الجزء الثالث

السبت:
كل مدينة أكون على وشك الرحيل نحوها، تسبقني إليها الأحلام، أحلام كثيفة أعيش أحداثها، ووقائعها طوال الليل. وكالعادة تبدأ بداية طيبة تقترب من نشوة السعادة، لكنها في مسارها المتموج هذا، لا تلبث أن ترتدّ الى نهايات كابوسيّة مفزعة.
هكذا، أستجيب لنازع الحنين وهاتف الحياة، فأسافر الى بيروت، وبعدها القاهرة، ككل عام في مثل هذا الوقت.. كانت أعياد الميلاد على الأبواب، وليس ثمة التزامات ذات طابع عملي. السياحة الحرّة ورؤية من أحب.. ليس هناك ندوة أو مؤتمر، نذهب اليهما، غالباً بغية لقاء أصدقاء بعينهم، لكن ثمة أوضاع ولقاءات تنفرض كضريبة لابد من دفعها في مثل هذه المناسبات حين تكون في أسفار حرّة وانتقائية، تقل احتمالات دفع مثل هذه الأكلاف الاجتماعيّة، القسْريّة، وتكون أقرب الى نفسك والى من تود وتهوى من البشر والأماكن، كالتمشي في الصباح الباكر والضباب يلف المدينة والجبال الخضراء المتلألئة بالثلج والنحيب- على كورنيش المنارة. تتأمل بيروت، وأياماً، مجرد تذكرها العابر، سيوقظها من رقدة نسيان قاس، نضِرة وجميلة من جديد. وتلك الصخرة الجاثمة وسط أمواج المتوسط، التي تُدعى بصخرة العشّاق الذين يعصف بهم الوَجدْ الى قذف أجسادهم من علوّها في قفزة انتحاريّة تشبه القبلة الأخيرة. لقد نبت العشب على حوافها من دموعهم الحرى وأحلامهم المجهضة..
وتتبدى تلك الصخرة الجاثمة في المتوسط كشظيّة انفصَلْت منذ دهور عن جبل (الفحْل) بعُمان وترحّلت عبر البحار حتى استقر بها المقام في لبنان.
في الطائرة العُمانية التي حلّقت من مطار السيب الدولي، باتجاه بيروت مباشرة كنت أقرأ في كتاب (اوريليا) لجيراردي نرفال، الذي يعود إلى العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر. نرفال الاشراقي المغامر الذي احتفى به السورياليون واعتبروه واحداً من أسلافهم، سافر اثر أزمة روحيّة حياتيّة، كادت أن تودي به الى غياهب الهلاك في سنّ مبكرة، الى الشرق، القاهرة، الشام، بيروت.
كنت أقرأ في هذا الكتاب، القصيدة السرديّة المفْعَمة بالنضارة والاحلام والمشاهدات الواقعيّة والحلميّة والمتخيّلة، حتى أصل الى الفصل الخامس الذي يأتي على مدينة من مدنه الخياليّة والواقعيّة، الكثيرة.. وتعلّق المترجمة التي نقلت الكتاب بلغة عربيّة متألقة (ماري طوق)، إلى أن هذه المدينة ربما تكون مدينة بيروت.
»أصعدني مرشدي في طرقات متعرجة تضج بأصوات المصانع. ثم ارتقينا سلاسل طويلة من الأدراج انقشعت عند نهايتها الرؤية: هنا وهناك سطوح مكسوّة بالعرائش، وجنبات منسوقة في اراض مسطحة، وسقوف مصنوعة برشاقة وبجلّد نَزَويّ، ومشاهد تصل أذيالاً من الخضرة المعرشّة تسحر العين وتروق للنفس وكأنما واحة نضرة، أو معتكف منسي يعلو ضجّة الأسفل وصخبه لم يعد هنا سوى وشوشة باهتة.
يحكى في الغالب عن شعوب منعزلة تعيش في ظل المقابر الكبيرة والسراديب. هنا، كان العكس تماما هو الصحيح. إن شعباً مباركاً خلق لنفسه عزلة تتعشقها العصافير والأزاهير والانسام النقيّة والأضواء.
قال لي مرشدي: »هؤلاء هم السكان الأصليون لهذا الجبل المشرف على المدينة، لقد عاشوا طويلاً وفق عادات بسيطة تسودها المحبّة ويظللّها العدل، وحافظوا على الفضائل الطبيعيّة الأوليّة للعالم. كانت الشعوب المجاورة لهم تحسدهم وتحذو حذوهم«.
