الثلاثاء:
امرأة تقرأ كتاباً على الشاطئ لا أعرف ان كانت تنتظر أحداً، كانت مندمجة كلياً في عالم الكتاب تحت طلعة قمر يتبدىّ باذخاً هذه الليلة.
هل عليّ أن أخمنّ حول الكتاب الذي تقرأه، قصة خفيفة لاجاثا كرييستي.. أم رواية (الكنز) لاستينفنسون الذي أُعجب بنثره بورخيس؟ قصة لماركيز، سيرته الأخيرة ربما، أم هي فرنسيّة مأخوذة بجورج سيمنون ومفتشة ميجرية؟
الأقرب انها رواية مترجمة لنجيب محفوظ، لتكون دليل معرفة لأوضاع المجتمعات العربيّة كما تعتقد القارئة البحريّة المغمورة بالضوء الشبقيّ للقمر وصورة العشيق الغائب.
مسترخية على الشاطئ
تعبرها النوارس والأحلام.
* * *
لقد جفّ الهواء من حولنا، ألسنا في زقاق الجرذان؟ هذه العبارة المركبّة من إليوت وشاعر آخر، تحضرني هكذا… فإذا قادك سوء طالع هذا الصباح أو غيره وهذا ما يحصل كثيراً، خاصة في البلدان الريعيّة، الى الوقوع في الفخ الى مقابلة شخص جبلّته الدناءة والسُميّة والوشايات.
(أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه).
هذا الشخص لا يجد ذاته وراحته الا في هذا المناخ كما وجدتْ تلك المرأة راحتها في أعماق كتاب أمام البحر.
إذا قذف بك سوء الطالع الى ذلك الشخص المسبوق بنتانته، فلاشك ستقضي نهاراً سيئاً وليلاً مليئاً بالكوابيس. مثل هذا الشخص يمكنه أن يلوّث هواء قارة بأكملها، أن يجففّ ينابيع الأرض، أو يسممّها بطاعون وضاعته.
شخص واحد بحشد أقنعته وثقل خطاه. شخص واحد يستحيل الى شخوص وقبائل وحمولات تسعى الى إطفاء ما تبقى من ألق روحي وأخلاقي على هذه الأرض الهرِمة.
إن هذا الشخص – السلالة، رسالته إفساد كل شيء جمالي وإنساني حيث لا يمكنه العيش إلا بين النتانة التي تقوده كعصى الأعمى، والجيف والمتسلقيّن كما تتسلّق العظايا الجدران الملساء بحنكة واتقان »فر من الناس فرارك من السبع« هل كان ذلك المتصوف يقصد هذا الطراز من البشر، الذي لا يرقى بداهة الى مستوى السبع والحيوان. ويمكنك حين يدفع لك، الشؤم الى مصادفته ان تفكر في قدرة الانسان أن يسمو بِمكانته الى صورة إله، أو أن ينحط الى دَرَك المسوخ والسقط.
في أول صباحاتنا نستعيذ بالله وندعوه أن يجنبنا، في ساعات الصباح الأولى على الأقل، مقابلة مثل هذا الشخص المتناسل في كل مكان.
* * *
يحدث، قبل أن أشرع في بدء ممارسة الحياة اليومية، أن أطلق صرخات مفزعة، الواحدة تلو الأخرى. ربما لأطرد الخوف المتراكم والقرف الذي يكاد يشلني عن عمل أي شيء.
سميرة المنسي حين سمعت هذا الصراخ لأول مرة، قالت انه يشبه صراخ الهنود الحُمر.
ومرة حين كنت في احدى المُدن، وأنا أقوم بممارسة هذه الهواية الاثيرة، سمعت خبطاً على الباب، يسألون ان كان حصل حدث ما أدى الى هذا الصراخ الدمويّ المقذوف مع كلمات غير ذات معنى.
وتزداد هذه العادة ضراوة، حين أكون صاحياً من نوم على جانب من الهدوء من غير كوابيس تنجز صراخها الخاص الذي يشبه عواء ذئاب تنحدر نحو السفح. او خوار ثور جزّت بلطة الجزّار عنقه وتركته يتخبط وسط دمائه القانية.
أستعيد فيلم (بوبي ديرفيلد). لا اعرف لماذا ذاكرة السبعينيات السينمائية تلحّ في الحضور أكثر من غيرها؟ بطلة الفيلم (مارتا كلر) التي اختفت من عالم السينما في حدود ما أعلم، مسكونة بمسَّ شاعري وتأمليّ في رؤيتها للأشياء والكون، حين تحس بحصار الجهات والحيرة وغياب الأجوبة. تطلق صرخات مدوية. ربما لعلاج نفسي في محاولة الخروج من عنق اللحظة المستبدة.
* * *
أبو مسلم البهلاني الذي أنجز حوله محمد المحروقي كتاباً جيداً، هو أكبر شاعر في تاريخ عُمان. أعطى موضوعة الحنين جُلّ إبداعه، فكانت بؤرة شاعريته ومحرق أعماقه الثرّة.
