في نص قصير بعنوان «شبه» من مجموعته «جبال» يقول سيف الرحبي:

لم نعد نشبه هذا البحر

ولا هذه الأرض

يبدو أن قرونًا مرت بزواحفها

ونحن نيام

الشبه المفقود بالمكان، بحرًا كان أم جبلًا، يشكل قلقًا عميقًا يتكرر في عدد من مجموعات الرحبي التي بدأت تملأ أفق الشعر في الجزيرة العربية منذ ما لا يقل عن أربعة عقود لتشكل ركنًا أساسيًّا من التجربة الشعرية العربية الحديثة. والقلق المشار إليه عنوان تميز لدى الشاعر العماني من حيث هو يرسم علاقة مختلفة بمعالم البيئة في جنوب الجزيرة بصفة خاصة حيث تشمخ الجبال بين رمال الربع الخالي وبحر العرب ويمتد تاريخ من التفاعل الإنساني المنتصر حينًا والمهزوم حينًا آخر، أو ربما أحيانًا.

في أعمال نقدية سابقة وجدت أن إرثًا خاصًا يربطني بشاعر تتمدد رؤيته وتتشكل لغته من جغرافيا الانتماء والهم المشتركين. كان حاضرًا في عدة قراءات لشعر هذه المنطقة من الوطن العربي. رأيته شاعر قصيدة نثر من طراز رفيع، ورأيت لديه أنموذجًا استثنائيًّا لملامح ما أسميته «ثقافة الصحراء»، الثقافة الناجمة عن الشعور بأننا «لم نعد نشبه هذا البحر ولا هذه الأرض» وأننا بحاجة إلى معانقتهما مجددًا تلمسًا لملامح تتسرب في أسفلت المدن ومداخن المصانع وحمى الاستهلاك. تلك الثقافة التي رأيت بعض سماتها لدى محمد الثبيتي وعبد الله الصيخان وعلي الدميني وغيرهم هي ما تبينته بعد ذلك، حين اتسعت الدائرة، لدى أحمد راشد ثاني من الإمارات وعلي الشرقاوي من البحرين وسعدية مفرح من الكويت وسيف الرحبي من عمان، وآخرين.

لكن مثلما أن لكل من أولئك الشعراء سماته المتفردة، يقف الرحبي على رأس تجربة شعرية قد تكون بين الأكثر كثافة في التفاعل مع البيئة المحيطة، من ناحية، واختلافًا في مفردات البيئة التي يستدعيها، من ناحية أخرى، وكذلك، وهو ما يهمني هنا، في طبيعة العلاقة بينه وبين تلك المفردات. في حوار نشر في الملحق الثقافي لصحيفة «الخليج» الإماراتية عام 2010م وصف الرحبي جانبًا رئيسًا من تلك العلاقة بالبيئة المحيطة حين أشار إلى ثنائية الصحراء والبحر بوصفهما «الكيانين الجبارين اللذين اعتاد أسلافنا، وجبلوا على الصراع معهما»، مضيفًا أنهما، إلى جانب الجبال، يشكلان طبيعة «تنسحب وتخترق استعاريًّا ورمزيًّا ما يطمح التعبير الشعري الأدبي إلى قوله عبر أدواته اللغوية والجمالية». غير أن اللافت هنا هو ما اختص به الشاعر العماني الجبال تحديدًا في قوله إن «هذه الأوتاد الصخرية الضاربة في عمق أعماق الأرض تشكل ربما نوعًا من الثبات الأزلي الذي يتوسل إليه أحيانًا النشيد الشعري ويلوذ به من تلك التحولات العاصفة الخطيرة في الزمن والصحراء والبحر». تتميز الجبال إذا على المكونين الآخرين، الصحراء والبحر، بهذا الرسو أو الرسوخ الذي يجد فيه الشاعر الملاذ الآمن، حين يضيف في المقابلة نفسها: «يحتل الجبل هذه المكانة الشعرية الاستعارية كملاذ روحي».

