لا نهائية الوحدة والشوق.
* * *
إن رسائلك لتنهمر عليّ، أيتها الكريمة في الحضور والغياب.
وكالعادة افتتح بها يومي لتعيد ترتيب هذا الشتات، ولو نحو وجهة غائمة، في طور البحث عن وضوحها الخاص إن أمكن، وإلا فالسكنى معك دائما على مقربة من حلم سعادة وآمان.
ذلك العالم وتلك الاشياء والحيوات، لولاك لكانت قاتمة وكئيبة. بنظرتك المتأملة المرحة تتحول إلى حقول تسرح فيها الجنادب والغزلان ويجوب المطر أرجائها، مطر الخريف الذي كأنما ينزل من قِرب سماء حانية وحصينة.
على مقربة من سعادة وآمان في جميع الطقوس والأحوال، حتى ولو كانت عاصفة الشتات والحروب تقصف العالم.
في مكالمتك الأخيرة، تلحينّ في السؤال على نحو فكاهي عن التي تدبر شؤن المنزل. كنت استمع إليك وأغالب العطس والسعال الذي مازال مستمرا جراء نزلة البرد الحادة.
أولئك الناس البسطاء الذين ينحدرون من الطبقات والفئات الاكثر انسحاقا في المجتمع. الذين دائما نمحضهم تعاطفنا وانحيازنا التام، وكأنما ذلك الشعور أو الخيار باتجاههم، هو الجزء العضوي من أحلامنا بالعدالة والحرية والمساواة. هذه الكلمات البعيدة الغور والتحقق، هي هاجس الفكر وحلمه بأشكال ومقاربات مختلفة، بدأت من البسيط الساذج وانتهت بالمركب ي الطابع المعرفي المعقد.
منذ بدايات تشكل الوعي الانساني على هذه الارض، وتشكل التاريخ، عقاب التاريخ كما وصفه بعضهم،وستظل (هذه الكلمات المفاهيم)، كذلك حتى ولو تحولت في أزمنة وأمكنة لا تحصى إلى نقيضها الفض والدموي.
لكن لو خرجنا قليلا عن جادة الفكرة العامة وبريقها الرومانسي، إلى بعض من معطيات واقعية، لوجدنا أن مسيرة التدمير الساحقة للقيم والروح، قضت على الكثير من صفاء رؤية هذا التعاطف والانحياز الكامل لتلك الفئات الاكثر انسحاقا في السلم الاجتماعي.
المسيطرون استطاعوا زرع قيمهم. والفقر بدلا أن يكون القوة المحركة للاحاسيس الانسانية والاخلاقية، وللتضامن والتغيير، دمّرهم ودفع بهم إلى الخبث والكذب.
أي انهم حملوا جراثيم مستغليهم.
الضحية تحمل صفات جلادها.
خاصة في مجتمعات تنعدم فيها التعددية الحقيقية، ويسود فيها الاستبداد والقسر والاكراه.
هذه البداهات أو ما يشبهها، أردت أن اذكرك بها، بعدما اكتشفت سلوك مدبرة المنزل المراوغ، والتي كنت مع جميع الاصدقاء، نعاملها كفرد منا من غير تلك الرتبيّة المعروفة بهكذا مجتمعات.
ربما قرون العبودية المتناسلة لا يمكن ان تتحمل لحظة حرية مفاجئة، وترتد بشغف إلى مُستقر ارثها الطويل.
في سياق هذه الرسالة السريعة أيتها العزيزة، تذكرين عندما كنا في المرحلة الدراسية، وكان اندفاع العواطف الجياش، يكتسح المشهد بكامه. كنا حين نمد يدنا لإعطاء كائن يستجدي بصوت يمزق حتى ضمير القتلة والمجرمين، نجد من ينهانا عن ذلك، بحجة أن العطايا المجانية هكذا،ستميع الصراع الطبقي وتؤجل اندلاع الثورة الحتمية.
* * *
إنني أشتاق إليك وليس إلى المكان الذي ساق أبناءه إلى المذبحة في وقت مبكر هذا الصباح.
أشتاق إليك، وبصورة أكثر تحديدا إليك وإلى البحر ولا شيء آخر.. ولتذهب الطفولة التي يتغنى بها أهل الادب والشعر، ويعتبرونها درعهم الواقي.
لقد مضى لك الزمان الذي كانت به مرابع الطفولة تفتح ( بابا نحو الأبدية).
ولتذهب العلاقات المبكرة وأطيافها الشفيفة، وليذهب المكان الذي خلدته الأساطير البشرية ورفعته إلى مستوى القداسة..
ماذا أعمل بهذا الحطام؟
أمام وجهك الذي يروي جفاف ايامي بدفق حنان لا يتوارى له مصب أو نهر.
لا أريد أن أربطك باي شرط خارجي،
أجرّدكِ عاريةً أمام الليل المضاء بنور جسدك والبحر.
ثمة منحنيات تسرح فيها اليد العطشى
ارتعاشة النجم في الأعلى
وارتجاف النورس الذي يحنو على طرائده
بينما الجسد
يسقط في جرف نشوته العميق
* * *
بما أني مغادر غدا، أو بعد غد، أجلس أيتها العزيزة في هذه اللحظة التي أكتب لك فيها، في صالة الشقة الصغيرة الهادئة رغم صخب المدينة الكبير، أتطلع في الحيطان والباب المفتوح نصفه، السرير المسترخي في ظلمته الخفيفة، وكأنما يستريح بعد عناء سفر ليلي طويل.
اتطلع في المقتنيات والاشياء البالغة التناسق والفوضى التي تعطي لهذا الركن المنزوي ملمحه الحالي الخاص.
أفكر كم ستشعر بالعزلة والهجران هذه المواد وهذه الاشياء، رغم تواصل اعضائها الحميم. افكر في هجرانها وليالي فصولها الموحشة. الكتب التي لن تلمسها يد لفترة طويلة، لا أعرف إن كانت تبكي أو تضحك على الارفف وزوايا الجدران؟.
في الحالتين اليد المليئة هي الأخرى بمشاعر الفقد والهجران لن تكون موجودة، لن تلامسها، أو يمر الحفيف في فضائها المتراكم أزمانا وعُزُلات.
أكاد ألمس دموعها المسفوحة على الراحلين من قبلي، ويقينا من بعدي، بما أن المواد والاشياء تعيش غالبا، أطول من عمر البشر.
أتطلع واحدق في جنبات هذه الشقة واسرح متذكرا على نحو غائم منازل وشققا، عشناها بسرعة عصف الريح، في أكثر من بلد ومدينة.
مقاعد طائرات نغادرها بعد فترة اقامة في السديم، الذي يراود الكائنَ دوما الرجوعُ، إلى هدوئه وانسجامه، قبل تشظي الكينونه.
غرف قطارات ذات أبواب ونوافذ تطل على حقول خضراء شاسعة. غرف الفنادق التي تناسب أكثر، مزاج المكلومين بهواجس العبور السريع على ارض البشر.
كل هذه الأماكن والعزلات أيتها العزيزة، تنفجر دفعة واحدة في مزاج رجل وحيد، يتطلع من كَنَبَة الصالة، إلى الاشياء التي سيغادرها غدا أو بعد غدا إلى بلاد مجهولة.