قلت في نفسي وأنا مغمور بالمياه الزرقاء الشاسعة لهذا الكتاب الفريد على صغر حجمه، اذا كانت بيروت أو لبنان، في ذلك الزمن الغابر، هكذا، فإلى أين وصلت الآن؟ أين تقدّمها، الذي كان في جوهره سطحيّا وقِشريا على غرار مدن الشرق قاطبة؟ لكن بيروت ظلّت معين حياة وأدب ولم تفقد رغبتها العارمة في التميّز والاختلاف والبهجة حتى في ذروة الفاجعة، التي ربما كانت تلك الرغبة وذلك الاندفاع في مناخٍ يذهب عكسها تماما، من الأسباب التي أدت الى ما آلت إليه الأمور من قتامة.
* * *
في الطائرة التقيتُ برجل أعمال خليجي، معرفتي به تعود الى أيام الدراسة حين كان طالباً فقيراً ومن عائلة متواضعة، فتسّلق مناصب كثيرة وأصبح مليونيراً.. لم يذكر فترة الدراسة بكلمة واحدة، وأخذ يحدّثني عن الفضائل والاخلاق المفْتَقدة، واحتمالات الانهيار الاقتصادي الذي سنتحول على أثره الى شعب شحّاتين وفقراء مع تعذر الرجوع الى مهن الآباء والأجداد..
وهو طبعا حاول الاصلاح ودقَّ ناقوس الخطر الداهم، لكن لا فائدة. في الفترة الأخيرة كثرتْ نبرة الشكوى والانتقاد من قبل الكثير من أصحاب النفوذ والمال بكافة مستوياتهم، فتراهم يتحدثون كأنما عن وضع ميتافيزيقي وليس واقعاً هم مسؤولون أساسيّون فيه!
ذهب رجل الأعمال الماسك بجمر الاستقامة، ووصلت الطائرة فوق أجواء بلاد الشام، ورَجعتُ الى نفسي ومشاعري مفّتشاً فيها عن ما ينبض ويحتدم تجاه الأماكن التي تسوقني إليها دائما عصا الحنين والوَجْد، فلم أجدْ شيئا ذا بال، وتساءلتُ، لماذا يعترينا أحياناً ذلك الجمود في العواطف والأحاسيس، وتمنيتُ أن لا يدوم أو يتفاقم كلما تقدّم بنا العمر.
الطائرة فوق بلاد الشام وتشرف على بيروت، هل ما زالوا هناك، في (اللاتيرنا) ومطعم الريّس، يشربون بصخبٍ عالٍ وأحلام كبيرة؟ هل ما زالت فيحاء الناظر تذهب كل صباح الى مكان عملها في الغوطة، ومن ثمّ نلتقي عند حسّان عزّت وفاتن (قبل مجيئ إيفا) في تلك الواحات المتدفقّة الخضرة والمياه؟
أثناء الرحلة لم تهاجمني هواجس الموت ولم تستحوذ عليّ رؤاه التي تلازمني باستمرار مثلما يلازم ظلُّ الصياد الطريدة، لكن في المقابل ليس هناك ما يدل على اندفاع نحو حياة أكثر بهجةَ وإثارة.
* * *
وصلتُ بيروت الساعة الواحدة ظهراً، كان الجو صحواً يميل الى البرودة.. سائق التاكسي، كالعادة لابد أن يتطرق الى السياسة، العراق، فلسطين، أمريكا… الخ، لكن بهدوء المجرّب الواعي، معظم اللبنانيين اكتوى بالنار نفسها، أطول حرب تفجرّت في الشرق، كانت فوق أرضهم على ضيق حجمها الجغرافي. ونحن نقطع طريق المطار، الحمراء، أتطلّع الى المدينة الرياضيّة التي دمرّها الطيران الاسرائيلي إبان الاجتياح وأعيد بناؤها في عهد الحريري. آنذاك كنت في دمشق وعلى ترداد دائم الى بيروت. خلف المدينة الرياضية على مقربة يقع حي الفاكهاني أحد المعاقل الأساسيّة للمقاومة الفلسطينيّة، أو دولة الفاكهاني كما كان يدعى، أتذكر حين رأيت صدفة (هاني) الذي كان زميلاً لي ولخالد درويش في صوفيا وفي صوفيا أيضا، كان عز الدين المناصرة وجواد الأسدي في الفترة نفسها وتهامة الجندي- محمد العلي الفلسطيني، وليس السعودي، بعد أكثر من عشرين سنة، كنت في ندوة بالشارقة أقامتها جريدة الخليج، كنت أجلس على طاولة عليها تريم عمران وليلى العثمان وإذا بشخص بدا أنني لم ألتق به في حياتي، قال: أريدك قليلاً، جلسنا على الطاولة المجاورة قال هل تعرفني؟! تفرست أكثر في وجهه، فلم أستطع الوصول إلى أي عون من الذاكرة..
