تغادر المكان أو البلاد ، من فندق أو منزل بإتجاه المطار لتنطلق بك طائرة الليل الموغل في هواجسه وأمطاره ويأسه المضني من هذا التكرار للرحيل الذي لا يستقر على حال ، و لن يستقر يقينا إلا عبر صرامة النهاية الحتمية التي تضع الخاتمة لهذا المشهد المسرحي المتناسل والمفتوح على الوقائع والإحمالات .( طيران منتصف الليل ) رواية سانت إكسوبري الذي كانت خاتمته ، الإختفاء والتلاشي مع طائرته في خضم المحيطات والآماد.نهاية فيها من القسوة والعذوبة العنصر الإستثنائي حيث لا أثر يتركه المترحل المغامر غبر مفازات الفضاء . لا شئ  يثقل على الأحياء الباحثين عن الأسباب والتفاصيل المثيرة . أتذكر إكسوبري ، كإشارة إحتفاء إلي هذا النوع من النهايات المأساوية ، التي لا ترفع المأساة كشعار وإعلان وإنما ممارسة وجودية في الحدود القصوى.
***
تغادر المكان ، الليل والمطر ، الأصدقاء على عادة تسميتهم وذكريات عابرة كغيرها .في كل رحلة تغالب وتكابد كي تستطيع عبور المسافة ، بين المكانين العابرين . تتذكر ( كل رحلة إنتصار )لكن ذلك لتحميس الذات وتنشيطها .لم يعد فرح الإكتشاف ، لم يعد الخارج يعطي الكثير بل لم يعد إلا أقل القليل إن لم تكن القسوة في كمال بهائها . . الداخل ربما في ألق عزلته حتى في الليالي الموحشة المنذرة بالخطر , يمكن للكائن الفرد أن ينتظر بعض الإمداد الحيوي للروح المهددة باليباس. أن ينتظر يد الرحمة تمتد من أقاصي الذات التي لا توغل في عزلتها وظلالها الشفيفة إلا لتعانق الرؤى والكون الشاسع بمخلوقاته أحياءاً وأمواتاً وطبيعته المشعة دومآ بالعزاء والحضور الجمالي الفريد .. ربما إنتصار الرحلة بهذا المعنى  ينبلج من تخوم الجغرافيا الداخلية الروحية للكائن وليس العكس ، إذ ليس للمكان أو الجغرافيا الخارجية إلا وسيلة وأداة . الداخل هو مربط الفرس في هذا السياق , فرس الروح والحقيقة الهاربة على الدوام..لكن ماذا لو لجئنا إلى عيادة  محيي الدين بن عربي , وهي أكثر من عيادة بل مستشفى كوني يغص  بالجرحى والمصابين والبروق الحدسية ، والذي أبدع ضمن محيطه المعرفي الشاسع عبر الأجيال ، أبدع ( فن الأمكنة ) حسب محمد المصباحي . مراتبها ودرجات الأحاسيس تجاهها ، إذ أعطى ما يشبه الكمال لموطنة الأندلسي الأول ، وهناك شروحات وافية لهذه المراتبية في ( الفتوحات المكية ) التي أنجزها في المكان الأكثر قداسة مكة الكرمة . والمكان لذاته وسيلة للراحة من تعب الطريق ، والإبحار في رحلته الضاربة في الأعماق والأقاصي .. الصوفي الكبير الذي فتح التصوف على الفلسفة ونقله نوعياً من الدروشة و(الشطح )المحدود لينطلق من إيمان وأحاسيس شبه واضحة في الأماكن والأفكار ..الكائن المعاصر الذي تشظت رؤيته وأماكنه وهذه الأخيرة ربما إستحالت إلى التشابه والتماثل وإلى الغياب .بحكم آليات التوحيد القسري الذي تمليه قيم حضارة كونية مهيمنة .. صارت مشاعر الإنسان ( الحديث )أو( المعاصر )قلقة حتى إنعدام الخيار الجمالي المنحاز للأمكنة والجغرافيات . صار الأدب وهو يؤشر إلى أعماقه ومشاعره في الأغلب يميل نحو برودة الحياد والموضوعية . هنا يحتدم التناقض والتشظي . كيف تكون العواطف والمشاعر موضوعية ؟ .. لكن مهما كانت الفروقات وهي كثيرة فمقولة إبن عربي من البداهة بمكان(المكان رحمة حيث كان لأن فيه إستقرار الأجسام  من تعب الإنتقال )لا نفقد الأمل  ، نظل نحلم بمثل هذا المكان إذ ليس تحقق هذه ( الرحمة ) فمن الممكن أن تتحول إلى نقمة وإضطراب أفدح من قلق الطريق ومتاهاتها .
***
نغادر المكان من فندق أو منزل تجاه المطار أو محطة القطارات في الصباح الباكر أو في منتصف الليل ، نكابد جبل الإحباط والألم ، نتسلق تضاريسه الوعرة ونعد النفس بوعود ومفاجآت حتى لو تحققت ، لا تخرج عن نمط العادة والرتابة . ونحلم بمكان الرحمة المستقر ، بإنتصار الرحلة .لكننا نعود للقول ، أي رحلة وأي إنتصار ؟ شيئ ما يلوح من جهة غامضة ، بإنتظار يد الرأفة في خضم الطريق .ومن غير أن يكون الفرد منا ذلك( العارف )أو المريد والسالك هكذا ..فقط وربما ( الطريق) هي نقطة الوصول ، العبور لحد ذاته من غير أمل في الوصول إلى الهدف المنشود .فيتلاشي المكان في سراب الطريق ، تبتلعه متاهة  الميناتور )   كمستقر رمزي وواقعي أخير .