اليمامة التركية تستدعي الفجر القادم، بشدوها الملحاح، ذلك النَغمُ الذي ينسج للفجر خيوطَه الأولى، والثانية حتى تكتمل خيوط الجسم بلطخات، غيومه المائلة إلى الشحوب والإضاءة المتدرِّجة حتى الاكتمال، الاكتمال الفجري وسط غابة المؤذِّنين التي ترتفع أصواتها المنتشيّة بالتوسُّل إلى خالق الأكوان وهادمها، ترتفع من كافة الأرجاء، من خفايا التاريخ الضارب في جامع السلطان أحمد وأيا صوفيا، وما حولهما من جوامع ودور علم وعبادة ومعالم تدل على العَظمة الآفلة لدولة بني عثمان، آخر إمبراطورية إسلامية بمثل هذه المنعة والاتساع.. معالم وآثار تقف على مقربة من الكمال المعماري، أو تمتطي ذُرى ذلك الكمال الموشَّى بالخلود (مجرد خوف شخصي من إطلاق كلمة الكمال والخلود على البشر وصنيعهم).. شدو اليمام طفولة وصلاة… يختلط مع شدو الطيور المتنوعة وأصوات المؤذنين العذْبة العميقة، التي تستدعي قصة ذلك الرجل التائه في أزقة مدينة حَلبْ، حين سمع الأذان، ينطلق، فأشجاه صوت المؤذن، أخذه بعيداً في الذاكرة والمشاعر، اخترقه كحالة كيانيّة طوّحت به، حتى أسلم وحسُن إسلامُه… هناك أصوات مؤذنين بعيدة عن ذلك الشدو الجاذب روحياً والترتيل، تنطلق فيما يشبه الغارة الجوِّية على النيام، حسب وصف صديق. تتصادى أناشيد الطبيعة والبشر حتى جامع السلطان سليمان القانوني (السليمانية) الذي كان حزنه على غياب قرّة عينه، ابنه الأثير إلى قلبه، إثر مكيدة عائلية من تلك التي تزخر بها عروش الحكام على مختلف المقامات والأماكن والتاريخ، كان حزنه الكبير يفوق سِعة إمبراطوريته المترامية الأطراف والأعراق والثقافات. لجأ السلطان ، حسب الرواية، إلى كتابة الشعر… هكذا، حين تضيق الحياة، ويسد الحزن كل باب وأمل، يلجأون- ليس الشعراء والكتاب المحكومون أصلا بقدر الحزن والعزلة أو في الكثير منهم- وإنما أباطرة من طراز سليمان القانوني إلى الشعر للتعبير عن فداحة الخسارات وثقل الوجود العابث.. الشعر «كلمة الكائن الأخيرة». من أي صنف بشري كان هذا الامبراطور، في صدق المشاعر ونبل المأساة؟.