قال أنا محمد العلي، الذي كان اسمي (وليم) في صوفيا/ في أحد أزقة الفاكهاني، تواعدنا على العشاء في مطعم الشموع باحدى عمائر الحي. جاء هاني مع صديقة لبنانية سهرنا وتعشينا وكل ذهب الى مكان نومه. صباحاً عرفنا ان المطعم قد فُجّر في الليلة نفسها وتحول الى رماد.
حياة الخطر والمغامرة جميلة، خاصة حين لا تودي بحياتك وتنجو من احتمالها القاتل ليموت آخرون.
في صدفةِ تأجيل الموت جمالٌ لا يضاهى، وربما تعطيك فرصة الحلم بحياة أخرى، لكنك تعود الى نفس النقطة الملتهبة، لتبحث عن مغامرة أخرى وبشكل آخر..
أصل الى فندق (ماي فلاور)، الذي تعودت النزول فيه. يتم الحجز دائما عبر بول شاؤول الذي يسكن قريباً من الفندق، فوق سطح بناية تشرف على البحر من بعيد والتي كانت هدفا سهلاً لقذائف وطلقات طائشة ايام الحرب، مرة – يخبرني بول- كيف تبعثرت المكتبة، وتطايرت كتبها مذعورةَ وممزقّة، ولا مجال للرجوع الى المخيلة التي تحدّرت منها، في فضاء الغرفة، وبقي بعضها معلقاً، ينزف كطيور تتدلى أجنحتها ورؤوسها، حتى تأتي اليد العاشقة لتضمّد الجراحَ وتعيد ترتيبها من جديد.
أستريح قليلاً من رحلة ليست شاقة، وأمضي من شارع (جان دارك) نحو شارع الحمراء، مضى زمن لم أجيء الى بيروت، ربما أربع سنوات، أتطلع من بعيد الى واجهات المحال والمقاهي خاصة، أصل الى مقهى (الويمبي) (كافيه دي باري) (المودكا) التي أغلقت وتحولت الى محل لبيع الملابس، وهناك مقهى قد استُحدث قريبا (ستاربكس).
بداية وصولي الى نزلة (السارولا) أسمع من يناديني، ألتفت، اذا بخالد عبدالله شاعر من أصل فلسطيني على ما يبدو وهو قريب العهد في بيروت أتصل من تليفونه النقال بعناية جابر الهاربة من كلوشار باريس والعائدة للتو إلى البيت العائلي الدافئ.. جلسنا في مقهى الويمبي، سألت الجرسون عن بول وكاتيا سرور، قال أن بول لم يعد يأت، لقد غيّر المقهى، وكاتيا تأتي في الصباح. بعد قليل جاء حسين بن حمزة ونديم جرجورة جلسنا، ثم ذهبت الى الفندق.. ليلة هادئة من غير سهر ولا دمار رأس في الصباح.
* * *
صباحاً أفتح النافذة التي تطل على عمارات أخرى، لكن ثمة فسحة يمكنك من خلالها أن ترى السماء المليئة بالسحُب، التي كانت تمطر طوال الليل، وهذا في حد ذاته طالع سعْد بالنسبة لي، وأن تشمّ رائحة البحر. في العمارة المقابلة المفتوحة النوافذ، ثمة فتيات بلباس عاملات المنازل، يمسحن وينظفن، ويبدو بوضوح أنهنّ من الهند وآسيا. صار بين اللبنانييّن والخليجييّن، وحدة هوية، بالنسبة للشغالات، ستلتحق بهم شعوب عربيّة أخرى وربما التحقتْ، هذه خطوة طيّبة باتجاه الوحدة الكبرى، تختلف عن ما حلم به انطون سعادة حول وحدة الهلال الخصيب او جمال عبدالناصر. لنبدأ بالخطوات التدريجيّة بعد أن فشل طموح القفزات الوهمي.
آخذ حماماً دافئا وانزل الدور الأرضي لتناول الشاي والفطار.
* * *
الأربعاء:
أذهب نحو البحر، وهذا ما سأفعله بشكل، شبه يومي، نازلاً ناحية شارع (بلَسْ) ومنه أنحدر، نحو كورنيش المنارة. أبدأ المشي والتنزه من الحمّام العسكري، حتى آخره، فندق الفاندوم، ثمة قوارب صيد في بعض جنبات الساحل المليء بالحجارة وكواسر الأمواج، خاصة ناحية محل (سمكة أبومنير) الذي يبدو أنه لم تأخذه »الحداثة« بعد.
صيادون هواة بصناراتهم يقضون أوقاتاً مسليّة، الكورنيش يضج بحركة المتنزّهين، وممارسي الرياضة حتى في الأمطار والعواصف. كانت هذه الفترة بداية الفيضان والثلوج حيث ارتفعت في (بشرّي) بلدة جبران خليل وهدى بركات الى 700 متر فوق الأرض الجبليّة مما عرقل خطوط المواصلات وسيرها.