حنين مكثف ومتعدد الوجوه والمشارب، حنين المسافة الجهمة التي تفصل اقامته في الشرق الإفريقي عن مرابعه الولاديّة في عُمان.
حنينه الصوفي الى المطلق المتعالي، حنينه المحتدم الى أزمنة ووقائع في التاريخ، يرى فيها المثال الأنقى لإمكانية قيام نوع من عدالة بشريّة على الأرض. نُحرت قبل بدايتها الفعليّة وظلت حاملة حلمها الشاق من زمان ومكان الى آخر. رغم الجراح العميقة التي بدأها ذوو القربى في (النهروان).
غالبا ما تتماهى أمواج الحنين وتتلاطم، في السياق الشعري الواحد الذي يتغذى من رحيق الشجرة نفسها، حيث يتداخل على نحو خلاّق الذاتي بالموضوعي، التاريخي بالحاضر.
القصيدة النهروانية ذات النفس الملحمي العالي أسطع مثال في هذا المنحى.
(سميري وهل للمستهام سميرُ
تنام وبرق الأبرقين سهير
تمزّق أحشاء الرباب نصاله
وقلبي بهاتيك النصال فطير)
هذه القصيدة التي يمكن اعتبارها من عيون الشعر العربي، كنا نقرأها ونحن أطفال في المساجد والمجالس الحالمة بين بساتين النخيل والأشجار، وبتلك النفحة السمائلية الخاصة التي يتصدّر موكبها النغميّ، الشاعر علي بن منصور الشامسي رحمه الله.
وقرأتها قبل سنين قليلة على الباهي محمد الذي كان يتحفنا آخر الليل، إما بقراءة من سور قرآنيّة عطرة، وإما ببعض من معلقّات الشعر، عبر طرُق تجويدية وتلحينيّة خاصة بالزوايا المغربيّة.
* * *
أجلس على طاولة المكتب، أفتش في فوضى الأوراق والكتب أمامي. ارتشف الشاي، عله يساعدني على تنشيط همة العمل المثبطة هذا اليوم. إشارات غامضة تأتيني عبر لمعان الحصى، من الجبال المحيطة، ربما بلا جدوى أي محاولة أو تذمّر. وبعبثيّة.. الفعل البشري.. أخرج من المكتب وأتجه الى مكان إقامتي، تلك الشقة بالعمارة الغارقة في الظلام والنحيب وارتطام الأبواب.. وأنا أنزل من السيّارة سارحاً في حسابات ماليّة حول تكاليف رحلة الصيف، أنا الأشدّ كسلاً تجاه الحسابات والطبيب إلا حين تحل الواقعة- أشاهد اثنين يتحركان بريبة أمام مدخل العمارة. الكلاب المجاورة لا تنبح كأنما أصيبت بالخرس. القطط ناعسة تحت ظلال الأشجار في الظهيرة..
فكرت بوجود هذين الشخصين ذي الخلفيّة الإجراميّة وتذكرت فيلم (القتلة).
دفعت هذه الهواجس جانبا ودخلت الشقة لأفاجأ أنني نسيت عيناً من عيون البوتوجاز، مفتوحة، ورائحة الغاز تملأ البيت المغلق النوافذ، والمكان.
* * *
في مقهى البستان البحري، تأتي امرأة بالغة الحسن، تجلس على كرسيّ في الكونتر، تفكر في طلب مشروب، إذ ليس الوقت، وقت وجبات. أسترق النظر إليها، مقلبّا بصري المستلب بينها وبين البحر.
ثم أفتح كتاباً لأقرأ على طريقة المخبرين التقليديّة حين يمسكون بجريدة وهم يرصدون شخصا ما.
رغم وجود رأسي أعلى فضاء الكتاب المفتوح، كانت عيني تخترق الحُجب وتنفذ الى أقاليمها الأنثويّة البعيدة.
* * *
الولائم الدمويّة مفتوحة على مصراعيها في العراق وفلسطين. فإذا كان الفن والدين والفلسفة، هي روح المطلق في التاريخ كما عند هيجل؛ فإن غزارة عنف الضحيّة اللامحتسب مع جلادها، الذي استحوذ على التاريخ، وعلى هذه الأرض المرّة حسب عنوان لباسم المرعبي، هي الأقرب إلى هذا التجسد في التاريخ. هذه الروح التي تطالب بحقها في الوجود والحياة، تستصفي خلاصة الأقانيم الثلاثة لفيلسوف العصور الحديثة، بعد أن سحق التتار الجديد كل معنى وكل دلالة واشارة، إلا معنى وجوده فقط، معنى وجود القوة الهمجيّة الغاشمة كتجسيد مطلق في التاريخ.
* * *
الأربعاء:
أحمد محمد الرحبي يتصل من موسكو، يقول ان درجة الحرارة ما زالت 5 تحت الصفر. وديستوفيسكي، يرتجف في بيت الأموات.
أقول له، سبحان مقسّم الأرزاق في الخَلْق والطبيعة، ومتى ستعود الى البلاد؟ يقول حين يبدأ الصيف بشكل فعلي، وأكون قد بدأت اجازتي الصيفيّة ورحلت.