* * *
في مقهى البازار الشعبي الكبير، الذي سيكون سوق الحميدية بدمشق وبعض أجزاء من خان الخليلي في القاهرة، وأسواق في مدن مغاربية وعربية، نموذج منه أو بالأحرى شبيه، على تفوق السوق التركي في المساحة والنظافة وما يتعلق بتقدم حضاري بيّن ، نلاحظه في التفاصيل والأزقة والواجهات المليئة بكل أنواع البضائع والمنسوجات والتحف الكثيرة بمختلف المستويات والأثمان.. وبما أن دخول الأسواق والمحلات التجارية ليست هوايتي في التسكع، بل المشي فيها والتطلع بشرود ولا مبالاة في المعروضات والمبيعات، كأنما هي ذريعة وليست هدفاً.. وهذا الإعراض عن هذه الهواية العميقة الغور عند صنف كبير من البشر وخاصة النساء مهما كانت مستوياتهن، الثقافية والفكرية، يشتركن (معظمهن) في هذه الغريزة الشرائية والنُزَهيّة، حتى أني استحضر دائما عنوان فيلم (كلودليلوش) (المرأة هي المرأة). ذهبت رفيقة دربي إلى التّسوق، وجلستُ في المقهى الواقع ضمن سلسلة مقاهٍ، في ممرات السوق الكبير، على الطاولة المصنوعة من خشب أصيل: هنا تُقدَّم أنواع من المشروبات التراثية التركية لا تجدها في الفنادق والمقاهي الحديثة في هذه المدينة العملاقة (اسطنبول) التي أصبحت مراكزها التجارية وشوارعها ومختلف أجزاء بيئتها المعمارية والبشرية والاقتصادية الجديدة وأنماطها، تدلف في السياقات الأوروبية.. طبعا لا بد أن تنعطف على اللازمة الأثيرة في الخطاب العربي (الكليشيه) ونشير إلى أن هذا الاستيعاب لإنجازات الحداثات الأوروبية والعالمية يتم ضمن خصائص واضحة لقيم التاريخ الإسلامي والتركي وطقوسه بمختلف تجليه، وبقوة ومقدرة استيعابيتين لا تجدهما في بلد إسلامي آخر حتى البلدان الشرق آسيوية المعروفة باقتصاداتها القوية. دعك من البلاد العربية التي تتخبط منذ سنين طويلة في ظلام التخلف والفساد والطغيان وما زالت تبحث عن أفق ربما سيستفيد من الإنجاز التركي أو النموذج التركي الذي أصبح رائداً في مجالات كثيرة..
* * *
لم آتِ تركيا أو اسطنبول، منذ زمن طويل، منذ كنت مقيما في سورية، مطلع الثمانينات ، أتذكر كنا نأتي إلى اسطنبول بالقطار من حلب الشهباء الأكثر جمالاً وفرادة من دمشق، كان القطار بطيئاً جداً بحيث إن المسافة التي يمكن قطعها في عشر ساعات، يقطعها في يومين، هذا القطار الذي كان ينفث دخاناً كثيفا يشبه قطارات الغرب الأمريكي (الويسترن) حين كان رجال الكاوبوي يهجمون بخيولهم المطهّمة على القطارات والعربات للنهب والقتال. وحين أقمتُ فترة عام في صوفيا ببلغاريا، كنت أيضا أسافر عن طريق اسطنبول، عبر القطار نفسه الذي يحمل الكثير من المهرِّبين والجواسيس لبلدان عربيّة وغير عربيّة إبّان ما عُرف بالحرب الباردة.. يحمل حيوانات أليفة ومثقفين وشعراء بلحاهم اليسارية على نمط لحية جيفارا ولينين وهوشي منه، وغيرها من اللحى والشنبات (شنب استالين لدى اليسار الستاليني) التي ليست للزينة فحسب أو لدواعٍ فلكلورية شعبية مع المازات والعرق والعتابا، وإنما تشكل أبعاداً فكرية ورمزية سياسيّة.. في رحلات الشتاء، يكون البرد عنيفا لا يطاق، في عربات قطار تتدحرج في ليلٍ ناءٍ ومجهول، من غير تدفئة وبنوافذ شبه مفتوحة من أثر الإهمال والتكسير.. إنه قطار الشرق (البطيء)
* * *
أجلس في المقهى ذي الكراسي الموشَّاة بالخرز والمحّار وأنواع التحف بألوانها التي تشبه جناح الطاووس: ثمة جزر نزحتْ بمياهها الزرقاء ثمة عقاعق تمرح في حقل الليلك زهر التوليب الساطع في حضوره واحمرارهِ جو غائم يضفي جمالَه على المخلوقات والحشرات.. تقدّمين الشاي بالشفافية التي تنضح من العيون اللوزيّة تكاد تذوبين في سحر الطقس وسكُّر الشاي في جناح الطاووس والزهور تكاد تذوبين في الغيوم المترحِّلة دوماً كرحيلي عنك بعد قليل