عليَّ أن أتسلق سلالم ومنحدرات كي أعود الى الفندق وأحاول الاتصال ببعض الأصدقاء. أفكر في أعياد الميلاد والأمطار التي تغمر لبنان. سيكون الجميع مشغولاً بالتزامات عائليّة والحركة ليست سريعة في مثل هذا الطقس. أتصل بعبده وازن اتفق معه أن نلتقي لاحقاً..
وتذكرت أن عبده، قد انفصل عن موكب العزوبيّة وتزوج أخيراً، ربما كان يفكر في أطفال يجمّلون وجه العالم مثل شعره وكتابته التي تحاول التخفيف من وقائع الحياة المأساوية… أمضي عبر شارع الحمراء المليء بالحفريات التي تشبه جراحات النفس اللبنانية المحافظة على تماسكها وبريق مظهرها حتى في عزّ الخراب، اشتري صحف الصباح، الصحافة اللبنانيّة ظلت، بين الصحف العربيّة الأكثر تميزاً في شكلها ومحتواها.
في هذه المنطقة وفي هذا الشارع مرّ ذات يوم غسان كنفاني وربما في مثل هذه الساعة كان مريضاً بالربو وحزيناً رغم زهو الثورة الفلسطينيّة في تلك المرحلة. أصل (كافيه دوباري) حيث أجد كالعادة جودت فخر الدين وعصام العبدالله ورشيد الضعيف، أجلس معهم حتى وقت الغداء.. الجلسة مع الأصدقاء اللبنانيين من المشارب والأطياف المختلفة لا تمل والحديث المتشعب دائما يمزج الطرافة والمرح بالجديّة المعرفيّة. حتى الأفراد الذين لا ينتمون الى مجتمع الأدب والثقافة لن تجد عائقاً في الاستمتاع بالتحدّث معهم ومخالطتهم، من بائع الصحف والشورمة والنجّار حتى شوفير التاكسي. شعب على نحو من انفتاح تاريخي ومدنيّة بيّنة.
أسأل جودت عن تليفون محمد علي شمس الدين لأراه وأطمئن على صحته. محمد ليس من رواد المقاهي. فلم أره ذات يوم جالساً على المقهى ، ربما يختار مقاهٍ جانبيّة بعيدة عن الصخب الجماعي. أعرج على مقهى الويمبي، حيث يجلس أكثر من أعرف. وهناك أتناول وجبة الغداء، الطبق اليومي الفاخر اللذيذ.
* * *
مساء ألتقي مع اسكندر حبش ورشا عمران القادمة من طرطوس، نذهب الى مطعم شعبي نظيف في (كركاس) مطعم أبوحسن. القريب، مرّت فترة طويلة لم أر اسكندر لقد أقام في أكثر من بلد أوروبي، وينوي الرحيل من جديد.
رشا لأول مرة ألتقي بها، قبل أشهر دعتني الى مهرجانهم (السنديان) في الساحل السوري، لكني لم أتمكن من تلبية الدعوة، مع أصدقاء آخرين مثل قاسم حداد الذي تعود معرفتي به الى أواسط السبعينيات في مقر طلاّبي بميدان المساحة بالدقي حين كانت طفول تُحمل على الاكتاف.. الآن أصبحت أمّا. طفول الصغيرة طاهية البطاطا البارعة أصبحت أمّا وقاسم أصبح جدّا. لقد كبرنا. كل شيء يذكرنا بعبور الزمن ونفاد العمر، ولا محطة يرتاح معها هذا القلب الواجف.
اسكندر دائم الاحتفاء و(التبّسط) في مثل هذه الجلسات الحميمية. ووجدنا في المطعم رضوان الأمين أمام كأسه الشفاف المترع. فجأة أتذكر بول شاوول، فأقول لاسكندر، علينا أن نتصل ببول، فحتى الآن لم نره ونحن نقطن منطقة نفوذه. اتصلنا به كان جالساً في مقهى (الجوندول) بالمزرعة، قلت له أن يأتي إلينا في المطعم الذي نجلس فيه، قال: هل بيروت عِدْمتْ، فيها المطاعم حتى أذهب الى مطعم أبوحسن، إما أن تأتوا أو نلتقي غداً.
قلت لرشا واسكندر، ربما الحنين الى الماضي اليساري الطلابي دفع ببول، الى تغيير مقاهي الحمراء، الى الجنوول البعيد نسبياً، خاصة بالنسبة لشخص مثله لا يغادر مقاهي المنطقة إلا في الضرورات القصوى. حتى أني مرة، أردت أن نلتقي في مقهى (سيتي كافيه) القريب، فردّ (شوبدّك أشوف عالم يستعرض سبابيط وساعات).
نكمل عشاءنا وننتقل الى مطعم آخر يجلس فيه لقمان سليم كي نواصل السهرة على الطريقة اللبنانية.