الأفضل أن نلتقي في نص يكتبه كاتب ما من أقاصي العالم.
* * *
تمر فتاة أجنبية وقد رزّتْ في سرتها دبوساً يلمع في ضوء الشمس. وأخرى حلقة في الشفة المتدلي بفعل الموضة السائدة والحقن والشفط وليس بسبب طفحان الحسّ الشهوي.
وثمة عجوز على أرجوحتها، تحت أشجار جوز الهند (النارجيل) هانئة في نومها الوديع. لقد أفرغت حمولة الحياة وها هي تستريح.
يترك النادل العُماني عصير البرتقال بجانبها من غير أن يوقظها، ويذهب لتلبية طلب آخر.
أستلم كتاب (آخر القرامطة) لأحمد الصياد.. حواريّة سياسيٍّة تتوسل السرد، في عالم الأموات، يفصح همُها الأساسي ومتنها عن ما آلتْ إليه الأمور من مجازر وانحدارات في بلده والبلاد قاطبة.
الصيّاد الذي عرفته خير صديق وقت الضَنك والأزمات.. هناك أشخاص لا تفلح المناصب والغربات مهما شطّت في تغيير طبائعهم الصادقة، يظلّو كالآلئ ، مشعيّن في ليل العلاقات الانسانية الآفلة.
* * *
صقور تحلّق ناعسة
على مستوى منخفض، تظلّل
قمَمَ التلال بظلال أجنحتها الوارفة.
* * *
كان في الاربعينيات يتكلم كثيراً ويكتب عن الموت. وبعدما بلغها وأشرف على ما بعدها صار الموت أبعد من الهاجس العابر والكلام. صار يتنفسه، يستيقظ على فحيحه المروّع في جسده وحركاته ومجمل تفاصيل حياته. لم يعد كلاما تجريديّا مشوباً بالنزوع الرومانسي للجمال والمطلق البعيد؛ وإنما جسد يتحللّ وزمناً وحركة لا رادّ لقضائه المبرم ومحوه الغريب.
* * *
أنزل السلّم باتجاه السيارة. الطقس ما زال جميلاً. لم تنفتح أبواب جهنم بعد، أو الفرن الجيري كما وصفه (رامبو) منذ قرنين لم يزدْ خلالها إلا شراسة وجحيمية، مع تقلص الحضور الخصيب للطبيعة، واتساع رقعة المحْل والجفاف.
ألاحظ القطط التي كانت ترتطم ببعضها وتتعثّر على السلالم والممرات من فرط الهزال، على شيء من السمنة وحسن الحال.
يبدو أن السكان الجدد أكرم من سابقيهم، أخذوا في إطعامها والاعتناء بها ولو إلى حين!!
* * *
تلقين البشر أول درس حول إنسانيتهم الفظّة.. تيه ونواح وقِدم.. وتشاؤم ظاعنين في الديار بحثاً عن الكلأ والماء.
تلك هي سيرة الغراب على هذه الأرض الجدباء.
* * *
كازنوفا، فلليني، بعد مغامراته ومعاركه الغراميّة ومضاجعاته التي لا تحصى في جميع الأراضي والقارات، لا يجد في مطاف النهاية، ما يهدئ روْعه ويمنح روحه الطمأنينة والسلام، لا يجد إلا دميةً، يستسلم كطفل بين أحضانها الدافئة.
* * *
الجمعة:
في العدد الجديد من مجلة (نزوى) أتأمل صورة لرجل عُماني قادم من الماضي بلباسه التقليدي. الصورة رسُمت ببراعة مدهشة.
والرجل رغم مظهره العادي حين تحدّق فيه يتبدّى كفارس جاد به خيال الفنان وعَبَر القفار والصحارى، ليمدّ يد المصافحة للقارئ قبل أن يلج إلى عالم التعقيد المعرفي.
يمكن لتلك الصورة التي لا تنقصها الرجولة والكبرياء وذلك الجمال الوحشيّ للكائن البريّ، أن يخلع عليها الناظر قناع الشخصيّة التي تتداعى من ذاكرته البعيدة.
لأول وهلة وأنا أمعن النظر في ضفاف نظرتها الغامضة، وقوامها الصَلْب، تداعت في ذهني صورة (سالم بن سهيل الرحبي) ذلك القاتل المتوحد، والمحترف الذي يعيش في الأعالي والذرى والكهوف. والذي امتلأت مخيلتي بحكاياه، من الطفولة، حين ينحدر من الذرى على إيقاع خطى الذئب الحذِرة، من عيون العسس، إذ يستبد به الحنين إلى حياة البشر المألوفة. يختار مجلساً من مجالس القرية ليقضي فيها قيلولته ويأخذ نَفَساً من لهب الهاجرة.
يحدث أحياناً أن يفاجئه صوت يقضّ مضجعه فيستيقظ كصرخة تفجرّت من الأبعاد السحيقة للألم والخوف والمتاهة، ونَصْل الخنجر في يده حتى يلامس السقف ويبعثره هارباً نحو موطنه الأبدي.