* * *
زهرة التوليب أو الخزامى، الاسم الأخير الذي يذكر بشيء خبيئ في النفس، ذكرى إلى مكان تصرَّم عهده أو زمن مضى. هذه الزهرة كنت أراها منتشرة في ربوع هولندا تضوّع بحضورها ورائحتها الآفاق، كل صباح ومساء في البلاد المنخفضة حتى القاع بحيث أن تلة صغيرة خضراء في (لاهاي) كنا نصعدها في ثوانٍ، هي أعلى قمة لدى أهلها الغابرين قبل أن ينطلقوا لغزو البلاد الأخرى، ويشاهدوا الذُرى والقمم التي تحتضن عنان السماء وغيومها، في الجزائر وعُمان وسائر البلاد التي وطأتها سفن أولئك القراصنة الشماليين. كانت زهرة التوليب، الخزامى احدى علامات أيامي المتعاقبة في هولندا التي تمنحني وعد الجمال والرؤية، وكنت أعتقد جازما بأصلها وفصلها الهولنديين بما أن هذه بلاد الزهور بامتياز.. والخزامى تشكل الجزء الأكبر من حقول تلك الزهور واقتصادها الكبير، حتى اكتشفت في اسطنبول ما يخالف ذلك، كونها ذات أصل تركي أتت بها الأقوام المترحلة من الأواسط الآسيوية (بريّة مثلهم كانت) وغرستها في بلاد الحلم الجديد، نمت وانتشرت واستوطنت مع أهلها القادمين، فهي بعراقتهم وهويتهم المتجذرة الأصول، المتجددة الفروع والفصول، حتى القرن السابع عشر، حيث تم استقدام هذه الزهرة الى أوروبا الغربيّة وفي مدينة (لايدن) الهولنديّة تحديداً على يد سفير هولندا في (القسطنطينية آنذاك)، (اسطنبول)، وتمضي قصة تاريخ هذه الزهرة الفائقة الحسن والجمال، بأنها كانت تنمو في حدائق القصر، وتعد الخزامى في تركيا الأكثر شيوعاً بعد كلمة عمامة..
* * *
ثلاثمائة عائلة قَدِمت من أواسط آسيا، حسب بعض روايات التاريخ، لتستقر فيما يعرف الآن بالأرض التركيّة. كبرت هذه العائلات ذات الأصل الطوراني القادمة من (بلاد ما وراء النهر) حسب العرب القدامى، وتشعَّبت، مثلما كبرت إرادتها الصخرية، التي لابد ان تكون امتداداً جينياً متطورا للسلالات المحاربة الأولى. هذه العائلات كانت المهاد الرحَمي الذي استطال وتعاظم حتى هزم الإمبراطورية البيزنطيّة وسائر الدول والممالك شرقاً وغرباً واستوى على عرش العالم الذي أسلم القيادَ مرغما ومهزوماً … وكان ما كان من أحداث التاريخ الجسيمة وخطوبه. إنها واحدة من الروايات الخارقة في نشوء الممالك والإمبراطوريات كأنما تفجرّت من رحم الإسطورة والمستحيل. وحين حانت لحظة الانهيار كأي دورة حضاريّة كبرى، بعد قرون مديدة من الهيمنة والغزوات والانتصارات التي ماجت بها أرض البشر، وأخذتْ في الترنح والمرض والسقوط، قُيظ لها رجل بحجم كمال أتاتورك (نصبه الضخم قائم في شارع تقسيم) وأحفاده من كافة الانتماءات والمشارب العلمانية أو الدينية، حيث إن الدين الإسلامي كان هو الخطاب الجامع والمقنع، كان هو العقيدة التي اعتنقتها تلك الأقوام البربرية الشرسة التي لم تكن تعرف إلا القتال عقيدة ونبراس طريق.. توحَّد الخطاب الديني مع الإرادة المحاربة فكانت تلك الإمبراطورية التي سيكون سقوطها ثقيلاً وفادحاً على كافة الصُعُد والاتجاهات ، لكن إرادة أحفاد سليمان القانوني، استطاعت أن تنقذ تركيا المعاصرة، من الإمحاء والاندثار الحضارييّن، تحت حوافر التركة الثقيلة التي ستقودها إلى الانسحاق أمام الآخر (الأوروبي) الصاعد بقوة لا نظير لها في كافة العصور والحضارات السابقة بحكم التطور العقلاني المذهل في العلوم والتكنولوجيا. هذا المنحى الإنقاذي سيمضي على عكس ما حصل في الأرض العربية وما شهدته من قطيعة مع ماضيها المشرق، إثر سقوط الإمبراطورية العربية حيث دخلت البلاد والشعوب في العصور المظلمة (عدا إضاءات قليلة) ولم تخرج من سباتها الثقيل وأحلامها المحطمة حتى البرهة الراهنة.