* * *
يأتي الى الفندق عباس بيضون وأحمد بزّون، عباس بميله الى الدعابة لا يستطيع أن يخفي قلقه العميق وعضَّه على الكلمات والحروف كأنما يريد أن يأكل اللغة كي لا تقف عائقا امام التعبير الحر. نجلس في (الدوق) بالدور الأرضي من فندق (ماي فلاور) ، المكان نصف معتم، على النمط الانجليزي التقليدي، أتذكر حين دخلته ذات مرة أثناء الحرب مع حسن مدَن وآخرين، وقد كان في تلك الفترة من الأماكن الدافئة التي تشكل ملاذاَ للأصدقاء يلجأون اليه من الخارج المتفجر بأحقاده وحروبه.
لقد عرفت حسن بالمرحلة الطلابيّة في القاهرة، كنت أراه غالباً في اتحاد طلبة البحرين، بشارع السبكي في الدقي. الاتحاد الأكثر نشاطاً وجدلاً بين تجمعات الطلبة الأخرى.. كنا نخرج بعد انتهاء النقاشات الثقافية والسياسية وأحياناً الأدبية نحو ميدان الدقي، مارين بمقهى (انديانا) حتى كفتيريا معلم رضوان لنتناول العصائر والسندويشات.. وحيث بائع »العرق سوس« بنداءته المتوسلة الشجيّة بجانب بائع الصحف ومحل أسماك أبوإهاب..
في خضمّ تلك الأجواء المضطربة في عهد الرئيس أنور السادات، اعتقل حسن مدن مع طلبة آخرين بتهمة التعامل مع تنظيمات يساريّة مصريّة محضورة. اختفى حسن فترة في غياهب المعتقلات المصريّة، بعدها رأيته صدفة في المركز الثقافي السوفييتي وقد طالت ذقنه، وشحب وجهه سألته عن أحوال المعتقل والخروج. أجاب، أن عليه أن يغادر القاهرة في مدة أقصاها يومين وفق القرار الأمني، حيث غادر باتجاه الشام وبيروت.
وفي الفترة نفسها رُحّل غالب هلسا، على أثر سلسلة ندوات أقيمت في اتحاد طلبة فلسطين بوسط البلد، تحت شعار مناصرة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكان غالب المشرف على هذه التظاهرة.. أتذكر حين جاء عدد كثيف من عناصر المخابرات غصت بهم القاعة، وحين خرجنا وجدنا المبنى مطوقاً.. كان مساء، وفي الصباح التالي وصلنا خبر اعتقال وترحيل صاحب (الخماسين) من البلد الذي أحبه كما لم يحب بلداً آخر حتى مسقط رأسه في الأردن.
في سياق تلك الأيام أيضا كنت مع أصدقاء من (اليمن الجنوبيّة) بشارع سليمان جوهر حين اقتحمت عناصر مدنيّة من الأمن المصري المنزل، أتذكر كنت في الحمّام حين سمعت طرقاً قوياً يكاد يخلع الباب وبخطوات ثقيلة مستنفرة، خرجت فوجدت (العناصر) في أرجاء البيت والضابط الذي يقود الحملة يجلس على الكنبة، يحقق مع الموجودي.. فوراً تحول حديثه نحوي: ما الذي أتى بك الى هذه الأوكار المشبوهة وأنت على ما يبدو ما زلت طالباً وشعرك طويل زي الخنافس، ما تشوف مصلحتك أحسن.. وسألني أين أسكن؟ كنت بتلك الفترة في منشيّة البكري، وعرفت انهم سيداهمون المنزل المليء بالكتب والمطبوعات المحضورة من التداول.. كان الصيف القاهري الأقل اختناقاً من الآن، في ذروته ومعظم الطلبة يعودون إلى ديارهم، الا من لم تكن لهم ديار كالفلسطينيين أو الخائفين من العودة لأسباب بالغة الوضوح.
شهراً كاملاً لم اعد الى منزل المنشيّة، صرت أعيش في أكثر من منزل صديق فلسطيني بمنطقة الدقي.. أتذكر الكلمات الأخيرة لضابط المخابرات وهو يغادر منزل الجنوبييّن (الرئيس زي ما آل في خطبته امبارح عايز يحل مشكلة الشرق الأوسط على طريقته وبشكل عقلاني… ومش عايزين دوشه).
احمد الزين أخبرني انه كان من رواد الدوق اليومييّن. أحمد بعينيه المفتوحتين على مدارات الرعب كأنما خرج للحظة من صليل المجزرة. ثم يأتي بول شاوول، وتأخذ الأحاديث والحكايات اتجاهات متشعبة. نترك المكان لنتعشى في مطعم جديد يعرفه بول، قريباً من مطعم مرّوش، وبول يعاملنا دائما كضيوف، لأننا ما زلنا في محيط نفوذه السكني، ، هو الذي لا يملك غرفة نومه في سطح العمارة. لكنه يملك كرم الروح وانتشائها بالصداقة والعزلة.
