الموت, الزمن, والغياب
( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه )
(سورة الإسراء)
»أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد«
(طرفة بن العبد)
ما يبعث على الدوار والإرتباك والتش ظي, هو ذلك التعاطي أو التفكير في الموضوعات الأكثر ح دية وواقعية- رغم غيبيّتها- وتدميرا , كالزمن والموت والغياب في المجهول القادم لا محال, والإمحاء والفناء.
يضطرب المرء حد تغيير الوجهة وتكريس الوقت لنسيانها وتجاوزها المؤقت بالضرورة, فكأنما الحياة بضجيجها وسعيها, بحبها وكرهها وشرورها الكثيرة; بكل ما تفصح عنه وتختزنه من حركة ودأب وطموح, ليس إلا نسيان تلك الواقعة الرهيبة, واقعة الموت والزمن والفناء.. تتراكم الغيابات والجروح في أعماقنا جر اء الحركة والسعي في دروب الحياة, وعبر الصمت والفراغ, تتراكم وتتشعّب كأنها مقدّمات أولى, تمارين الممثل على الخشبة, قبل أن ندلف في الغياب الأبدي الذي حملنا وشم حتميّته الصارمة منذ صرخة الولادة وربما قبلها بقرون.
كل شيء يذكر نا بهذا الغياب القاهر, بالتغيّر وعلاماته التي نستشعرها ونرقبها على أجسادنا التي تنحدر نحو الضعف والوهن, نرقب التغيّر ونحاول التكيف معه لأننا لا نملك شيئا تجاه هذه القدرية العمياء. نرقب ونلاحظ التغيّر في مرآة الآخر الذي عرفناه ذات يوم ضاجا بالحيوية والمرح, وإذا به مليئا بالندوب الجسدية والروحية, بالتجاعيد وعلامات الإنحدار نحو الغروب الأكيد, حتى ممثلي السينما الذين شاهدناهم في مطلع العمر, وهم كانوا كذلك, نشاهدهم الآن, ليس لملاحظة أدائهم التمثيلي وإنما إلى ما فعل الزمن بوجوههم وأجسادهم رغم كل المساحيق والحيل التي يحاولون بها, تغطية هذا الفعل التدميري; وماذا فعل بنا?
كل شيء يذكر نا بالزمن والغياب في هذه المناطق المدارية التي تلتهم الفصول كما يلتهم الوحش فريسته, كما يلتهم الموت ضحاياه بشهيّة شبقة لا تنتهي; من السّحب العابرة, فوق سماوات مقفرة بحيواناتها وأطيافها التي لا تلبث أن تضمحل وتتلاشى. إلى الجبال الغامضة التي من فرط قدمها وصلابتها يمكنك أن ترى أساطير الخلق تلهث على أديمها كالوعول الهرمة, بحثا عن أزلها في خضم الأزمنة.
كل شيء يذكرنا بالموت ويلح ويستحوذ على مشاعرنا وتفكيرنا, خاصة في هذه البرهة التي نعيش من التاريخ, حيث استعراضات الفناء الأكثر تطورا وبذخا , حيث آلة الدمار والحرب البالغة السطوة والفتك, حيث العنف احتل مسرح الحياة كاملا , من أناشيد الأطفال ولعبهم وإعلانات التلفزيون وأدوات الاستخدام اليومي, إلى عويل الحيوانات والطيور في أقفاصها التكنولوجية. حتى الأزرار الالكترونية التي بضغط الإصبع الأصغر, يمكنها أن تبيد الكون عدة مرات.
يشعر الكائن الحديث أنه محاصر بآلة الموت, وأكثر ضعفا وهزالا من سلفه البدائي في مواجهة تلك القوى الخارقة للسيطرة والسحق. لم يكن الأسلاف البدائيون يقينا , يحتلهم الذعر والهواجس من غموض قوى الطبيعة وبطشها, مثلما عليه الآن, أمام سطوة القوة ولهب الجحيم الذي صنعه البشر بعبقري تهم, حتى استحال العالم إلى صرخة احتضار طويلة, التي ربما سيختصرها بطلقة الرحمة أحد قادة هذا التاريخ ومعتوهيه..
يحار المرء ويهرب ما استطاع الهرب من أكثر الحقائق واقعيّة وصدقا , الحقيقة التي تندحر أمامها جميع الوقائع والصيرورات التي تبدو بالغة النسبية أمام جبروتها وكمالها المطلق.
هذه الإزدواجية التي دوخت البشرية منذ بداياتها على هذا الكوكب, وطوحت برأس الجميع, من البشر العاديين, حتى الفلاسفة والنخب التي تحترف التأمل والمعرفة والتفكير. فلم يعد لدى معظمها بارقة وضوح, أمام هذا العبور السرابي الكئيب, بين ولادة قسرية لا خيار للكائن فيها, وبراثن موت أكثر عنادا وإكراها .. لم يعد من عزاء أمام هذا اللغز المفعم بمجد العبث, عدا التمسك بأهداب خلود الروح أو رحلة الإقامة الأبدية.