* * *
اليمامة تشدو على فرع شعركِ الميّاد أيتها النادلة. (كان أبوفراس أسيراً في أحد سجون بيزنطة اسطنبول الحالية ربما في المكان عينه أو قريباً منه) في المقهى التركي في استراحاتك القليلة ترمقين المارة بنظراتٍ شاردةٍ نحو غيمٍ بعيد ربما تحلمين بالزوج أو العشيق أو بعطلة الصيف الذي يقرع الأبواب معيّة صَحبك الصاخب والعائلة (العائلة التي كانت نجمة إمبراطوريتك الغاربة) على شواطئ مرمرة في المتوسط أو البحر الأسود (بينهما مضيق البوسفور) الممتد حتى شواطئ (القرم) في أراضي الروس، منتجع الأباطرةِ أعداء بني عثمان في سالف الزمان نظراتك الشاردة لم يعد لها علاقة بذلك التاريخ إنها البراءة والبحر والحقول
* * *
المعماريون الشعراء يعتقلون الزمن في لوحة بجامع أو قصر أو ضريح خالقو الأشكال الحرة يسلخون التاريخ من غلظته يحيلوه إلى لطافةٍ وحنين المعماريون الشعراء تتذكرهم الأجيال حين تنسى قادة الجند الانكشارية وأرباب البنوك منذ الرسوم الأولى على جدران الكهوف الرسوم المذعورة من الأشباح الغامضة والنجوم التي تُوزَّع في ضيائها المصائرُ والأرزاق حتى قصر الحمراء والجامع الأزرق وصولاً إلى المدن الحديثة، الرياضيات والأبراج المعماريون الشعراء تلك القباب التي تحاور المطلق البعيد تعاشر الغيمَ العابرَ واليمام فوق المحيطات وعلى أشرعة السفن المُبحرة من (البوسفور) إلى بحر إيجه حيث الإغريق القدامى يطاردون في كهوف عُزُلاتهم وعلى ضفاف الأنهار المتغيِّرة، سرَّ الموت والحياة يصنعون ترياق الوجود المعماريون الذين قدموا من كل جهات الأرض إلى (إستانة) العالم.