غير أن قارئ الرحبي سيجد أن الملاذات في شعره لا تنحصر في الجبال وإن برزت هذه التكوينات الصخرية الهائلة على نحو يفوق غيرها، كما في مجموعته «جبال» الصادرة عام 1996م. لكن الجبال لا تستدعي الصخور فحسب وإنما تستدعي كائنات أخرى تأتي الطيور في مقدمتها، الطيور التي تطل كثيرًا من قصائد سيف لتطاول الجبال نفسها. كما في قصيدة «لقالق» من مجموعة «جبال» أيضًا:

آه من يمتلك روح اللقالق

في عزلاتها الكبرى أمام البحر

وحيدة تنام وحيدة تستيقظ

بعيدة عن السرب

كانت في الماضي تتنزه على أطراف النهر

بأعماق الوادي

تطاول الجبال بأعناقها…

لكن هذا التماهي باللقالق، التماهي الذي يؤكده الإعجاب بعزلة تلك الطيور وتأبيها على الانضمام إلى «السرب»، يخرج عن رومانسية حالمة تعد بالتنامي في النص حين يدخل المشهد سرب من نوع آخر، سرب إنساني ولا إنساني، سرب البشر حاملين عنفهم المعتاد:

كانت البنادق مهيأة للصيد،

بنادق بأيدي صبية يصلون إلى رأس الوادي بنهايته في

أعالي (سمائل)

وكانت اللقالق تفصد الهواء الفاسد

فوق الرؤوس.

عنف الإنسان وسلم الكائنات

ثمة تقابل هنا بين عنف الإنسان وسلم الكائنات، بل عنف الفعل الإنساني متمثلًا بالصيد، وجمال ولطف الفعل الذي تمارسه اللقالق حين «تفصد الهواء الفاسد فوق الرؤوس» وكأنها تسعى لإصلاح أهواء البشر وليس هواءهم فحسب.

يتكرر التماهي بالطيور في قصائد أخرى لسيف الرحبي على نحو يشكل موقف نقدٍ للمجتمع البشري بقدرما يعلن انتماءً أو انحيازًا للطبيعة سواء تمثلت بمكوناتها الرئيسة، الصحراء والبحر والجبل والنهر، أو بالكائنات المتسقة في حياتها مع تلك المكونات. يحدث ذلك على نحو يستدعي قراءة نقدية بيئية من النوع الذي استطاع في السنوات الأخيرة أن يستكشف سمات العلاقة الأدبية بالبيئة ويطرح أسئلة تختلف عما اعتاد نقاد الشعر الرومانسي تحديدًا طرحه (والمقصود في المقام الأول الشعر الرومانسي الأوربي بوصفه الذي جعل البيئة موضوعة شعرية كبرى وأثيرة).

هنا تتساءل القراءة عن مدى التماهي بالبيئة، مدى الإحساس بمكوناتها، وقدرة النصوص على استيعاب ذلك في خطاب لا يتنازل عن أدبيته أو شعريته بل يجعل تماهيه جزءًا من تلك الأدبية أو الشعرية. ولأني أجد لدى سيف الرحبي ما يبرر تلك القراءة رأيت هنا أن أذكّر ببعض سماتها لا على سبيل الاستكشاف المستقصي أو الطرح المتكامل، وإنما من أجل وضع تلك السمات موضع النظر لقراء سيف وقراء الشعر العربي المعاصر بصفة عامة. فبعض ما لدى سيف مطروح لدى شعراء عرب آخرين أشرت إلى بعضهم آنفًا.

