“لسنا سوى غبار ورماد من نجوم منقرضه”
فلكي فرنسي
لحظة المرض ، وأنت وحيد ، في أي مدينة أو صَقع مقذوف في خضمّ هذا العالم المترامي ببشره وسرعته ، بصخب آلاته الهادرة في الخلاء لمراكمة أرباح المتخَمين حارمةً إياك من لحظة هانئة لنوم عميق..
وحيداً مُلقى على كنبة أو سرير ، أو على الأرض العارية ، لأنك تعاني من آلام في الظهر أو المنكبين ، تفترسك الهواجس والأوهام التي تعشب على أرضها الخصبة كل صنوف الأحلام المذعورة والكوابيس ، أكثر من افتراس أوجاع المرض ذاته وتأثيرات الأدوية .. تتمنى لو تعود إلى العصور الأولى تأكل الأعشاب وتتداوى بها وتسبح في نهر الابديّة …
هكذا مُلقى ، هشّاً وضعيفاً ووحيداً … بالأمس كنت تنشد هذه الوحدة ، وهذه العزلة التي تصفها بالمضيئة والمثمرة روحيّاً وإبداعيّاً . وتعزي إليها كل ما استطعت انجازه (إذا كنت أنجزت فعلاً) ، بعيداً عن لغط القطيع وإكراهاته الكثيرة المتنوعة … لكنك الآن في قلب هذه الهشاشة في قلب هذا الانكسار ، عبثاً تحاول تجميع قواك المبعثرة ، واستحضار آخرين عبروا محناً واختباراتٍ جسديّة ونفسيّة أكثر عنفاً ومكابدة ، في قلب هذا الانكسار الفيزيقي المتبوع بضعف استجابة الحواس وجموح الروح والمخيّلة ، تحاول إعادة النظر في أمور شتى لكنها تهرب منك ، وعلى الارجح حتى لو أمسكت بها لا تملك أبسط امكانيات الحلول ، لكنك لا تستطيع إلا تقليب وجوهها والشرود في احتمالاتها المتناقضة…
في هذه اللحظة أنت وحيد وعار أمام العالم وقسوة الاحتمالات والذكريات التي تحمل في تراكمها انقضاض قسوة أكبر .. تحاول أن تتبيّن خيط ضياء عبر تلك الأرفف والمنعرجات للجبال الصماء الجاثمة في الواقع والمخيّلة ، بأغاني أسلافك الرعاة منحدرين نحو القرى والسفوح … وعبر البحار القريبة ، تحاول ان ترهف سمعَ الروح ، إلى أمواجها وأسماكها وطيورها المهاجرة ، إلى صخب بحّارتها الراحلين باستمرار نحو اللُجج البعيدة.
وتلك المرأة التي تطويها دائما شراسةُ الغياب.
في هذه الحضرة من الأوابد وحضور الأنثى والحيوانات الرحيمة التي يستدعيها الخيال المتُعب تحس بعزاء ما ، بخيط حنان يتسلل من شقوق النوافذ المغلقة وتقول: ( إن الامور ليست بذلك السوء)
الخيال دائماً ، هذه الهبة السماويّة الرائعة المنقذ الأخير – يشبه الحالة التي يرميك فيها القدر وسط أقوام لا تشبهك بل هي نقيضك على طول الخط – من وحول الواقع وهرج الحياة الغارقة في القشور والمظاهر والنفاق .
الخيال في المرض كما في الصحة ، لكن في الأول أكثر ضرورة وإلحاحاً لتجاوز عقاب المرض والتاريخ ، والنزول من ذلك المهد الهذياني للطفل المريض المتأرجح في الفضاء اللانهائي للمحنة..
وحين تفقد بوصلة الخيال أو يتعطل نشاطها ، تغرق في لجّة الوهن والإحباط وتغادرك تلك الحيوات الرحبة السخيّة ، التي تلوذ بها كتميمة وملاذ . وتستسلم للحقيقة الأكثر عمقاً وثباتاً : الهشاشة والضعف والغروب . حقيقة الكائن المُلقى منذ الولادة على قارعة القدر والطريق ، حتى ذاك القاطن في الفلل الفخمة والبيوت الفارهة.
أنت الآن وحيداً وملقى في نار الإحتمالات لهذيانات الحمّى والوحدة ، وحيداً حتى لو كنت محاطاً بالكثرة الكاثرة ، لكن عينك ما زالت على ذلك الخيط المتسلل من النوافذ المغلقة .
ما زلت تحلم . مازالت الحياة تشكل لك إغراء نزهة أو قراءة كتاب تجد فيه بعضاً من اشلاء ذاتك ، وصحبة امرأة قادمة من ضفاف المجهول تشبه تلك المرتجفة حبّاً بين صفحات الكتاب.
***
يحمل لي صوت (الصفرد) مع أذان الفجر
أحلامَ بشر قدماء
يلعبون الغمّيضة في الوحل والمياه
ويحمل أيضاً
ضجيج بحّارة يتنادون للرحيل.
 
 
1