* * *
كل مرة أشرب فيها القهوة أنظر إلى قعر الفنجان بغيمه المتشابك المظلم في هزيع القطرات الأخيرة (خاصة في المطارات) أحدّق فيها كما أحدق في سير حياة يطبعها اللهاث وعلى مقربة من الزوال بالأعين والشفاه أداعب ما تبقى من قهوة توشك على الرحيل في المطارات (هذا الصباح الممطر، في مطار اسطنبول) أواصل هذه الهواية بينما تتناهى إلى سمعي أخبار التلفزيون تعلن عن اسامة ابن لادن في باكستان الزعيم الذي دوَّخ أمريكا والعالم، يعانق مصرعه لتشتعل حربٌ أخرى على الشاشات والمجالس والمنتديات. أسمع رجلا ملتحياً يوشك أن ينضمَّ إلى عائلته، لا أعرف من أي جنسية هو، يردد بيتا للمتنبي: «مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشتهت انها قبرُ» فكرت أن أتعرف على الشخص الذي يستدعي هذا البيت الفريد للمتنبي، في هكذا سياق، لكني عدلت عن الفكرة خوفاً من أن يجرني إلى نقاش لا تُحمد عُقباه، واستطردت مع نفسي، إن البشر في هذه المحطات العابرة التي كان من الطبيعي أن يفكروا عَبْرها في أخطار الرحلة والانتظار وهواجس السفر، تشتعل بينهم حرب الخلافات الحادة، فهناك من يعتبر ابن لادن مجرما قاتلا وضد الإنسانية، ومن على نقيض ذلك يعتبره قديساً ولو كانوا قلة.. الرجل الذي كادتْ حياته ستمضي، كأي ثري خليجي، يفجر حرب الخيال والجدَل حيَّا وميتا، يشعل العالم ويحتل مساحة كبيرة من حياته، يحفر اسمه على صفحة التاريخ المتقلب. في نشرة الأخبار نفسها مدينة (درعا)، (حمص)، (بانياس)، ومدن سورية أخرى تشتعل فيها النيران والحصارات، القتلى والجرحى والمفقودون جراء قصف قوى الجيش والأمن التي تواصل حسب المذيع- المعلق للقناة مسيرة خيانتها للأهداف الحقيقية التي طالما ادعت أنها وُجدت من أجلها وتنقض بافتراس لا يتقنه حتى الأعداء على الشعب السوري الأعزل.. رئيس الوزراء التركي يذكر بمجزرة حماة عام 1982 من القرن الماضي في ظل الرئيس الأب.. كنا نسكن في حي (الأكراد) الذي سُمي لاحقا بركن الدين حين وقعت هذه المجازر المروّعة.
* * *
في المطار نفسه كما في كل المطارات أنظر شارداً في خريطة الوجوه الملامح والسُحنات أفكر: انها تشبه محيط الفنجان وقعْره تشبه تلك القطرات في هزيع ليلها الأخير والأقدام المندفعة نحو المصير والمجهول.
* * *
ربما وحدهم الذين يستشعرون الموتَ كل هنيهة ولحظة يحسنون الاحتفاء بالحياة ولمدافعة هاجس الموت المنفلت كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علٍ، يلجأون إلى تجميده في رشفة قهوةٍ أو كتابة قصيدة في كتاب يقرأه المسافر ورأسه مهشَّمة في غروب الآفاق.
* * *
في الطائرة أتطلع إلى شاشة (الأوقات والمسافات) المضاءة أمامي… الجملة جديرة أن تكون عنوان كتاب في الأدب بمعناه المعرفي المفتوح على ضفاف تنطلق من المجال البصري الشاسع للمشاهدات الفلكية والجغرافية.. سيكون تأثيره كبيراً، إذا أحسن صنيعه بالطبع، في المناطق الحسّية والروحيّة حين قراءته. سياحة حرّة في الرؤى والأفكار، الهواجس والاستيهامات، كما كان الأقدمون يفعلون في كتاباتهم ذات الشمول المعرفي والتأمل في الإنسان والطبيعة.. أتطلّع إلى شاشة الكرة الأرضيّة المسفوحة أمامي، التي تتوزع على أديمها ومنحنياتها المدنُ والبحار، القرى والمحيطات، أفكر في خارطة الأرض العربيّة التي أحلق فوق سديمها هذه اللحظة، مبقورة الأحشاء، والدماءُ تسيل غزيرة في تضاريس الخلجان والقارات. أقرأ في الجريدة رحيل الباحث الكويتي خلدون النقيب.. لم أرَ الراحل إلا مرات معدودة سريعة كانت إحداها مع ليلى العثمان في أبوظبي وأخرى في أحد المطارات… أقرأ هذه العبارات الآسرة: «هذه المنطقة الحضارية (الجزيرة العربية) هي أكثر مناطق الأرض ألفة ولكنها في المقابل أكثر مناطق الأرض غموضاً وشروداً وغنى، متناقضات من هذا النوع ليست بالضرورة ناتجة عن مبالغات غير موضوعيّة».