جيل بعد آخر يولد البشر ويمضون نحو انحدارهم المحتوم, نحو الشيخوخة, إن أدركوها, والموت.
أجيال تتقاذفها الأزمنة كلعبة شطرنج رتيبة ودموية. لا أحد يستطيع العد والإحصاء. المقابر تزحف فوق بعضها في ليل العالم الذي استحال إلى مقبرة شاسعة من الأنين والغرقى, والجراح المفتوحة على مصراعيها, في الحروب والصراعات وسحق القوي للضعيف حتى من غير مصلحة واضحة أحيانا عدا رغبة الإبادة في حد ذاتها, مشهد المجزرة, كصفة غريزية أصيلة في الكائن البشري, أخذت أبعادها اللامحدودة في عصرنا »الحضاري« الراهن..
كل شيء يتداعى باتجاه الموت والفناء, الإختفاء والغياب, يكفي أن تحدق في راحة يدك قليلا , كي تتذكر الذين عبروا حياتك لهذا العام, من أحبة وأصدقاء, ومعارف- ما أقسى غياب من تحب- يتداعون حتى تخالهم بشرية كاملة عبرت من غير أمل في عودة أو لقاء. لحظات الفراق والغياب عبر الشوارع والمحطات والمطارات التي تشبه موتا مصغرا لا يفتأ ينزف في أعماقك لا يفتأ تكابد مسراه الأليم. يكفي أن تتذكر لحظات الغيبوبة التي رحلت في تخومها وأنفاقها المظلمة التي لن تكون ثمة عودة منها, لكنك عدت, ربما بسبب تميمة أحاطتك بها أمك الراحلة. أو بسبب نجمة حائرة في الأفق, كانت الأقوام الغابرة تهتدي بها في ترحالها الطويل بين الفجاج الصخريّة.
كل غيبوبة هي مشروع موت رجعت من منتصفه, كان يمكن أن تذهب إلى آخره وتكون العودة مستحيلة, لكنك عدت , وعلى شفتيك طعم الإفتراس لجلاّد العصور الأزلي.
عدت من غيبوبتك, حين سقطت في طفولتك وأنت تصلي حتى أمر »الشيخ« بقطع الصلاة لإسعافك والرجوع إلى الحياة من جديد..
كانت تلك بداية الدخول في ظلمات الغياب والفناء التي تعود من منتصفها, لتواصل الحياة على جسر من الغيابات والكوابيس والهدم للأشياء والأماكن والشخوص حتى آخر الرحلة. كل رحلة هي نوع من غيبوبة وانخطاف. كل سفر هو امحاء وتجدد وغياب, بمثابة تمرين على استيعاب الغياب الأكبر والفناء.. في النوم تنفتح الآفاق والفضاءات كل ليلة على قارات تنمحي فيها وتتغيّر وتغيم الأماكن والوجوه, الموتى والأحياء, لتتعايش في تلك الأصقاع الحلمية.
في الترحال تعود إلى تلك الأماكن التي هجرتها وهجرتك, لتشاهد عمليات التدمير الواضحة والخفية , لسيرورة الزمن, العاصفة.
حتى في رحلة الجماع هناك نوع من موت وغياب, تعبر عنه تلك اللحظة المحتدمة بين الذكر والأنثى وهي تقذف حمولتها لتدخل في الفراغ والعدم, بعد غيبوبة النشوة التي تحاذي وتخترق غيبوبة الإحتضار.
***
في تاريخ المعرفة والوعي البشري ين منذ العصور البدائية, اكتسب هذا الوعي وهذا الإدراك المرير لواقعة الموت والتغيّر والفناء, صفات الحيرة والدهشة, ومحاولة الترويض المستمر بوسائل شتى لهذا الوحش الأسطوري الذي يسري في الحياة مجرى الدم في عروق الكائنات. و»الأقرب من حبل الوريد« حسب الآية الكريمة. كانت الدهشة البالغة, لدى الشعوب الأولى في التاريخ, أفضت بالضرورة إلى تلك التصورات المجروحة بصدمة الموت, والخرافة, قوام ملاحم الأدب التي ظلت مشاعرها وأخيلتها خالدة حتى اللحظة الراهنة. فمنذ حيرة (جلجامش) أمام موت صديقه (أنكيدو) واضطرابه حد الهياج والجنون, أمام ذلك الحدث المفاجئ, الذي زلزل كيانه ولا يستطيع أن يجد له أي مبرر أو تفسير, وحتى ذهابه في البحث عن ترياق وعزاء , لهذا الهجوم الكاسر من قبل الموت. وحصوله, بعد رحلة مليئة بالكوارث والأخطار على عشبة الخلود التي ستسرقها الحية في رحلة العودة, ليعود إلى مسيرة وشقاء الإنسان الفاني.