يمكن بهذا المنحى أن نستدعي صورة (لي مارفن) في فيلم (القتلة) أو صورة مارلون براندو في فيلم (البحث عن قاتل) الاثنان يقومان بدور القاتل المحترف وهما من الغرب الأمريكي البعيد وهذا من أقاصي جبال عُمان؛ الثلاثة يمتلكون صفات مشتركة كالعزلة والتوحش والحساسية المفرطة تجاه البشر والطبيعة. انها وحدة القتل البشريّة مهما شطّت المسافة والاختلاف.
* * *
السبت:
أتسطّح على أديم الموج الذي يبدو هذا المساء كموج بحيرة هادئة.
أحدّق في السماء، أمعن النظر، فأرى شجرة المنتهى مثقلةَ بالنيازك والزمرّد والعصافير. وفي الضفة الأخرى من الشجرة الاسطوريّة المباركة، ينبلج بهاء مياه نوراني، تسبح فيه مخلوقات الأثير التي هي ليست بالذكر ولا بالأنثى كأنما قدمت للتو من جنة الخلد المفعَمة بأنهار الخمر والعسل واللبن الصافي والينابيع.
أسبح في البحر المضطرب قليلاً. كانت بضعة غيوم قادمة من منخفض جوي باتجاه الهند بما يشبه نذير عاصفة أرى مجموعة أسماك من أحجام مختلفة نافقة على سطح المياه.
تذكرتُ حين كنت برام الله، والانتفاضة آخذة بالتصاعد، حين جاء زهير أبوشايب، بخبر الانتحار الجماعي لأسماك القرش على شواطئ البحر العربي.
كانت البلاد في حالة حرب، وكان الشاعر مأخوذاً بهذا الطقس الغرائبي للموت.
* * *
الشمس تغرق في بحر اللجين الغافي.
الفراشات والجنادب الحييّة تطير على مقربة من قطيع الزراف والوعول ذات القرون الكبيرة.
القمم الجرداء تحلم بمستقبل خضرةٍ وربيع.
* * *
أستلم رسالة عن طريق الفاكس من غادة السمّان بباريس، بخطّها الذي تحرص فيه على الوضوح أكثر من الصنعة والتنميق.
الست غادة تطلب مني إرسال عنوان فندق البومة في أمستردام، بصفتها عاشقة للبوم. وتضيف، أنها تحب اسم (الناعبي يحيى) لعلاقته الوجوديّة واللغويّة بأحبائها، وقد أسمته بنقيضه الظاهري (المغردّي) وكأنما صوت سلفها المعريّ يتلبّسها من غير قصد ربما
»وشبيــه صــوت النعــيّ اذا
قيس بصوت البشير في كل ناد«
أكتب إليها فيما أكتب، أننا في خضّم المحنة، تأتينا اشراقة مفاجئة من مكان ما لتزيح عنا بنورها الحميميّ جانباً من هذا الظلام الجاثم على الروح.
هذا الصباح كانت تلك الاشراقة رسالتك العذبة.
* * *
أمشي على الشاطئ الصغير المحاصر بين جبلين. مكان مثالي للتأمل والأحلام. ثمة امرأة تسبح وحيدة قريباً من شباك الصيادين ذات العلائم البيضاء.
أحجار سوداء وفاتحة تشبه تلك الموجودة في مسيل الأودية (عُمان قبل ثلاثة ملايين سنة انقذفت كقطعة من اليابسة وفق الدكتورة جوبا بجامعة السلطان قابوس).
يبدو أن الموج قذف تلك الأحجار الصغيرة، ليلة العاصفة من الأعماق، هناك حيث ترعى أسماك القرش محاطة بدروع من الأسماك الصغيرة، في تعايش وهدوء.
أجلس على مرتفع حجري رمادي مليئ بالقواقع وبيوض ما قبل التاريخ، ورجلاي في مهبّ الموج.
* * *
اتصل بمحمد المزديوي، أجده في لحظة انتشاء قصوى، ظننتُ أنها بسبب وفرة الغلال الدمويّة في العالم. لكنه قال بالإضافة الى ذلك، كون السلطات الفرنسيّة أعطته، الأوراق القانونيّة الكاملة للاقامة وبدعم من أحمد الصياد، بعد ما يربو على الخمسة عشر عاماً من اقامة غير شرعيّة.
أنا شاركته هذا القلق والارباك فترة لا تزيد عن ستة أشهر من الحياة في باريس من غير اقامة، إبان اضطراب الوضع الأمني هناك بسبب التفجيرات العشوائيّة، التي اتهم فيها اللبناني جورج عبدالله.
لكن المزديوي كان ثعلبيّا ورابط الجأش على خطى جدّه البربري الأكثر جهاداً وعروبة، عبدالكريم الخطابي، لم يقع المزديوي مرة في شباك البوليس المتصيّد لأصحاب السحنات المهاجرة على أبواب المترو وفي الطرقات.
* * *
أصحو في الساعة الرابعة والنصف. عطش وشعور بالخسارة، خسارة كل شيء بالمعنى الجذري المدوّخ . وذلك النوع من الكآبة التي تنغلق أمامها الآفاق والنوافذ حتى كأن السماء تربض بأثقالها على رأسك.