* * *
من النافذة: الغيوم والسحبُ تتدافع بين التيارات الهوائية (درجة الحرارة خارج الطائرة 60 تحت الصفر) تتدافع الغيوم كقطعان كباش فاجأها الهياج في مراعٍ ظليلة عاصفة، فأخذ منيُها يسيل بين الصوف المهتزّ والعشب الوارف.
* * *
من النافذة: تترك الغيوم والتيارات المتصارعة، فراغات قياميّة في وحشتها ودمويتها، فأرى الخلائق تتدافع في ثقوب السماء وثغورها الكثيرة كجراد أسطوري يحمل الأرضَ اليبابَ في خطْمه وقرونه ، يوم الحشر، ربما على هذا النحو سيأتي.. وتُغلق أبوابَها الحكايةُ الأزلية.. الصديق الذي تباغته نوباتُ شطح هذياني، يتخيل يوم الحشر بشكل عكسي: أفواج بشرية تنتشر كما ينتشر السمك في البحار، لتسقط في دوامات مصائد عملاقة نُصبتْ في الأعماق. ربما سيكون هناك حل وسط، في أن تتآزر الأعالي السماوية مع الأعماق البحريّة، لنصب محاكم الثواب والعقاب. فليست السماء إلا بحار مقلوبة والعكس صحيح، على ذمة الراوي المتحدر من سلالة النيازك والرماد.
* * *
الشجرة العالية بهزالها الواضح يحُّط عليها سربُ غربانٍ في ظهيرة عارمة الأغصان تكاد أن تتكسر وهي تقفز بنشوة ونواح كُتل الغبار تمتطي السماء كسحُب غاضبة سحب الجحيم المخبأة ليوم الحشر وقد فاضت نحو دنيا البشر..
* * *
هذا النواح المتفجِّر من قلب السماء والشُهب والنجوم هل أنا الوحيد الذي يسمعه في هذه الطائرة المحلّقة نحو بيداء القصور والمفازات؟
* * *
دم النيزك رمادُه الذي خلق الله منه البشر والحيوانات.
* * *
بين البراءة ونقيضها فاصل موسيقي أو مسافة مجزرة الوعول تنحدر من مفارز الجبال لتشرب من نبعها الجاف تسمع ترجيعَ الربابة يتصادى بين الذُرى والتلال فتسرح في هواجس مرعبة: إن عصراً دموياً فيالقُه ستكتسح الجميع
* * *
المرأة التي أمامي تشبه خيمةً سوداء متنقلة بين المضارب والخيام لا فتحات ولا ثقوب يمكن أن تتنفَّس هواء الصحراء العميق لكن المرأة، الخيمة تضمُّ طفلها بحنان ظباءٍ تسرح بين الأثل والسيداف
* * *
الساعات أمامي، خط الساعات المركوز على لوح خشبيّ في المقهى. ساعات تلخص جانباً من توزيع الوقت على مساحة العالم: المكسيك 6.20، سيدني 1.30، كينيا 2.20، مومباي 2.15، كولومبيا 3.0، ساحل العاج 11.20، البرازيل 2.0، أحاول أن أربط بين هذه البلدان الموزعة على قارات ثلاث، أم اختيرت بصورة عشوائيّة؟ ربما الجامع بينها شجرة الكاكاو والقهوة. عدا مومباي، ربما للكثرة الهندية المقيمة والعابرة لمثل هذه المطارات.. استل كولومبيا متذكراً ذهابي إلى مهرجانها الشعري وتحديداً في مدينة (ميدلين) اتجهت إليها من باريس، بصحبة أصدقاء: عبداللطيف اللعبي، قاسم حداد، عيسى مخلوف… حين وصلنا (بوجوتا) العاصمة الكولومبية، بعد ما يربو على 12 ساعة على الطيران الفرنسي، كان لابد أن نأخذ هنا طائرة أخرى تقلنا إلى (ميدلين). عيسى مخلوف