لو تأملنا فقط مجموعة «قطارات بولاق الدكرور»، وهي من مجموعات الرحبي الأخيرة (2010م)، لأدهشنا في قائمة القصائد عدد تلك التي تتجه إلى الطبيعة أو الكائنات كما تشير العناوين: «مطر»، «أنهار»، «الشعور بالبركان»، «عواء الذئب»، «طائر العقعق»، «وحيد القرن»، «الغابة»، «على حد الصيف عن البراكين والموتى والحيوانات». وهناك بالطبع ما لا تشير إليه العناوين في القصائد وهي من الكثرة بحيث تكاد تحتل مساحات المجموعة بأكملها.

النظر إلى العالم من زوايا الكائنات

ما يسترعي الانتباه بصفة خاصة هو النظر إلى العالم من زوايا تلك الكائنات، سعي الشاعر إلى التوحد بها، بالجبل كما بالنهر أو الطائر أو حتى الضفدع، لكي يبدو العالم كما لم يبد من قبل. في بعض تلك النصوص تبدو الصورة رومانسية تقليدية بامتياز، كما في «غابة» حيث يسود الانسجام بين عناصر المشهد: «كل شيء ينحني بحنان وكبرياء/ تحت سمائه المسترخية». وفي بعضها الآخر تدخل الطبيعة عوالم القسر الإنساني فتتخلى عن ذلك الاسترخاء الرومانسي الحالم، كما في «الزنزانة»:

الطبيعة المصابة بالدوار والارتجاف

تنعكس على حدقة الضفدع المذعور

قافزًا من ساقية إلى أخرى

والظبي المطارد في القمم والسفوح

وتنعكس أكثر على عين السجين

الذي يفكر، بأن لا خلاص

من هذه الزنزانة..

ومن الاتصال الكئيب للكائنات بالزنازين تنتقل الصورة إلى اتصال كئيب آخر. هو الآن بين الأنهار وأطماع الإنسان:

النوافير والسواقي والقنوات

المتدفقة من رحاب المسيسبي، والتيمز

والسين، وغيرها، بمصباتها الكبيرة حيث يحج السلمون

والحنكليس في دورات سلالية متعاقبة..

الأنهار التي صنعت الخير والنماء والموسيقا

لشعوبها الآهلة،

بين ضفاف الدساتير والأقمار السيارة

والتقنيات الممسكة بعنق الكون والتاريخ..

هل هي الأنهار المتدفقة دمًا ووبالًا على الشعوب الأخرى؟

هنا لا تتخلى الطبيعة عن استرخائها أو حتى علاقتها بالزنازين فحسب وإنما تصبح مسرحًا لمجازات تكشف ممارسات الإنسان المستنير منها والمدمر، تكشف التنوير والتدمير معًا، التنوير على حساب التدمير، تنوير الذات وتدمير الآخر، الغرب المستعمِر في مقابل العالم المستعمَر. هنا يستدعي النص قراءة ما بعد كولونيالية إلى جانب كونها قراءة بيئية، فثمة تواشج في الدلالات. ولكن اختيار سيف الرحبي لصيغة السؤال في «هل هي الأنهار» بدلًا من طرح الرؤية في صيغة تقريرية لا يدعم شعرية اللغة فقط وإنما يساءل مشروعية الربط بين النهر وبين الفعل الإنساني، يخفف، بتعبير آخر، من الربط الحتمي بين براءة الطبيعة وما يقترفه البشر، إن لم يلغه تمامًا. وبهذا يبقى الشاعر منحازًا للطبيعة في براءتها الأولى في مقابل الفعل البشري المشين أحيانًا، إن لم يكن غالبًا.

قصائد سيف الرحبي ليست بطبيعة الحال عزفًا متواصلًا من هذه الزوايا لكنها تمنحنا فرصًا مبهجة بقدر ما هي مؤلمة للوقوف على علاقات نكاد ننساها حين لا نعود «نشبه هذا البحر/ ولا هذه الأرض». إنه الشعر وهو ينهض بدوره الإنساني ومحققًا المفارقة الدائمة في اجتراح الجمال حتى حيث يقيم الألم.