اتصل بداليا، تليفونها هي الأخرى مغلق.
أفكر في الخروج والتنزه قليلاً لكن الطقس لا يساعد. افتح التلفزيون، مسلسل لمحمود مرسي الذي انسحب أخيراً من ساحة الفن الى الأبد.
أنحشر على الكنبة، مستسلماً لقدر الليل العاتي، دافعاً بشكل مضاعف ثمن سهرة البارحة.
أقرأ:
ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وأين تسكن؟ فأقول آكل الموت، ألبس الكفن، وأسكن القبر.
(أبونعيم الصوفي)
وروى أحدهم عن أبي يزيد البسطامي، أنه صلى معه صلاة الظهر، فلما أراد أن يرفع يده يكبّر لم يقدر إجلالاً لاسم الله، وارتعدت فرائصه حتى كنت أسمع تقعقع عظامه فهالني ذلك.
* * *
على الشاطئ، أنظر إلى امرأة جميلة بمعيّة رجل يبدو أنه قبيح المنظر والمخبر.
أحاول فصلهما نهائياً وقذْف المرأة عارية في صَقْع بعيد..
وحيدة وعارية إلا من خيالاتي التي تلتهمها مثلما يلتهم النسر الفريسة.
* * *
أذهب الى الجامعة لحضور ندوة تنظمها مجموعة الترجمة، التي سيكون ضيفها سعد البازعي، الذي التقيته منذ أيام في (مؤتمر الاصلاح العربي) في الاسكندريّة، ما دفعني مع أصدقاء، إلى السؤال المأساوي الضاحك، حول امكانية اصلاح ما تراكم عليه فساد الدهر وأثقله انسداد الأفق والمسار الذي أضحى ينفجر تعصباً وعنفاً وانتحاراً من كل جهة وصوب.
أمد يدي الى مترجمة شابة لكنها لا تعاملني بالمثل كما جرت العادة في سياق المودة البشرية والنفاق. فلا تمد يدها لمصافحتي، ربما ليس تعصباً وإنما عدم تعود وارتباك في مثل هذا الجو الجماعي.
وجهها الصبوح جعلني أوجد لها المبررات، رغم شيوع هذا السلوك الذي أخذ يزداد كثافة وانتشارا في أوساط العرب والمسلمين حتى أطبق على الجموع من فرط نفاد الحيلة.
قبل فترة مررت على جابر عصفور بجامعة القاهرة في القاعة التي كان يحاضر فيها طه حسين، وقد سُكّت صورة ظليّة، على أحد مداخلها للعميد.. لم أذهب الى الجامعة منذ زمن ، أكتفي برؤيتها من الخارج، فرأيت المشهد على حقيقته؛ حشودا من المنقبّات والمحجبّات اللواتي لا يمددن يدا للمصافحة. في السبعينيات كان المشهد على عكس ذلك تماماً.
* * *
علي أن أمر على سعد البازعي لمصاحبته، الى السوق القديم في مطرح. قلت له، سأكون معك في التاسعة، لو نمت واستطعت الصحيان باكراً.
لكن السوق بقضه وقضيضه، بمخلوقاته البشريّة والحيوانيّة، بكلابه وقططه، تعبر مواكبها في نومي المتوّتر. مما جعلني أعيش باحة تلك الأوقات الغاربة. الظلال والأزقة شبه المعتمة (سوق الظلام) أشباح البحارة والحمّالين يلهثون بأثقالهم طوال اليوم. وشهيق بنات آوى في جروف الجبال المحيطة كما يحيط السوار بالمعصم. وتلك الأبراج التي تراقب السفن العابرة والفراغ.
ذات مرة أمام بيتنا في حارة (اللولوّة)، احتشدتْ فيالق من القطط والكلاب الشريدة الجرباء، التي لا تشبه كلاب جيراني الانجليز، محدثة جواً من الذعر والغرابة، فما كان مني، إلا أن سحبت بندقيّة (السكتون). أطلقت أكثر من طلقة في الهواء المحتقن، فتفرقت الكلاب. أما القطط فظلّت غير آبهة بالأمر. ثم صوبت الرصاص باتجاه صفوفها حيث كانت تخمخم بقايا عظام الأسماك والفضلات، فكانت تسقط فرادى وجماعات متخبّطة في الدماء والحيرة أمام سطوة الرصاص والموت. مما جعلني أحسّ بمجد الانتصار في هذه المعركة الفاصلة.
* * *
بعد المكتب أواصل السير باتجاه الشاطئ. لا أحتاج الى قيلولة ولا استراحة، هناك على الرمل والمياه المالحة سأستريح.. المياه القادمة من بحار الهند والصين وافريقيا، التي يحلم القراصنة، باجتياز لججها الهائجة، والوصول الى مواطن الذهب والعبيد.