* * *
اتصل بنضال الأشقر التي ما زالت عائدة من باريس، نتفق أن نلتقي في مسرح (مونو) بالأشرفية مع لينا حدشيتي التي تمر لتأخذني من الفندق. كان الجو محتدماً بالأمطار والرعود والعواصف، وهو جو بهجة ومرح بالنسبة لي عكس لينا. في الطريق الى الأشرفيّة نقف على شاطئ البحر قريباً من الرملة البيضاء، نتطلع في البحر الذي تضيئه البروق والعواصف، أقترح على لينا أن نتصل بأنسي الحاج، فهي كانت تعمل معه في جريدة النهار، ما زال أنسي معبأ بالمرارة والألم في الطريقة التي انفصل، أو فُصل فيها من هذه المؤسسة التي قضى فيها معظم حياته المهنيّة.. قبل ان نصل الى المسرح نجلس في مقهى بالأشرفيّة مع شاب درزي، لم يكن كاتباً، يعمل في المجال الهندسي، لكنه على صلة بقراءة الأدب وبالغ اللباقة والتهذيب اول قاسم مشترك بيننا كان ذلك الميل العاطفي الروحي، نحو كمال جنبلاط. قلت للينا، علينا أن نخرج من شرنقة العلاقات الأدبيّة التي أطّرنا أنفسنا فيها، فالحياة أكثر رحابة من تلك التصورات والعلاقات ونترك جانباً ذلك الخوف التقليدي، أو التعالي الزائف، على من هم خارج »جنّة« الثقافة والأدب المتوّهمة. أحيانا الجلسة مع صيّادي السمك أكثر متعة من المثقفين، او من صنفوا تحت هذه اليافطة، نخرج باتجاه مسرح مونو، في الشارع الذي يحمل نفس الاسم الذي يعزف زياد الرحباني في أحد محلاته الأنيقة، والذي كان على خطوط التماس مباشرة، وقد دمرته الحرب بالكامل، اصبح الآن واحداً من أجمل شوارع بيروت، وأكثرها حياة وألقاً، كأنما النزوع الجارف الى تجاوز مآسي الحرب، يشهد هنا واحداً من تجلياته الكثيرة.
في الصالة المليئة بالحضور، ننتظر نضال لندخل المسرحية (في هذه اللحظة يدخل حسن داود نتفق ان نلتقي في اليوم الثاني). التي كانت تستوحي أسطورة (ميديا). ترصد آثار الخراب النفسي في الشخوص والحيوات الذي خلّفته الحرب اللبنانيّة. فهذه الذاكرة المثخَنة بجراحها الأليمة لا ينبغي تجاوزها عبر افتعال نسيانها مثلما تفعل الفضائيات ورجال الأعمال، وإنما البحث في الأسباب والشروط التي أدت الى الكارثة، حتى يكون الخلاص حقيقيّا وصادقا، ويكون الفن شاهد الألم والانهيار. ينهي جاد الحاج المؤلف هذه الحكاية (الميديّة)، هذا المونولوج الكثيف، الدموي الذي تقوم بأدائه (دارين الجندي) بوعي ومقدرة. نهاية مختلفة عن الأصل، فامرأة الأسطورة تقتل أبناءها في نهاية الحكاية، جاد ينهيها بشكل آخر.
عند خروجنا من الصالة، ألتقي بجاد الحاج، الذي لم أره منذ سنين طويلة، هو الآخر عرفني على الفور، بدا لي قويّاً ويقظاً، لقد تغلب على المرض المعضل الذي ألمّ به وبسلوك لا تنقصه الارادة والتصميم على الحياة والكتابة.
نذهب الى مقهى (سيتي كافيه) بشارع السادات، لنتعشى، كان المقهى شبه فارغ، ألمح علي حرب في زاوية بعيدة يكتب.
بعد قليل يدخل أدونيس خارجاً من برنامج تلفزيوني (خليك بالبيت) مع زاهي وهبي، تكرَّس حول ما أثارته محاضرته بمسرح المدينة من هجاء قاس لمدينة بيروت، عرفت ذلك من خلال معدة البرنامج سوسن قبيسي التي دعتني الى التدخل في الحلقة عبر التليفون، أجبتها، أن لا دخل لي بمشاكلكم اللبنانيّة، أو اللبنانية السوريّة، كما يحب أن يصفها البعض. تكفيني مصائب الصحراء.
أدونيس مع فهميّة شرف الدين جلسا في طاولة أخرى، وقال انه راحل غداً الى باريس.