لا يهدأ بال (جلجامش) إلا حين يلتقي (سدوري) ربة الحانة لتخفف من روعه بإفهامه نقصان وفناء البشر كطبيعة جوهرية وجبلة, أمام كمال الآلهة وخلودها.
هذه الملحمة البابلية الأولى في التاريخ لا تختلف كثيرا في جوهرها عن أساطير وتصورات أخرى في أزمنة مختلفة حول واقعة الموت والفناء. فشعب (الهوتوت) الذي كان يعتقد بأن الإنسان و لد خالدا , لكن الموت نزل به بسبب خطأ ارتكبه الرسول الذي كان يحمل الرسالة, بسبب الحقد, أو أنه لم يصل في الوقت المناسب.
في الأسطورتين هناك الصدفة التي ستقلب المصائر والتاريخ رأسا على عقب: الأفعى السارقة هناك والرسول هنا.
كانت الجماعات البشرية الموغلة في التاريخ قبل انبثاق الوعي واستوائه, تعرف الموت عبر الإحساس والحدس, وربما الحيوانات كذلك, عكس ما كان يعتقده (فولتير) بأن الموت عرف عبر »التجربة« وهذه المعرفة خاصية بشرية لا علاقة لها بالحيوان.
ربما كانت نظرة فيلسوف »الأنوار« ومركزية الإنسان المفرطة في تبوئه السيادة المطلقة, على سائر المخلوقات, التي ثبت نقصانها لاحقا, جعله ينكر حتى فضيلة الإحساس لدى الحيوان بقرب نهايته. هناك دراسات أثبتت على نحو عميق, كون الحيوانات تملك مثل هذه المشاعر, فالفيل مثلا , حين يراوده إحساس النهاية والأجل المحتوم, ينفصل عن الجماعة أو القطيع وينتحي مكانا بعيدا ليقضي فيه نحبه.
تمضي مسيرة الإحساس بالموت والوعي بفداحته, إلى مسالك متشعبة عبر العصور والجماعات والشعوب, لتبلغ ذروة من ذرى ذلك الوعي الحاد بزوال الكائن وعبوره السريع, في الحضارة الفرعونية, بعد البابلية, السومرية, فالوعي المأساوي لدى الفراعنة بحقيقة الموت, جعلهم يتعاملون مع معطى الحياة الدنيوية, تعامل المسافر في رحلة قصيرة, صوب مستقره الأعلى, صوب الخلود والأبدية. وجعل نظرتهم إليها نظرة ريبة واغتراب يلامس حدود الاغتراب »الميتافيزيقي«. وكما عبر (شبننغلر) في كون الروح المصرية القديمة, لم تر نفسها إلا في مرآة العابر, لتساءل أخيرا أمام قضاة الأموات.
هذا الوعي الحدي المتعاظم برعب الزمن والموت, جعل الروح الفرعونية تحتقر كل ما له صلة بحياة البشر الأرضية. إحساس بالتيه والضياع وانعدام قيمة الحياة جعلهم »يضعون أول حجر في بنيان النزعة العدمية« حسب ابراهيم الكوني. من هنا كان اهتمام المصريين القدماء منصبا بشكل استغرق جل تفكيرهم وعبقريتهم في الفن المعماري والبناء على »بيت الحنين والحق والأبدية« البيت الأخروي. فأقاموا وشيدوا تلك الآيات المعمارية, الباذخة, التي ظلت ومازالت في بهائها الميتافيزيقي عبر كل هذه القرون.
يكفي أن تذهب في مساء من مساءات القاهرة, قبل غروب الشمس لتشاهد ذلك الضياء البرزخي المهيب, تلك الظلال الشبحية القادمة من الماضي ومن أرواح أضنتها هواجس الموت والزمن والغياب. وعلى النحو نفسه كان برج بابل عند البابلي ين كرمز لنزوع البقاء والخلود في مواجهة الزمن وانقلاب الأحوال.
أما (بوذا) أو (سيدهارتا) ذلك الأمير الذي نشأ في نيبال, على سفوح الهملايا, في أسرة ملكية. بوذا المتمر غ في الترف والنعيم, ما أن خرج من قصره العائلي وشاهد لأول مرة في حياته, أشخاصا تجل ت فيهم آثار الزمن, من مرض وشيخوخة وفقر وموت, حتى أطلق صرخته الأولى »أرى في كل مكان أثر التغيير, لهذا السبب قد اغتم قلبي. يهرم الناس ويمرضون ويموتون, أليس هذا كافيا لهدم كل رغبة في الحياة«.
بوذا الذي غاص واستبطن أكثر من غيره ظلمات الشر في أعماق الكائن البشري, مما أفضى به, رغم تعاليمه الخلاص ية التي سطحها مريدوه لاحقا, باستثناء »زن« الصينية البالغة العمق والجمال, عكس الهند التي يصفها (ميشيما) بالبوذية القذرة, إلى تلك النزعة العدمية في رغبة زوال الكون أو عدم وجوده أصلا »رائع أن نتأمل الأشياء, لكن الأروع ألا يكون هنالك أي شيء« أو عبارته التي يلتقي فيها مع (شوبنهور) »العالم حلم يجب أن نتوقف عن حلمه«.