في غابر الأزمان أقام العمانيون القدماء ورش نجارة عملاقة في (كيرلا) التي ينتمي إليها مصطفى السائق ووكيل الأعمال الوهميّة؛ لصناعة السفن التي يتشكل منها الأسطول العُماني التجاري والحربي، البالغ النفوذ في البحر والبر من سواحل فارس، حتى مجاهل افريقيا، ثم دلفوا للنسيان، عدا بعض كتابات متفرقة كتبها في الغالب رحالة ومستشرقون أجانب، كون الكتابة التاريخية العُمانية من الضآلة بحيث لا تتناسب مع حجم الأحداث الكبيرة العاصفة، وربما الاحتراب الداخلي قضى على الكثير من الكتب والمعارف على ضوء نموذج الملك (خردلة) الذي أحرق في سمائل كتب ومؤلفات العلاّمة (ابن النظر).
في طريقي نحو البحر، بدل أن أذهب عن طريق الوادي الكبير، أخذت طريق (مطرح) ومسقط القديمة. الهواء منعش. غيوم متفرقة تناوش الشمس كاسرة حدتها الآخذة في التصاعد.
في رأسي طنين مجزرة القطط، وعواء الكلاب الشريدة في ذلك اليوم القائظ البعيد، في حارة (اللولوة) الواقعة في الخريطة المطرحيّة، على مقربة من حارة (سيح الرحبييّن) و(كوه بون) التي تعني وفق اللغة البلوشيّة (تحت الجبل) وقد كان عزيز مدن الذي ينتمي الى عائلة من أعيان قبائل البلوش القاطنين هناك، وكذلك عبدالله الوهيبي، يسميّان تلك الحارة، على سبيل الدعابة، على اسم العاصمة الدنماركية (كوبن هاجن). بالإضافة الى خيال مجزرة القطط والكلاب، تطاردني أيضا من مرابع تلك الطفولة، مغسلة الموتى في مسجد اللولوّة. حيث يسجى الميت لصق حوض الوضوء والغسيل، لنضح الماء على الجسد الساكن شبه المبتسم ووضع الكفن، قبل رحلته الأخيرة الى المقبرة في فناء البلدة.
هذه الصورة أكثر من غيرها تصيبني بالدوار والارتجاف.
* * *
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. كآبة مرعبة. أفتح التلفزيون، أشاهد فيلماً قديما لـ(لي مارفن وشارلز برونسون)، حتى هذه الأفلام الحركيّة المسلية لم تعد تعرض الا نادراً. فرقة من الشرطة الكنديّة تطارد قاتلاً فريداً من نوعه. مسرح المطاردة أصقاع ثلجيّة صعبة ومنيعة. يأتي طيّار يعرض على قائد فرقة المطاردة، القيام بالمهمة بعد أن فشل على الأرض. وأن المستقبل للطيران وليس لشيء آخر. لقد تغيّر مسار التاريخ.
قائد الفرقة الأرضية (لي مارفن) يجيبه، أن لا حاجة له أن يرى ذلك المستقبل، إذا كان هو بمثل هذه الوقاحة والغطرسة، أحد ممثليه.
تذكرت فيلماً من بطولة (لي مارفن) بعنوان (القَتَلة) عن قصة لـ(هيمنجواي) يقوم فيها بدور القاتل المحترف الخارج على القانون، يقوم بملاحقة شخص سويدي في بلدة مجهولة على الخارطة. السويدي حين يعرف بقدوم القاتل المأجور بهدف الفتك به، لا يهرب ولا يتخذ أي احتياط، وإنما يستسلم لقدره استسلاماً مطلقاً وكأنما الأمر يعني شخصاً آخر. هذا السلوك العجيب من قبل الضحيّة، يجعل القاتل يحتار في الأمر ويحاول التفتيش عن الأسباب الحقيقية التي تكمن وراءه.. وهنا تبدأ حياته الماضية في الظهور (فلاش باك) ويتضح عبر السرد المأساويّ، أن هذا السويدي الذي عمل ملاكماً محترفاً في الماضي، يصل الى قناعة أخيرة من عِبَرِ حياته وأحداثها، أن الموت هو خلاصه الأخير.
البارحة أيضا شاهدت فيلماً (لروبيرت دي نيرو) اسمه (المشاهد) دائما في خضم مشاهدتي للسينما أتذكر أمين صالح، وذلك الدأب والوعي العميقان بالسينما. وحركتها وتاريخها ومن فرط تحديقه في الصورة طوال الأعوام كادت عينه أن تتلف، في (الصحراء الحمراء) فيلم انطونيوني المدهش… في هذا الفيلم (فيلم دنيرو)، كيف يتحوّل مدمن على مشاهدة كرة البيسبول.. وعاشق لأحد رموزها في أمريكا، الى قاتل بالغ العنف، حين يكتشف أن معبوده، لا يهتم بمعجبيه وعشاق لعبته، بل يحتقرهم حين يشبههم بالنساء اللواتي يحببن لحظة الفوز والتفوّق، وينصرفن لحظة الخسارة. انه يلعب لنفسه ومصلحته. وليس للآخرين مهما كانوا سبباً في شهرته ومجده.