الذي كان يتقن الاسبانية ومن أوائل مَن قدّم بورخيس ومختارات عالية القيمة من الأدب اللاتيني إلى العربية، عزمني على كأس من شراب محلي قوي كي ننشط ونستطيع مواصلة الرحلة الشاقة.. وحين وصلنا إلى المدينة التي تحتضن مهرجان الشعر والفنون، التي هي مركز النزاع أو متاخمة له بين الحكومة والثوار اليساريين، وميليشيات العصابات. ركبنا من مطار (ميدلين) أو (ميديين) حسب نطقهم وتعني مدينة الربيع، أخذنا باصاً قَطَع بنا جبالاً بالغة العلو، متعرجة حتى أن الباص يكاد أن يسقط على أكثر من هاوية ومنعطف حاد في ذلك الليل اللاتيني المفعَم بأطياف الخضرة والأمطار والضباب. حطّت بنا الرحال في الفندق المدجج بحراسة جيدة، فترة قصيرة لتوزيع الأغراض على الغرف، حتى اجتمعنا في بهو الفندق لنحتفل بإنجاز الوصول سالمين.. كانت النشوة التي تعقب ما يشبه اجتياز الأخطار والعقبات. فترة أخرى أقصر من سابقتها، وينفجر صوت السلاح من فوهات، وأنواع مختلفة، معربداً ومدوياً على مقربة من الفندق. بعد أن خفّ الدويّ ذهبنا إلى شرفة الفندق لنشاهد ما يجري أو بقاياه وحطامه، سمعت عبداللطيف اللعبي يقول مازحاً: وضْعُنا كمن جاء برجله كلَّ هذه المسافة ، إلى عرين الأسد، وقال له ، تفضل يا أسد افترسنا..! لكن في الأيام اللاحقة، نسينا كل تلك الأحداث والمشقات التي بدأت كنذير شؤم وسوء طالع. نسيناها في خضم تلك الحميميّة العارمة، وذلك الجمال الذي حَبَا الإله به تلك الشعوب العاشقة للشعر والفنون والمسرح والحب. شعوب الطفولة الشعريّة بامتياز.. أنظر إلى تلك الساعات المركوزة في اللوح الخشبي الممتد، وأتذكر هذه الرحلة، ليس تحديقا في مرآة الزمن عبر تمظهره العميق في الساعات أو متعة استحضار الذكريات ، فحسب، وإنما دفعني أكثر، الهروب من معرض القبح والفظاعة الذي حاصرني من كل الجهات، فكنت الغريق الذي يتشبث بالزمن والحكايات.
* * *
كان يقرأ كتاباً لم أتبيّن من عنوان الغلاف أي كلمة، بسبب غَبَش الضوء في الحافلة التي تقلنا إلى مكان الترانزيت… نادرا ما كان ينتبه إلى الضجيج المحيط.. يبدو نائيا ومستغرقا في الكتاب، لكن التفافة منه، ثم تصويب نظرة من وراء نظارته السميكة، نحوي. نظارته التي تبدو ملبّدة بضباب حزن دفين لرجل تشرّد بين الأفكار والثكنات، حملتني في تيار الحيرة والارتباك نحو شخص غامتْ هويّته، بين ملامح شاعرٍ يسكن الخيال والكلمات، وبين قاتل محترف يطارد ضحيّته بين مدن شتى ومطارات.. (أين رأيت هذا الوجه في أي مكان وزمان؟) أيمكن أن يكون شاعراً وقاتلاً، أيختبئ الشاعر في إهاب قاتل أحياناً أو غالباً، أو ان إحدى الصفات الغالبة التي تحدد هويّته، تخفي نزوعات النقيض، وتفصح عنها إشارات غامضة، بين الفينة والأخرى؟ بما أن اللحظة تصرَّمت منذ بدايتها لم يبقَ هناك إلا الغموض والحَيْرة في هذه الرحلة القصيرة..