لكن بوذا الحكيم وهو ينشر تعاليمه ومواعظه وسط حشود المؤمنين به, حول الحقائق الأربع والطريق ذي الفروع الثمانية, يلقي عظته الأولى في حديقة الوعول العزيزة على قلوب أنصاره في (بينارس). وعظة النار التي أبان فيها بأن كل شيء يحترق, كل شيء تلتهمه النيران, الأشياء والأجساد وكذلك الأرواح. هذه التصو رات ستفضي به على رؤية التقمص و»التناسخ«.
في تلك الحقبة حين كان بوذا; في القرن الخامس قبل الميلاد, كان (هيراقليطس) الفيلسوف الإغريقي, يفكر بعودة الأشياء إلى النار الخالدة. ورغم عقلانية هذا الفيلسوف وماديته, فإن هذه الفكرة تميل الى التدمير أكثر مما تميل إلى البناء حسب (بورخيس) وبعض شارحيه.
في تلك الحقبة, كان فلاسفة الإغريق الأوائل, السابقون على سقراط. كهنة المعرفة الأثيرين أيما إيثار على قلب (نيتشه) والذين يصفهم بفلاسفة العصر الإغريقي المأساوي الأول, يكتشفون »الأنساق الكبرى« في تاريخ الفلسفة, التي كانت بالنسبة لهم عزاء وغاية في حد ذاتها أمام صحراء العدم والموت.
اهتم هؤلاء الفلاسفة بواقعة الموت, محاولة الإجابة على هذا الحدث الجسيم. وأول نص فلسفي يتحدر من تلك الحقبة حول صفة الفناء الملازمة للأشياء كطبيعة جوهرية في لب تكوينها, هو شذرة (انكسماندر) التي تقول »أن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي نشأت منها, وفقا لما جرى به القضاء, وذلك أن بعضها يعوض بعض وتدفع جزاء الظلم كما يقضي بذلك أمر الزمان«.
ويعلق نيتشه على الشذرة باعتبارها »بيانا غامضا لمتشائم حقيقي« وهو يفسر الشذرة, بأن الدمار والموت هما الجزاءان اللذان تتحمل هما الأشياء الجزئية عن جريمتها المتمثلة في الخروج على الأساس الخالد للوجود.
أما (هيراقليطس) فقد هيمن على فكره ذلك الطابع الفظيع لزوال الأشياء والكائنات, وهو ما فرض عليه مبدأ التغيّر الجذري, باعتباره الأساس الحاسم لمسار الواقع والحياة.
»إننا ننزل ولا ننزل الأنهار مرتين, وإننا موجودون وغير موجودين«.
في العصور اللاحقة للمعرفة والأدب والشعر, تشعبت مسألة التفكير والنظر في وقائع الموت والفناء, وأخذت سجالاتها دروب متاهة يضيع فيها الدليل.
تعددت الرؤى والحدوس والاجتهادات تبعا لخلفيات الفكر ومرجعياته المعرفية, لكن بقى نبع تلك الجذور التي أبدعها أولئك الأسلاف الأسطوريون والفلسفيون بمختلف البيئات المعرفية والمكانية. ظلت مسألة الموت حاضرة بقوة في مختلف تجليات المعرفة البشرية. هناك من يرفعها إلى مستوى الأس والعلة الأولى كرافعة لأي ممارسة فلسفية أو إبداعية مثل (مونتاني) »التفلسف هو أن نتعلم كيف نموت« رغم أنه يحاول قهر الموت عن طريق وعيه والتكيف معه. وهو »أكثر الأشياء فظاعة« والروح الملهمة عند (افلاطون) والفلسفة إذ تبدأ بالدهشة, فليس هناك ما هو أكثر إدهاشا من الموت. أما (اسخيلوس) فيشيد بالموت كخلاص من الحياة »بؤس كلها الحياة ولا خلاص«. وعلى المنوال نفسه, (أبوالعلاء) بعد أجيال:
»تعب كلها الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد«
أما في العصر الحديث وعند مفكر مثل (باسكال) الذي يقول »يلقى قليل من التراب فوق رأس المرء وينتهي كل شيء« (باسكال) الذي لا يفتأ يرد بصوت جريح, أن الموت إذا كان يفضي إلى فناء الحياة كليا, فإنها تغدو مهزلة مجردة من أي معنى وسخيفة. وهو القول الذي يجد صداه, بأشكال وصور شتى, في تفكير ونتاج السابقين واللاحقين.. لابد من إيمان, من حياة أخرى, من أسطورة ويقين وعزاء, وإلا تحولت الحياة إلى مهزلة بالفعل وقيئ ودوار على شفا هاوية سحيقة. كان هذا البحث عن خلاص منذ الحضارتين البابلية والفرعونية والعصور القديمة مرورا بافلاطون وخلود النفس وقبله الفلاسفة الأوائل الذين رأوا الخلاص في الفلسفة. وصولا إلى المتصو فة الذين اعتبروا العالم جزءا من وهم أو حلم, رأوه في التوحد والحلول في المطلق, حتى (بوذا) العدمي الكبير رآه في »التناسخ« والماركسية استبدلت التصور الغيبي بوهم الفردوس الأرضي الذي ثبت استحالته على أرض البشر… و…إلخ. حتى (أبوالعلاء المعري) الذي اخترقت كيانه الروحي صدوع وشكوك كثيرة حول الخلاص الأخروي, مثل قوله:
»ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحط منا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا ي عاد له سبك«
هذه الأبيات التي تدل على فظاعة عبور الزمن وهول التغيّر والتدمير, نجده- أبوالعلاء- في الكثير من متونه الشعرية والفلسفية مسكونا بذلك النزوع الروحي الأخروي.
