حين اقترح عليّ ذات مرة الصديق جواد الأسدي ، وقد كان بباريس في مهمة تتعلق بعمله المسرحي ، أنه ينوي إخراج عمل فني ، مسرحي شعري ، انطلاقاً من نصوص أنجزتُها في أزمنة وأمكنة مختلفة يلمّ شتاتها في لُحمة هذا المشروع المشترك…
واقترح أن أساهم بأكثر من تلك النصوص والكتابات المتحققه شعرياً ، ولا بد من جهد تحويلي حتى تتجسّد على الخشبة ، إذ في النهاية لكل فن أدواته وخصائصه ، مهما شطّ التداخل والاندماج بين الحقول الابداعيّة المختلفه..
لكن ما حصل لاحقاً بالنسبة لي لم يتعدّ تلك النصوص والكتابات المنجزة سلفاًَ ، كنت أميناً على إرثي الشخصي التاريخي من الكسل العذْب واللامبالاة.
وكان جواد أميناً على نشاطه في خلق المشاريع مهما اتسمت بصعوبات إنتاجيّة وفنيّة … كان أميناً على عرين أُسده المغمورة بالتوحّش كما الألفة والدعابة المرّة.
***
كان يوم العرض المسرحي ، بعد أشهر من الإعداد والتحضير ، على كافة المستويات التي يتطلبها عمل من هذا القبيل ….. وجاء جواد مع فريقه الفني المفعَم بالمواهب ، من الشام وبيروت .
كان العرض على مسرح (الفليج) البعيد نسبّياً عن العاصمة مسقط ، والمفتوح على جهات الصحراء الألف ، في ذلك الخلاء الفسيح المضاء بالقمر والنجوم ، كجزء من ديكور المسرحيّة ، الديكور الخالد للطبيعة أمام الصنيع البشري السريع الزوال (أم أنّ الفن يقتسم مع الطبيعة بعض سمات ديمومتها وخلودها)؟ وغير بعيد (المسرح) عن صخب بحر الباطنة الجميل ، بنعيق غربانه السحيق …
حين شاهدت العرض مع غيري من الأصدقاء ، لم أجد ، جواد الأسدي قد تدخل في النصوص الأصليّة إلا بما يوصل تبعثرها وتشظيها ، بلحمة المسار المسرحي وسياقة ، خالقاً من تلك البانوراما الشعريّة ،النثريّة ، نسيجاً دراميّا وحكائياً متماهياً ومتناغماً بشكل خلاّق ، بهيّا وتدميريّا حتى أعماق الهاوية…
في مسرحيّة (كونشيرتو الحجر ، نشيد الصحراء) سيرة الذات والأقران ، سيرة ذلك الجيل الموزّع بين البلدان والأماكن والأفكار ، بين الأحلام المستقبليّة والإرتطامات المدويّة للواقع والتاريخ . ذوات مطعونة بالخيانة ، ممّزقة بالظمأ والحنين ، بالفَقد المبكر للأمومة والمركز الروحي الجامع ، نأي أمكنة الطفولة والحلم ، واستحالة الهدف ، إن وُجد أصلاً..
تحفل المسرحيّة بمفردات تلك المرحلة وسماتها ، حيث السياق يتموج عبر التمثيل والموسيقى والغناء ومختلف عناصر الفضاء المسرحي موّحداً على نحو مدهش تلك المقاطع والشظايا الشعريّة التي تلامس الحياة اليوميّة وتفاصيلها في الأماكن المختلفة والمنافي : الحقائب ، القطارات ، الجندي الهارب والطائر الجريح ، المرأة ، الخيانة ، المقهى ….الخ . من خصال المنفى وعاداته وسجاياه وكذلك الحروب وخرابها ورعبها ، وتشكل (ثيمة ) الجندي الهارب بين المدن والصحارى والمفازات ، بؤرة الدراما ، وروح حكايتها التي تبدأ من النشيد الجنائزي لموت الأم الواقعي والرمزي ، ولا تنتهي بمشهد الحقائب وصفير القطارات الذي جاء صادماً وجحيمّياً على نحو يذكر بما دُعي بمسرح القسوة ، أو بالبولوني الكبير (كانتور) وإذا صحت هذه الملاحظة ، فعبر القناة الخاصة لجواد الأسدي التي ربما أكثر فتكاً وقساوة.
***
سُررت بهذه الشراكة الروحيّة والإبداعّية ، مع جواد الاسدي كما كان سروري دائما (أنا المولود في قرية سرور ، وهو القادم من كربلاء ، أليس ثمة دلالة في هذا الحدث السحيق أم مفارقة قدريّة ساخرة؟) بعلاقتي معه التي تربو على الربع قرن وفق الحساب الضوئي للعدد الفلكي ، ورغم ذلك يمكنني في زحمة الأزمنة ودمويّتها وثقل خطاها ، أن أتبيّن بدء تلك العلاقة منذ (صوفيا) وحتى الشام وبيروت و…لخ.
حين كانت لنا أحلام كثيرة وواقع قليل ، وحين كانت الأخّوة الروحيّة والفكريّة وهذه الأخيرة على شططها وأوهامها ، تحل محل أخوة القرابة والدم والطائفة ، كنا عائلة واحدة مبعثرة في الأرجاء.
في البرهة الراهنة علينا أن نتمسك كالقابض على الجمر ، بتاريخ تلك الأخوة والصداقة وندافع عنها بكافة الأسلحة المتاحة لنا ، بالفن والشعر والجمال والصلات الحميمة الإنسانية اللانفعيّه كما هو سائد وكاسح ، في ظل هذه الهمجيّة الظلماء ، وكل هذا السُعار الطائفي والعرقي البغيض.
(نشيد الصحراء كونشيرتو والحجر) كما قدّمها جواد الأسدي بالفعل أوركسترا مهيبة لكن لا تخطئها عين السخرية السوداء ، للخراب العربي والبشري.
 
 
1