أحاول الذهاب الى النوم. الفجر على وشك الانبثاق. وكالعادة ببطء وتثاقل، كمن يقاد الى حتفه وليس الى راحة وسكينة. أفتح المكيّف، وأدلف الغرفة التي ضمختّها (داليا) بشموع زهر البنفسج التي تساعد على اجتبار مغامرة الليل العاتية.
* * *
الثلاثاء:
الثامنة صباحاً، أصحو على صوت التليفون الذي نسيت إغلاقه. كانت هدى المطاوعة، من (أوهايو) تقول ان الساعة عندهم الآن التاسعة ليلاً.. يا للمسافة الفلكيّة التي تفصلنا. تخبرني انها تود الرجوع الى البحرين لمزاولة، التدريس في جامعتها كالسابق. لقد ملّت الغربة والوحشة في أمريكا. وكي لا تستطرد في شجون هذه الغربة، استعجلت القول: انني لم أعد أهتم بثنائية الوطن والمنفى. فيمكن للأول أن يكون أكثر شراسة في هذا المنحى وقضماً للروح، كما عبّر عن ذلك منذ قرون سلفنا الكبير، أبوحيان التوحيدي وما حفلت به الفلسفة والأدب، خاصة في العصور الحديثة الذي وُلدت من رحمها مفاهيم عظيمة ونبيلة كالحريّة والديمقراطية والمساواة… وولد أيضا المجسّد النموذجي لخارطة العلاقات الجحيميّة وقسوتها.
وفي الأوطان العربية والشرقية الطاردة لأي اختلاف وعدم انسجام مع سلوكيات القطيع وأفكاره.. دائما في معمعة الكلام الفضفاض حول الأوطان الحنونة والمنافي القاسيّة، أتذكر سمير اليوسف؛ وكذلك فيض العبقريّة والإلهام عند بعض الأدباء العرب.
بعد هذه الخطبة التليفونيّة التي (سكرّتْ) أي أفق أمام هدى بما فيه أفق الليل الأمريكي، أدخل الحمّام للاستمتاع بالدوش الصباحي المنعش. ذلك الاستسلام الشفيف لدْفق الماء على الجسد بعد ليلة مؤرقة.. وقد كان كذلك بالفعل لولا مواء القطط الذي يشبه النحيب قادماً من سلّم البناية، ذات السكان الغرباء. وصوت كلب وحيد من البعيد. لا يجد ردّاً من كلاب جيراني الانجليز وهي تعيش هدنة النباح الصاخب التي أجهل أسبابها.
أدخل المطبخ. اشرب ثلاثة أرباع لتر من الماء. أحس بعطش الربع الخالي في أعماقي. أسوّي دلّة الشاي على النار. أقضم تفاحة من غير متعة وآخذ حبوب منع الضغط. أتطلع في الأفق ساهياً عن الدلّة التي تبدأ في الفيضان. أجلس بارتجاف وعدم ثقة، على الطاولة محاولاً عمل شيء ما، ضائعاً في زحام الأشباح.
* * *
الخميس:
من اصعب الأمور عندي، أن أفتشّ في كتب وأوراق وألبومات قديمة. حتى أنني أحاول دائما عدم الاحتفاظ بأي شيء منها. وما تبقى منها جاء من أصدقاء يحتفظون بوّد قديم وحنين.. إنني لا أنظر الى هذه الأشياء الثمينة لدى الأغلبيّة، بعين التعاطف ورغبة التعايش معها، رغم عتوِّ مياه الذكريات المتراكمة، المضطربة في أحشائي، والتي تدفع بي أعاصيرها الى الشلل التام ورغبة الانتحار. هذا لا يعني بالطبع، أنها كانت في مجملها ممضّة ومؤلمة، وإنما حتى تلك السعيدة والهانئة، تتحوّل مع الزمن إلى شقاء وعبءٍ لا قِبل على تحمله.
»الذاكرة عدوّة« كما عبّر رينيه كرافيل ، لدرجة انني ذات ليلة، وقد قذفتني الصدفـة وقتهـا إلى بـاريس، بشـارع الشهـداء )SRYTRAM SED EUR( القريب من حي بيجال الشهير، حيث تتربع في الأعلى المونمانتر، كنيسة القلب المقدّس، الجوار الأبدي بين الرذيلة والفضيلة كما في النفس البشريّة، صحوتُ في منتصف الليل لا أعرف ماذا أفعل؟ وبشكل لا ارادي، أخذتُ ألبومات الصور التي تجمع صفوة الحب والصداقة والقرابة، الى المطبخ وأحرقتها عن بكرة أبيها.
أحس، والنيران تلتهم الصور والوجوه العزيزة بنوع من الراحة والتخفّف من أعباء الذكريات التي بقيت ترقد في الأعماق مطالبة بحقوقها، على وشك الانفجار بين لحظة وأخرى.