لابد من عزاء من معنى يجعل الحياة مقبولة وممكنة. حتى أولئك الذين يخوضون حربا شبه انتحارية غير متكافئة على أرض وطنهم الذي تحول إلى مقصلة كبيرة, مثل حالة الفلسطينيين في اللحظة الراهنة وحالات لا تحصى في التاريخ, بجانب سعيهم الأخروي, يحمل مفهوم (الشهادة) إيمانا مزدوجا , فأسطورة الوطن السليب وسحره يجعلهم يذوبون في أحشائه الترابية. فالوطن هنا قد تحول ليس كمتطلب إقامة ومعيش على قطعة من الأرض, إنه أسطورة عشق وخلاص بأبعاد فيزيقية وغيبية, يجعلهم يموتون في أحضان راحة الإيمان والسكينة والخطر لا يعني شيئا بالنسبة لهم مثلما يقول (أرسطو): »غير أن الجنود المحترفين يستحيلون جبناء جميعا حينما يثقل عليهم الخطر.. بينما تموت قوات المواطنين في مواقعها«.
لابد من معنى يجعل الحياة مقبولة وممكنة, فالإنسان الذي يقوده ذكاؤه وحساسيته المرعبة, إلى العدم المطلق سينتهي إلى الانتحار والجنون. وربما كان (نيتشه) وآخرون من هذه السلالة النارية. »العود الأبدي« ليس إلا عد م يتكرر بقسوة حتى اللانهاية.
***
إذا كان هناك من يرفع (ثيمة) الموت والإحساس الكاسر بالفناء, الى مستوى الأساس والمعين الذي لا تنضب مياهه المتدفقة باستمرار, لأي ممارسة فكرية وإبداعية, فهناك من يقلل من هذه المسألة كونها موضوعا أساسيا للتأمل الفلسفي مثل (اسبينوزا) في القرن السابع عشر, فهو يدعو إلى عدم التفكير في الموت والا نكترث أو نبالي به »إن الإنسان الحر لا يفكر في الموت إلا أقل القليل, لأن حكمته في الحياة وليس الموت« لكن (اسبينوزا) حسب شارحيه, تنطوي عبارته على نحو من التباس, فهو لا يقصد بعدم التفكير في الموت, انه لا ينبغي التفكير فيه, فتلك زلة لا يرتكبها فيلسوف بحجم (اسبينوزا), وإنما قهر انفعالاته وهواجسه كيلا يحطم رغبة الحياة, خاصة بالنسبة لإنسان لا يتمتع بحصانة من رهبة الموت والزوال.
فيلسوف آخر قبل (اسبينوزا) بقرون هو (أبيقور) الذي أطاح برهبة الموت في فلسفته. واعتبر أن هذه الرهبة وهذا الخوف يثقل الحياة ويحطمها من غير طائل; ولا يعني شيئا, فالخير كله والشر كله يكمنان في الحس, »الموت لا يكون مؤلما حين يحل وإنما توقعه هو المؤلم. وهكذا فإن الموت وهو أعظم الشرور, لا يعني شيئا بالنسبة لنا, حيث أنه طالما كنا موجودين فإنه غير موجود ولكنه حينما يحل فإننا لا نكون موجودين. وهكذا لا يثير القلق في الأحياء ولا الموتى, فهو بالنسبة للأوائل ليس موجودا, أما الأخيرون فيصبح ليس لهم وجود أصلا«.
