إشارات…
سيف الرحبي
ما كان لهذه الكتابات والنصوص، على اختلاف “تصنيفها” في الجنس الأدبي أو في الزمان والمكان الذي كُتبت فيه منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي في سياق كتابات مختلفة، ما كان لها أن تتجمع في كتاب بعد طول شتات لمعظمها في أكثر من كتاب ومطبوعة وبلد لولا اقتراح صديق أرشف الكثير مما كانت القاهرة محوره ومساحته وحنينه الجريح.
وكان اقتراح الجمع في كتاب قد راق لي لما يمارسه المكان القاهري من سلطة عاطفيّة لم تنضبْ مع مرور الزمان العاصف، وإن خفّت حدتها، فقد ظل ذلك الماضي الذي عشتُ الصِبا في ربوعه، وقود هذه العاطفة وضمان استمرارها..
فقد عشتُ في القاهرة سنوات التكوين المعرفي والعاطفي والوجداني الأولى، وكانت هي البوابّة بالنسبة لي نحو العالم بما يعنيه من سياسة وحداثة أدبيّة وفكريّة، وهي البداية الحقيقيّة للتعرف على الذات جسداً ومشاعر وكذلك على (الآخر) أو العالم ليس ذلك الغربي البعيد كما درجت الدلالة، إنما العربي أيضا الذي ننتمي إلى لغته وإرثه وثقافته. فقد كانت (عُمان) قبل سبعينيات القرن المنصرم، على نحو من عزلةٍ قسريّة وانغلاق حرمها لفترة طويلة من هذه المعرفة والتفاعل الطبيعيين.
وأيضا في القاهرة التي عشت فيها السبعينيات بتحوّلاتها والتباساتها الكثيرة، كانت هذه المرحلة من حياتي، هي الوحيدة على هذا النحو من الاستمرار الزمني والتماسك في المكان الواحد.
قبل أن يُصاب هذا التماسك وهذا الاستمرار بالانكسار والتشظي، وأرحل باتجاه أكثر من بلد عربي ليستقر بي المقام في دمشق التي عشت فيها البداية الفعليّة للحياة الأدبيّة والإنتاج. وأنسلخ بشكل شبه نهائي عن الحياة الطلابيّة التي ظلت علاقتي بها سطحيّة وغير ذات معنى، إلا مع الأصدقاء الذين يجمعني بهم الهم الأدبي والطموح الإبداعي والانساني..
دمشق التي على رغم أن إقامتي فيها كانت ثريّة أدبياً وانسانياً، أفضت الى إقامات أخرى ستكون منذ اللحظة مؤقتة دائما وخاطفة، إذ لا تتجاوز العام، أو العام والنصف. هكذا كانت في الجزائر وصوفيا وغيرها ، لينفتح مشهد المسافة والبلدان والوجوه لاحقاً إلى آخر سراباته ورؤاه، في تلك الفترة من هذا العمر الذي مرّ سريعاً وعاصفا.. لكن الشام ظلّت العلامة والمرجع الذي نعود إليه من أسفارنا وتغريباتنا، بجوها الصداقي والأدبي الحميم، وهي (الشام) بحاجة إلى كتاب مستقل..
وكانت بيروت التي نتردد عليها دائماً ترزح تحت وطأة الحروب الأكثر فظاعة من الحروب الأهليّة التي عرفها التاريخ.
***
نص الإقامة القاهريّة، ظل متماسكاً ومضيئاً في الذاكرة. وظل يمارس طغيانه العاطفي “الماضوي” رغم تغير الأحوال و(فساد الزمان). ومن ذلك الركام والحنين والتشظي، وُلدت هذه الكتابات أو ما تبقى منها والتي ما كان لها أن تجتمع في كتاب إلا بفعل اقتراح الصديق العزيز.. وهي كتابات تهمني على الصعيد الشخصي، أكثر مما تهم مشروعاً إبداعياً أو مسار تاريخ يتوسل الجِدة والتناسق.
كتابات لا يجمعها ربما إلا صفة الأدب والمكان القاهري الغائب. وربما تبعثرها في هذه المساحة الزمنية غير القليلة، ترك أثره على الأسلوب، فقد تركتها هكذا… من غير مراجعة ولا إعادة قراءة، لتكون العفويةّ، طابع الكتاب بخروجه بين دفتين وعنوان، كما كانت طابع تلك المرحلة التي أضحت من النأي والضباب المحتشد في الذاكرة، بمكان.
مصائر بشر وأمكنةٍ
قبل أن يجرَّها الحوذيُّ الأعمى
إلى هاوية الظلام والنسيان