اليوم دفعني الفضول أو الضرورة، إلى التفتيش في أوراق قديمة، تجمعت هكذا بمحض الصدفة، ووسط هذا الشتات، عثرتُ على رسالة من معن الطائي، تاريخها يعود إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي. أي أن عمر معن في تلك الفترة، لا يتجاوز الخامسة عشر. كانت الرسالة التي تشبه رسالة الرؤيوييّن القياميّة، تقول في بعض فقراتها؛ أن العالم ماضٍ إلى خراب أكبر. ولن يتطهّر أو يكون إنسانياً إلا بكارثة تزلزل أركانه وتعيد له صياغته الحقيقيّة التي فقدها… الخ.
معن الذي كان في أبوظبي يكتب الخواطر ويقرأها لي بصوت عالٍ، لم ألتقه منذ سنوات. كبر ودرس الكمبيوتر والالكترونيات في أمريكا. وحين التقيته أخيراً وشعر رأسه يقترب من البياض التام، وجدته رغم كل شيء، ما زال يتميز بتلك المخيّلة الواسعة والنظرة الحزينة نفسها للعالم.
قلتُ له: يا معن ما هي أخبار العالم؟
أجاب: بأن أحداث التاريخ المعاصر دفعته أن لا يحترم إلا رجال المافيا الذين بدأت سلالتهم بدورها في الانقراض.
* * *
السبت:
أكتب رسالة لأمجد ناصر إثر قراءتي لكتاب له أعجبت به، ربما قلت له: في ظل هذا الجو المدلهم بالبغضاء والكراهية ورغبة تحطيم الآخر، ما أحوجنا أن نقرأ ونتواصل بمحبّة ونقاء. وأن نظل نحلم وسط هذا الطوفان العاتي للانهيار الذي يتربص بنا دوائر الهلاك الروحي والجسدي..
أتصل بمحمد الحارثي لأطمئن على أحواله الصحيّة، وأبارك كتابه الجديد حول الرحلات. وكنت بالأمس أرسلت له قصاصة قصيدة أرسلها لي سعدي يوسف عبر الإنترنت، بعنوان: »على مشارف الربع الخالي« مهداة إليه.
* * *
حين أكون في جماعة، ندوة أو اجتماع. في صالة مسرح أو سينما، تسقط نظراتي لا شعوريّا على الوجوه، تتفرّس في الملامح والخطوط والحنايا، ويندفع الخيال بعيداً، بعيداً جداً حيث يرقد سرُّ الأسرار وقدسها: الموت..
متى يجرف هذه الوجوه الى عرينه، متى ستتحول بخبطة جناح عمياء، الى جماجم في قبور مغلقة ومفتوحة، ورفات، وينتهي كل شيء؟
عدا صلاة يبقى طيفها النبيل عالقاً بأهداب الليل. أو نظرة حب ألقاها الغائب ذات دهر وبقيتْ تغالب العَدَم والاضمحلال.
* * *
هذه الحضورات النسائية التي أتشظى في حقولها كبحّار تائه، لا يملك هاجس البحث عن نقطة يتوجه إليها بالتحديد. استشرف ذلك اليوم المتقدم من العمر الذي بدأت طلائعه في التوافد. والذي استسلم فيه لدفق الهذيان، مستدعياً نساء حياتي الغائبات بأسمائهنّ (ربما أسماء مختلفة لامرأة واحدة).
في محاولة أخيرة لتأثيث فراغ عزلةٍ ليس أمام صاحبها إلا فسحة نداءٍ أخير.
* * *
صباحاً، أقرأ رسالة لحكيم ميلود من الجزائر مصحوبة بمادة مترجمة لـ(ايف بونفوا)، أستحضر الجزائر العاصمة خاصة، التي انفجر جمالها وصدق أهلها القاطع على ذلك النحو المأساوي الفظ.
أستحضر ، ديدوش مراد، بمقاهيه الأنيقة الضاجّة، وسيدي فرج، الذي ذهبتُ إليه لاحقا، وقد تحوّل إلى ما يشبه الثكنة العسكريّة، مقهى اللوتس. و(باربور) حيث نقضي سحابة يومنا نتحاور في الشعر والحياة وما يلوح في الأفق كوَعْد مستقبليّ بضوئه القليل.
يكتب ميلود »نصوص متشظيّة بالتفاصيل تحاول التقاط ما يتساقط ويذهب متخفيّا في العتَمة.. إنها يوميّات سوداء تحاور حضوراً يأخذ حدّة الاصطدام الصارخ مع مشروطيّة الكائن، ولا تلاؤمه مع اللعنة التي تسمّى وجوداً«.
* * *
في أي يوم نحن الآن؟ الأربعاء، الخميس، الأحد؟ في أي ساعة وزمن وتاريخ؟ لا أكاد أتبيّن علامات الأزمنة. الغبار يلفّ المشهدَ بكامله. الغبار الأرضيُّ وذاك القادم من كواكبَ أخرى. الزمن يسيل سيلان الدماء الغزيرة في الطُرقات والشوارع، في الأزقّة والأودية، على الأرض العربيّة والعالم. الزمن المتدّفق، والمتجمدُّ كصخور خزافيّة جاثمة على صدر الكائن وهو يختنق بأنينه اليائس تحت بطشها المطلق.
في أي يوم نحن الآن. في أي ساعة وتاريخ؟ وفي أي مكان؟