(أبيقور) الذي روّض عنف هواجس الموت والفناء ليعطي الحياة حجة أقوى ويعلي من شأنها إذا ما عرف الإنسان كيف يحيا وكيف يموت; انه يغالب القدر والمنية حتى ولو كانا حتميين وبسبب ذلك, مثله في هذا المنحى مثل طرفة ابن العبد:
»وإن كنت لا أسطيع دفع مني تي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ألا أيهذا اللائمي أشهد الوغي
وإن أحضر اللذات هل أنت مخلدي«
وكذلك زهير بن ابي سلمى في تعبيره عن عشوائية الموت والدعوة الى التخفيف من ثقل انتظاره:
»رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم«
والواقع أن معلقة طرفة بن العبد, يهيمن عليها مناخ الموت ويلفها بسح به الأكثر كثافة ومأساوية في هذا المنحى الوجودي الاغترابي للشعر الجاهلي خاصة. فهذا (العابر الكبير) في تلك الصحارى المترامية العدم والوحشة, يمزج في معلقته الفريدة عبث الوجود وتلاشيه بالسخرية والخوف والألم من واقعة الموت والفناء:
»ارى قبر نحام بخيل بما له
كقبر غوي في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يغتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن العيش ما أخطأ الفتى
كالطول المرخي وثناياه باليد«.
الدارس لما دعي بشعر العصر الجاهلي, يجد بسطوع هذه (الثيمة) التي ينهض عليها بناء هذا الشعر وعد ته وفحواه, وهي تلك الروح القلقة المترحلة وسط تحولات الرمال والعواصف والجوارح البشرية والحيوانية, متأرجحة بين حدي الحياة والموت; نجد محاولة الاحتفاء بالأولى ومغالبة الثاني ومدافعته. وذلك الشعور العميق بالزمن وتقلص الأشياء وزوالها. فاللحظة الطللية في ذلك الشعر, هي التعبير الأعمق عن هذه الأحاسيس المحتدمة بالزمن والموت وغياب الأحبة. بقدر ما كان الشاعر الجاهلي مغمورا بهذا الهاجس التراجيدي وبذلك الحنين إلى ما تلاشى واضمحل بفعل الزمن التدميري, بقدر ما يحاول دحره, رغم عدم تكافؤ المنازلة, والانتصار عليه في الإعلاء من مكانة الحياة ونبل القيم الفروسية وصرامة أخلاقها. الحياة التي يدافع عنها »الجاهلي« عن كرامتها ومستواها البطولي اللائق, بكل ما ملكت يداه., وتكون التضحية وفق هذه القناعة, والموت في سبيلها, شيئا لا يثير الذعر والخوف, وإنما فرح الإقدام, رغم هاجس الغياب القادم في حومة الوغى, عن سمو هذه الحياة حسب شروط ذلك الوعي المتوارثة. ويكون الموت الأقسى والأدنى في التراجع والانهزام عن أداء مهمة الواجب المقد س.
***
إذا كانت تلك بعض سمات الشعر الجاهلي القوي تجربة وفنا , التي يشترك فيها معظم الشعراء, بدرجات متفاوتة, فإن طرفة بن العبد يصل ذروة المأساة, رغم حياته القصيرة, في التعبير الحاد, المتوتر النازف, عن احتدام هواجس الموت ونقصان الوجود وتصرم الأزمان, وعن محيطه الاجتماعي والعائلي المعادي, الذي بجانب رؤيته الوجودية, دفعه إلى مزيد من التوتر والإغتراب. فهو يرى برهافة أكثر, كيف يحصد منجل الموت الكائنات كل هنيهة ولحظة, يحصدها ويقصف أعمارها وأحلامها منذ ولادتها. فالمخلوقات نافدة سلفا أمام سطوة الزمن والموت, لكنهما لا ينفدان. فهما في كينونة متجددة وشباب دائم لا تنضب له نضارة على الاطلاق.
إن معل قة طرفة, هي تراجيديا الشعر الجاهلي بامتياز. ومن عيون الشعر على مر الأزمان, في التعبير عن ارتطام الكائن بسراب الحياة وعبثها, بالع دم والموت.
شاعر آخر من العصر الأموي لا يقرأ ولا يكتب, وهو وإن كان في البرهة الأموية, فالأقرب إلى سلالة الشعراء الجاهلي ين في قاموسه ومناخه الشعري , هو (ذو الرمة):
»أخط وأمحو الخط ثم أعيده
بكفي والغربان حولي وقع«.
(ذو الرمة) مثل أسلافه في التعبير عن متاهة الصحراء- الوجود. وعن الحب العدمي القاسي في غمرة هذا الترحل والعبور للبشر والزمن. وهو يعكس نظرة وجودية مليئة بالعبث واللاجدوى إلى الحياة التي لا مستقر لها ولا قرار.
الخط, ومحو الخط, هكذا إلى اللانهاية, أو النهاية المعروفة سلفا والتي ستفضي إلى ما هو غامض ومجهول ومأساوي بالنسبة للشاعر.
عبث مقرون بالفجيعة, محركه الخط ومحوه, مصحوبا في نفس (الكادر) بحركة وقوع الغربان, وهي حركة ارتطامية, وليست عادية, إنها تقع ولا تحط على جاري عادتها.