* * *
يتراءى من الخاطرة الآنفة، فيما يشبه الضوء المخنوق، أن الرجل قذفتْ به الصدفة، ذات زمن إلى بلاد أقوام طاعنة في القسوة وسوء الطويّة، على رغم المظهر المدني والأخلاقي الذي ينطوي على قدر غير قليل من التكلف والافتعال. وبما أن الرجل قد تعب من مسارات حياته المتشعبة، وانسدّت أمامه الخيارات، قرّر الاستسلام ليس بالضرورة على نحو قول الشاعر: «ولما أن تجهمني مرادي جريتُ مع الزمان كما أرادا» وإنما على نحوٍ من عزلة حاول أن تكون محكمة كأنما في قلعة بعيدة أيما بعد، حتى وهو بين ظهراني أولئك القوم الذين لا يمتُ بأي صلة نَسب إليهم. حياته الطويلة تلك خلقت هذا الارتباك والقلق في هويته الروحيّة وملامحه، ودمرت الفواصل الواضحة والحدود.
* * *
مشاغلُ البراءة، حياءُ النجوم أيتها النجوم لا تنتظرين جزاء من أحد حتى من أولئك الذين يقضون الليالي مخطوفين بجمالك لا تنتظرين سؤدداً أو وهمَ خلود ولا تصفيق لكنّ غناءَ البحّارة في الظلام الموجِع متصاعداً من أعماق المحيط تحسّينه كنسيم حنونٍ يغمر أجسامكِ المتناثرةِ في الأثير.
* * *
«على ما صنعتَ وما لم تصنع، الحسرة هي نفسها» أردد هذه العبارة الشعريّة لليوناني (يانيس ريتسوس) كنوع من عزاء، إثر ضياع (دفترين) لي، مليئين بالكتابة والانطباعات والملاحظات. من اسطنبول حتى مسقط وأكثر من تغيير في المطارات، أستعيد ذكرى ضياع مخطوط منذ خمسة عشر عاماً، بين الدار البيضاء ومسقط، هذا الأخير كنت متأكداً من نسيانه في الطائرة، وحين سألتُ الخطوط التي جئت على متنها، أفادوني بعد مماطلة بأنهم لم يجدوا شيئاً والأرجح، أن عمّال القمامة الذين يباغتون المسافرين مثل فرق الكوماندوز، جرفوه مع الأشياء الأخرى. حزنتُ كثيراً جداً على هذا الرد القاسي والدموي، حدّ الغضب والهيجان تجاه هذه الخطوط (الخليجية) غير المهذبة حتى في مفهوم العلاقات العامة المتبع في هذا المجال، أو هكذا تصورت الأمر. لكن (ريتسوس) منحني بعض الهدوء والرضا، وتذكرت أن العالم المحيط ليس بحاجة إلى كتاباتنا، إنها شأن شخصي ونوع من علاج لنفس مأزومة وقلقة.. وتذكرت أيضا أن المخلوقات بطليعتها البشريّة، صاحبة الكتابة والقراءة، ذاهبة إلى الاختفاء والتلاشي من غير فرق كبير، إلا في الطقوس الشكليّة، مع القمامات وغيرها.. (على ما صنعت وما لم تصنع الحسرة هي نفسها أيها الضوء السرّي المتكاثر في المرايا المهشّمة).