* * *
صحف الصباح تحمل عناوين بارزة عن سقوط الطائرة المأجورة التي تحمل لبنانييّن من أحد بلدان أفريقيا جاءوا لقضاء الأعياد، في بلادهم وبين أهلهم وذويهم.. بعد يومين تسقط الطائرة المصرية، التي كان معظم ركابها من الفرنسيين في البحر الأحمر.
المقاومة العراقيّة تسقط هليوكوبتر فيها تسعة جنود أمريكيين وتصيب طائرة شحن أخرى، وتقصف قاعدة لوجستيّة، تجرح ثلاثة وثلاثين جندياً أمريكياً حسب المتحدث الأمريكي.
أذهب الى موعدي مع الدكتور حسين منصور الذي تقع عيادته قريباً من الجامعة الأمريكيّة التي يدرّس فيها، وأنا أهم بفتح مظلّة المطر، أرى حسين قادماً ومعه رزمة أوراق الفحوصات الطبيّة، نجلس مقابل (الرسبشن) فجأة يدخل شربل داغر مبللاً بأمطار عيد الميلاد، قال: أن جنان الخليل أخبرتني أنك في البلاد، ألاحظ أن شربل وحسين ينظر كل منهما الى الآخر بتركيز، كأنما يستعيدان شيئاً أخذ النسيان طريقه الى محوه، فجأة يتعانقان، كانا صديقين، وربما في اطار حزبي واحد، يوم كانت هناك أحزاب وأياد تمتد نحو المستقبل لقطف زهرته اليانعة.
* * *
أصحو مبكرّاً، فحين لا تكون هناك سهرة ثقيلة، يمكن الصحيان باكرا وانجاز ما يمكن إنجازه بهدوء قبل انفجار الحركة، وهذا ما اعتدته على صعيد الكتابة. أنظر في دفتر التليفونات، أخذني التحديق في الصفحات كمن يبحث عن رقم ما… ألاحظ هكذا عفو الخاطر أن الكثير من العناوين والأرقام من مناطق مختلفة من العالم قد انتقل أصحابها الى الدار الآخرة. أخذني الذهول لم ألاحظ ذلك على هذا النحو، الحياة تأخذنا والموت ينجز مهامه الضارية هل يمكن الاتصال بهؤلاء الراحلين؟ هل يمكن الاتصال بموتى؟!، هل يوجد تليفون سريّ أو أي وسيلة أخرى لمعرفة أخبار أولئك الذين كانوا بيننا وذهبوا من غير عودة ولا تلويحة وداع؟
* * *
الخميس:
بعد الفطار، أذهب الى ساحة النجمة، السلودير، شارع المعارض، المنطقة الجديدة التي اختطفت أضواء الحمراء وأصبحت مركز المدينة.. قبل أن أجلس في مقهى الساحة أمام الكنيسة، أخذت أتجوّل في شوارع وأزقة هذه المنطقة الجميلة، التي تشبه جزءاً من الحي اللاتيني بباريس، وأصحاب الحس السياحي العرب، طالما تحدثوا عن بيروت، كباريس مصغرّة، أو باريس الشرق وهذه الباريس مقبولة لديهم ومُستَوعبَة في العائلة العربيّة طالما لا تتجاوز حدودها السياحيّة والترفيهيّة. وحين ذهبتْ نحو الأبعد والأعمق، على نحو ما ذهبتْ إليه باريس الأوروبيّة في التاريخ، أو شيء في هذا السياق، فقدوا توازنهم وأبدعوا الكارثة.
المهم أنني وأنا أتجول في هذه المنطقة لم أشعر بتلك الغربة الساحقة التي تحدث عنها بعض الأصدقاء، صحيح أن الحمراء، هي التي »تشبهنا« وكونها جزءاً من الذاكرة الثقافية اللبنانيّة والعربيّة، وحتى هذا الشبه آخذاً طريقه للزوال أمام اكتساح رأس المال الطفيليّ، المتوحش، والمعادي لكل قيم الثقافة والجمال والمعرفة.
الغربة الساحقة هي علامة العالم »الجديد« الذي ينبني في لهب هذه المجزرة الكونيّة (العربيّة خاصة) الذي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً.
أدخل المقهى، ألتقي صدفة بجوزيف سماحة، أجلس في طاولة عليها شوقي بزيع وصباح زوين وآخرون.
حين رجعتُ في سيارة صباح، كان يوم أحد، والحركة في شارع الحمراء شبه معدومة، المقاهي فارغة، رأيت نزيه خاطر يتجوّل وحيداً في هذا الفضاء الموحش.. قلت لصباح – المشدودة الجسد والأعصاب كقوس على وشك الانطلاق-: الوحدة والشيخوخة مسألة مرعبة.. قالت (كله مثل بعضه).