الشاعر (أبوالعتاهية) من العصر العباسي, كان مسكونا ومخترقا أكثر من أقرانه في ذلك العهد الخصيب. بلوعة الموت والغياب والتلاشي. كان ممزقا حد التدمير ولعن الحياة واحتقارها. وهو إذ تغلب على شعره المفارقة, فربما لكي يستطيع أن يتاخم عبث الوجود وما ينوء به من أحمال مرهقة, فيصل رفضه للحياة, وهيمنة الموت على جل كيانه.
»لدوا للموت وابنوا للخراب«. فلسان أعماقه يقول, إن الأرض والبشر, من الفساد والخراب, بحيث شكلا , بيئة نتنة, غير صالحة للولادة والبذار والنمو . وهو ما قال به على نحو أعمق (أبوالعلاء المعري) والفيلسوف الألماني (شوبنهور) كون الإنسان كائنا ما كان له أن يوجد أصلا . فمن ثم فهو يدفع تكفير وجوده, بتلك الصورة الفظيعة لمعاناة الألم والموت.
هذه الرؤية القاتمة هي التي تدفع (شوبنهور) إلى القول »قصر الحياة الذي يثير الأسى, هو أجمل صفاتها«.
وعلى الضفة نفسها يقف المعري:
»ليت حو اء عقيم غدت
لا تلد الناس ولا تحبل«
يذكرنا أبوالعلاء (بسيوران) أبوالعلاء, العصور الحديثة, حين كان يتمنى على (نوح) أن يحرق سفينته, ويستأصل المأساة من جذورها.
هذه الرؤى التي تذهب عميقا, من غير مواربة ولا أقنعة في استبطان جذور الوجود, سواء من قبل فلاسفة وعلماء ومثقفين, أو من جهة شعراء يسكنون الصحراء, عدتهم الوحيدة ذلك الحدس العميق وعنفوان الغريزة وقوة الفطرة والتجربة; ولا ترى في مرآته المقعرة (الوجود) غير الألم والمأساة والعبث, تدعو ضمنا وصراحة إلى عدم صلاحية هذا الكائن المدعو (الإنسان) أو انتهاء هذه الصلاحية, الذي كان من الأفضل والأجدى عدم ظهوره في التاريخ, وتحجره في ظلمات العدم والسديم. هذه الرؤى سبقت بعضها نظري ات العصور الحديثة, وجنائز الوفيات المتعاقبة. من إعلان (نيتشه) عن موت (الميتافيزيقا) في القرن التاسع عشر, الى (البني وية) التي أعلنت بدورها موت الإنسان الذي عليه أن يخلي مسرح التاريخ لجنس آخر (فوكو). حتى فلاسفة البيئة, الذين يرون أن الطبيعة في طريقها الى الإنقراض تحت وطأة زحف التكنولوجيا والعمران والأسلحة الذرية والجرثومية.
ها هو الإنسان, عاريا من كل ادعاءاته, على صفحة هذا الكوكب الهرم. الإنسان الذي و لد من رحم جريمة غامضة, ليقترف كل هذه الجرائم والمذابح, يوشك على الأفول والزوال مع طبيعته وإنجازاته وانتصاراته, وعظمته, التي من العبث والمفارقة, أن تكون له اليد الطولى, مستبقا, الزمن والدهر, في استئصال شأفتها وتدميرها.
***
الموت والغياب والسقوط الذي كان هاجس الفلاسفة والشعراء والفنانين وملهمهم بطرق شتى, في شكله الفردي والجماعي, والاثنان معا. حيث يتم ترميز موت الجماعة والمرحلة والطبقة بموت الفرد, العلامة على السقوط والإنهيار الشامل, كما في بعض أفلام المخرج الايطالي (فيسكونتي) الذي غالبا ما يعتري شخصياته وهي في غمرة النشوة واللهو, نوع من دوار وغثيان يعقبه السقوط الذي يؤشر لسقوط مرحلة من التاريخ أو طبقة, بقيمها ومفاهيمها التي سادت حقبة من الزمن لتحل محلها أخرى. وبعض أفلام (فلليني) (ساتيركون) مثلا, ذلك الفيلم الملحمي القيامي الذي »يؤرخ« لسقوط روما الامبراطورية. وفيلم (ثمانية ونصف) الذي نرى فيه من غير ترميز ولا كناية, بطل الفيلم (مارتشيل و ماستورياني) يخاطب أباه الميت الذي يظهر فجأة في مشهد عتاب مرير لا يلبث أن يختفي. والأمثلة لا تحصى في كافة فضاءات المعرفة والفن.
في الشعر, نجد المتنبي الذي عاش مرحلة فاصلة في التاريخ العربي, مرحلة انهيار الحضارة العربية الإسلامية, بسقوط الامبراطورية العباسية, وتشظيها إلى دويلات وعصابات يحكمها أمراء تافهون وقطّاع طرق, كما يليق بآثار وتبعات العظمة وأفولها أن تكون.
