من حق أي مثقف ينتمي الى بلد ما في خضم هذا المحيط العربي أن يتلمس خصائص بلده بتجلياتها المختلفة جغرافيا وروحيا وتاريخيا، وأن يحاول في العمق طرح تمايزه واختلافه في إطار محيطه وانسانيته، وهو واجب المثقف والكاتب وضرورة وجود وبحث، وليس التماثل المزعوم إلا ضربا من الأوهام والسذاجات التي قادت الجماعات والأفراد الى الكارثة التي نعيش سطوعها العبثي الكبير .
وهو ما نحاوله – أي الاختلاف – ويطبع وجودنا وكتابتنا في المستويات المختلفة، لكن وهم التماثل والتماهي الوحدويين لا يقود في رأيي إلا الى خلق أوهام جديدة حول إنزياح المراكز التقليدية للثقافة العربية وإحلال مراكز أخرى «الخليجية« في هذا الطرح محل تلك الغاربة والمتلاشية الى غير رجعة حسب هذا الوهم الجديد .
ربما تلك البلدان التي عشنا ودرسنا فيها زمنا ليس بالقصير تراجعت عن تلك الهيمنة وأوهام المركزية المطلقة التي تغنت بها زمنا، لكن هذا لا يعني انطفاءها لصالح أخرى بالمطلق فهي مازالت في سباق الإنتاج والإبداع بمستويات مختلفة ومازالت مؤثرة الى حد كبير.
إن المسألة ليست صراع إحلالات وإبدالات. إن تاريخ العلاقة بين أطراف وروافد الثقافة العربية وتاريخ الأفكار وترحلها وتأثيرها المتبادل أكثر تعقيدا من هذا التبسيط الذي لا يقود إلا الى مجموعة أوهام أخرى مثل أوهام التمركز والتفوق التي سبقتها.
لقد نمت حركة ثقافية وشعرية في بلدان كانت مُهمَـلة قبل عشرين أو ثلاثين عاما مثل بلدان المغرب العربي أو بلدان الخليج والجزيرة العربية تحت ذلك الثقل المركزي المتوهم لبلدان المشرق المعروفة. وبلدان المغرب أكثر اتساعا في هذا السياق من بلدان الخليج، وهذا النمو والتقدم الثقافيان في هذه البلدان أستطيع فهمه كروافد مهمة في إطار إثراء الثقافة العربية الشامل، وليس صراع إقصاء وبحث عن هيمنة ووراثة.
وهكذا أفهم الاختلاف والخصائص بين تخوم الوطن العربي و«أطرافه« و«مراكزه« بواديه و«حواضره« وانشطاراته وفرقائه في هذا السياق ويتبين أيضا انبثاق وتأسيس المنابر الثقافية في بلدان الخليج كالمجلات التي أشار إليها السؤال والمنابر والمنتديات والجوائز الأخرى وهي حصيلة ليست كبيرة وحاسمة على كل حال مقارنة بالإمكانيات المادية التي تميز هذه البلدان ولا يحق لأصحابها كل هذه المفاخرة عن تأسيس «مراكز« بديلة.
العولمة والثورة المعلوماتية والرقمية ودراسة الكثير من أبناء الخليج في الغرب وانفتاحهم على ثقافات وعصور مختلفة من غير وساطة «المراكز« التقللدية التي كانت سائدة. كل ذلك أعطى زخما إبداعيا وقوى هذا الرافد الثقافي والمعرفي وجعل مساهمته في الثقافة العربية والإنسانية أكثر فعالية وعمقا من غير تلك الاستيهامات التي راودت عقول وخيالات مثقفين من بلدان المغرب ولبنان والآن الخليج، في الانفصال عن المحيط العربي كي تحرز رهان التقدم، فنحن جميعا – أردنا أم لم نرد – محشورون تحت سقف كارثة واحدة ومصير واحد، رغم مظاهر الفروق التي لا تعدو أن تكون فروقا (برانية).
ليس للابداع الفردي المميز مراكز وأطراف، فمكانه المخيلة البشرية الشاسعة سواء بين جبال عُمان أو جبال الأطلس أو في القاهرة وبغداد وبيروت و….الخ.