* * *
بعد رجوعي من المشي في كورنيش المنارة الذي اعتدته وحيداً كل صباح، عدا مرتين، مرة مع غادا فؤاد السمّان، (الصغيرة وليست الكبيرة منعاً للالتباس) وأخرى مع اسماعيل الفقيه، الذي اصطحبني حتى فندق الفاندوم ليعمل مقابلة هناك مع ممثلة سينمائيّة، اسماعيل قال لي أن ممارسة مهنة الصحافة في الوسط الأدبي والثقافي شيء مرهق للأعصاب، وعالم الأزياء والممثلات بكل تفاهته، يجعلك تعيش طعما آخر للحياة.
نصعد الجبل في سيارة جنان، أبوعلي السائق الجنوبي الذي اشتغل في الماضي سائق شاحنة بين دول الخليج ، يفهم في السياسة أكثر من السياسييّن، وهو في غمرة احتدامه، يصدم سيارة واقفة أمام منزل أصحابها.. ما بقي محفورا في ذاكرتي هو ذلك الاستقبال الرحب والانساني الآسر الذي استقبل به صاحب السيارة المسيحي الحدث، ودعانا للدخول الى منزله ريثما يعيد أبوعلي تضبيط السيارة.
لكن السيارة لم تتضبّط، ظلت هكذا منفعلة ومشتعلة مثل اشتعال أبوعلي على الوضع العربي.
أخذنا تاكسي لنواصل الرحلة إلى، عالية، بحمدون، المطاعم والأماكن العامة خالية من الحركة، تنتظر الليل لتواصل سهرة الأعياد.
وجدنا مطعم الاستراحة، هو الوحيد، مفتوحاً في المنطقة بأكملها، صور المطربين والمطربات تغطي واجهته، جلسنا على الجهة التي تطل، في مشهد شاسع يحتضن الهضبة وبيروت. ومن ذلك العلوّ الرجراج، أردت أن أسترخي وأسرّح النظر إلى آخره، لكن شيئا من الدوار اعتراني ورغم أن هذا يعاودني بين الفترة والأخرى، خاصة في الأماكن المرتفعة، إلا أنني فسّرته بالدوار الذي يبعثه مشهد الجمال حين يكون بمثل هذا البهاء والروعة.
* * *
الأحد:
في المقهى المواجه لصخرة الروشة مباشرة، الصخرة التي يقفز منها العشاق، لمعانقة حبهم المستحيل على الأرض، ويتحققّ في قعر الهاوية البحريّة، نجلس متقابلين في الركن المكشوف أمام سماء هادئة. أنظر الى نجمة وحيدة في الأفق ظننتها نجمة المساء أو الزهرة، لكنها، قالتْ انها المريخ الكوكب الأحمر الذي بدأ العلماء في هتك أسراره وخوافيه. كانت تقلّب عينيها الجميلتين في حقول المغيب، غارقةً في كنزتها القطنية السوداء والصمت وغسق شمس غاربة.
تقول أشعر بالبرد، وتكاد ترتجف ربما من برد داخلي متراكم. فالطقس ليس بارداً. الصيف على الأبواب وهذا نسيمه الرسولي الذي يفترض ان يلّطف وحشة الروح.
قبل يومين كنا نجلس في مطعم عبدالوهاب الانجليزي بالأشرفيّة الذي لم نستطع التوصل الى سر تلقيبه (بالانجليزي) رغم النبذة التي تفصح عن شيء من حياته التي تنتهي بالشنق.. قالت للجرسون، احذفوا كلمة الشنق، فالزبون لا يستطيع الأكل فوق طاولة عليها رجل مشنوق.
كانت تتحدث عن حياتها في الحرب، انها من جيل تربى في الحرب ، شبّ وكبر وسط نبراتها ومآسيها. كانت ما زالت ترتجف من البرد فوق سطح المطعم بجوه القروي الأثير إليها.
ثم أخذنا الحديث الى الحب والعاطفة النقية المجردة إلا من ذاتها، بصرها يتجه نحو نقطة مجهولة. في الأفق ليس ثمة مريخ ولا نجمة يمكن أن تُرى.. فجأة يسقط بصري على بيت مهجور تتوسطه شجرة وحيدة تنتصب كذاكرة مثخنة بالغياب والهَجْر وحلم العودة لمن تمزق بهم الشمل ورحلوا.
* * *
مثقلاً بالزكام والحمّى، عليّ أن أصحو. الموسيقى تصدح على أشدّها. الطيور في وكناتها تصيح. أحاول إبعاد صورة طيور هيتشكوك، لتكون أليفةً وحنونة. عليّ ان أزيح صخرة كوابيس البارحة، وأتوكل على الله وأنهض من السرير لأعدّ حقيبة السفر. أحييّ دلدار فلمز، الذي جاء من الجزيرة السوريّة ولم أتمكن إلا من رؤيته رؤية العابر بسرعة نحو المطار قبل فوات الإقلاع.