هذا الموت الجماعي هو ما أرق المتنبي وصدع كيانه الروحي, فكان في القلب من متنه الشعري الرفيع. كان الغياب لشاعر مترحل باستمرار والإنهيار والحنين, مركز إلهامه الشعري. ووجد في (سيف الدولة) ما يطفئ بعض ظمائه, إلى السمو والكبرياء, فكان حلوله فيه حلول الصوفي في المطلق. ربما يفيد التذكير بشبه تلك المرحلة الباهظة التشظي والإنحطاط, بما يعيشه العرب والمسلمون الآن, استمرارا لها, حيث يتداخل الموت الفردي بالموت الجماعي الكاسح بشكل عضوي لا فكاك منه.
إذا كانت تلك شروط (المتنبي) الاجتماعية والحضارية, فما الذي يجعل شاعرا مثل (إليوت)- مثلما كان (أبوالعتاهية) في ذروة الحضارة العربية- في القرن العشرين, وهو يعيش صعود الحضارة الأوروبية وجبروتها, أن يعبر ذلك التعبير الشعري البالغ الفظاظة والرعب والتشاؤم, ليس على المستوى الوجودي/ الميتافيزيقي, الطبيعي في أي شاعر عظيم, مهما كانت, وبدرجات مختلفة, شروط حياته, وانما على المستوى التاريخي والاجتماعي. إنها الرؤيا الفاجعة التي لا يراها علماء الاقتصاد والصناعيون والإعلاميون, والساسة, رؤيا الشاعر التي تخترق الحجب إلى النفق الآخر من الوضع البشري الذي يموج ظاهره بالتقدم والفرح والرقي , لكن باطنه يضطرم بالجحيم والاحتراق. إن الموت يخيّم على مجمل نتاج (إليوت) وأقرانه الأوروبيين والظلم وانهيار القيم. وجاءت الحرب العالمية, لتدفع الشاعر إلى أعماق أكثر كارثية وقتامة. فلم ير في الحضارة الأوروبية, إلا كل ما هو سالب ومدمر لروح الإنسان وفطرته وأخلاقه, لم ير إلا الموت والخراب في كل مكان.
»يا مدينة الوهم
تحت الضباب الأسمر, ضباب فجر شتائي
على جسر لندن تدفق جمع غفير
لكثرته نسيت أن الموت حصد كل هذا الجمع الغفير
وصعدت آهات قصيرة«.
رغم ما وصلت إليه الحضارة الأوروبية وما أنجزته من مكاسب حياة فارهة, ومن خصوبة العقل الخلا ق والطبيعة في غزارتها وجمالها, فهو لا يرى إلا الجفاف والقحط واليباب, كأنك في واحدة من أعتى صحارى العالم وأكثرها يباسا ووحشة:
»هنا لا توجد مياه, وإنما يوجد صخر فقط
صخور لا مياه والطريق الرملي
الطريق المتعرج في الأعالي
وهي جبال من صخر بلا ماء
ولو كان هناك مياه لتوقفنا وشربنا
بين الصخور التوقف محال والفكر محال
والعرق الجاف والأقدام تغوص
في الرمال
ليت بين الصخور مياها«.
إنه جدب الحضارة وعقمها وجفاف مياه الروح والمشاعر, بعد أن أفرغت ينابيع الإنسان الداخلية, وتحول الإحساس الإنساني , إلى إحساس الكائن المنسحق تحت عجلة الحضارة الضخمة وهو »يدب في زقاق الجرذان«.. في هذا السياق أي وصف بقي لشعراء ومثقفي العالم الثالث, وهم يتغنون بأمجادهم الغابرة, أن يعبر عن درك واقعهم وموته وانقراضه?!!
(إدغار الن بو) الشاعر الأمريكي, كان تقو ض الجمال واضمحلال نضارته وموته, وقود ابداعه الشعري والنثري, فكأنما صدى مقولة (ديستوفيسكي) »الجمال هو المنقذ الأخير للعالم« تتل بس (بو) في رؤيته للشعر والجمال والموت. فهو يرى في موت النساء الجميلات وملامسة حفيف أطيافهن النائمة في الأجداث, أكبر نازع إلى الشعر والكتابة.. مرة أخرى, المرأة في غيابها وحضورها, ومنذ أسطورة (جلجامش) حتى القرن العشرين, هي التي تروض أشباح الموت الهائجة.
***
نلاحظ بوضوح, وشائج القربى بين الأساطير والفلاسفة والشعراء على اختلاف الأزمان والأماكن, ونأي هذا الاختلاف; في خيوط الرؤى والهواجس والنظريات, التي توحد هم وتشد هم إلى عرين الموت والزمن, وإلى الحب والحياة والجمال.?. فضاءات تلد أخرى, وقارات وأصقاع لا حدود لتخومها المعرفية والشعرية والمكانية. ولسنا هنا إلا في نزهة قصيرة في حقول وصحارى الموت والغياب الشاسعة, التي هي حقول الحياة في عبورها السريع..
——-
مراجع
»الموت في الفكر الغربي«- جاك شورون
ت: كامل يوسف حسين
إنجيل بوذا
إليوت: الأرض الخراب
ت: لويس عوض