الجزء الرابع

الاثنين:
أصل المنزل، في القاهرة، بالدقي، جسدي متْعَب بفعل الحمى وضربة الزكام. أسترخي على السرير ذي الطراز القديم، كانت الستارة، واقعة على الأرض حتى جاء من يصلحها. يوماً واحداً وانكسرتْ من جديد مما اضطرني إلى النوم في الصالة، كي لا أنام مكشوفاً أمام عيون الجيران الذين تتدلى ملابسهم الكثيرة من حبال الغسيل.
قبل الفجر أسمع خارج الباب مباشرة، القطط وهي تتعارك على الفضلات. حين تفرغ من عراك الأكل، تدخل في عراك هياجها الخاص.
صحت المرأة الى جانبي وهي تقول: حلمتُك البارحة، مسافراً من غير أن تترك لي عنواناً ولا حتى اسم البلد.
أدير زرّ الراديو على البرنامج الموسيقي، استلقي مغمض العينين لا أفكر في شيء.
أصغي كما في الأحلام إلى موسيقى فيلم (قصة حب) الذي شاهدته معها في الزمن البعيد، بسينما قصر النيل. وقرأت قصة (اريك سيجال) ذات صباح في حديقة الميرلاند. الموسيقى تجعلني أتكاسل أكثر، وتبدأ في إيقاد تلك الهواجس وما تبقى من الذكريات: كم هي نائية وضبابية. ولو كانت هذه الهواجس التي تحرك مياه الأعماق النائمة، قرب المغيب، لكانت أكثر اضطراباً وتدميراً.
العاصفة على أشدِّها في الخارج، محملّة بالغبار والأشلاء. إنه شهر (طوبه) الذي يشبه (أمشير) في غباره وليس في برده بالطبع.
أفتح عيني، أجدها، مستيقظة، تشرب قهوتها، الصباحيّة، أسفل السرير. لا تكلمني، فيما ينبغي أن نفعل هذا النهار، وأي المشاوير والأماكن نرتاد، بل تواصل سرد أحلامها المذعورة، التي تعبّر عن خوفها المتراكم عبر السنين، منسكباً من سُحب اللاوعي الدامسة، لتجد في الأخير نوعاً من راحة نفسية بعد التعبير والافصاح.
قلت: إن الأحلام تريح صاحبها، ففي رحلته الحلمية يعيش حيوات متعددة، حيوات الحاضر والحياة التي عاشها، فربما، تمتد الرحلة الى آلاف السنين، حين كنا حلماً لسمكة قرش أو ذئب يعبر المياه الضحلة في الفلوات الجرداء.. تنضغط هذه الحيوات وهذه الأزمنة، تتكثّف وتتقطر في تلك اللحظات القصيرة من عمر النائم، وكأنما قارّات تنفتح على الآزال السرمديّة.
* * *
مساء أضعتُ نظارتي الشمسيّة التي أحبها وقد اشتريتها من أحد المطارات. يبدو، أن الأشياء التي نحبها مثل البشر في رحيل دائم، يرحلون فجأة تاركين مرارة الصَدْمة. ثمة شرط قدريّ صارم يندفع ضد المشاعر والعواطف الإنسانيّة، هذا الشرط هو الذي قُدّ منه الغياب والتلاشي.
نذهب الى مطعم قريب بشارع جدّة، لتناول وجبة العشاء. مطعم صغير وحميميّ، تقول لي: أن هذا النوع من المطاعم، أفضل من المطاعم الاستعراضيّة، الصاخبة، التي تكثر في المدن. وخاصة في هذه المدينة التي تكاد أن تكون صحراويّة، لولا نيلها المتدفق من عتمات الأبد، يحملها دائما على النضارة والتجديد.
نجلس متقابلين، في الضوء الشاحب الذي يتحرك في غبشه الجرسونيّة كالأشباح الأنيقة، لكن ليس كتلك الأشباح التي تنجبها مخيلة جاك نيكلسون في فيلم (شايننج) كي يؤثث بها فراغ عزلته. فمثل هذه الأشباح موجودة في مدن غير القاهرة وبيروت. ثم تواصل الكلام بعد أن شربت عدة جرعات من كأسها قائلة: لو نستطيع العيش خارج أي بلد عربي فلن نتردد. يمكن العيش في أقصى حالات العزلة والوحدة وسط الأقوام الأخرى التي لا تعبأ بالآخرين بمعنى ما؛ ولا نعيش وسط ظلام حطام أرواحنا وقلوبنا، في هذه المدن المخلّعة الأبواب والنوافذ، المدن المستباحة، والتي لا تزيدها السنين، إلا تكريساً واتساعاً، تكريس الحطام والظلام القاسي في النفوس والأمكنة.
* * *
الأربعاء:
مضى أسبوع على وجودي في القاهرة، التي أتردد عليها باستمرار. لم أر أحداً من الأصدقاء والمعارف. لقد أخذتني من الجميع، هي القادمة من بلاد أخرى. أفكر في الاتصال أو الذهاب الى وسط البلد. عليّ أن أتصل بجيراني أولاً، مها وعرب لطفي. أمر على عرب نتحدث كيفما اتفق بتلقائية. ميل عرب للتنظير والشرح لا ينزع عنها تلقائيتها في الحديث. وهذا ما لاحظته لدى منى أنيس التي لا تغادر في السكنى، وسط البلد لأنها ما تبقى من روح القاهرة الحقيقية، قاهرة الذكرى والحنين. في مثل هذه القلة من المثقفين، ليس هناك ما يثقل الحديث بالتفاصح واستعراض الثقافة. هناك اندماجٌ وتداخل اللحظات المختلفة ، من الطرافة واللمحة الشخصيّة، بالمرجعية الثقافيّة العامة والفصحى والدارجة، مما يجعل الحديث، حديث متعة ورفقة طيّبة، وليس خطابة منتفخة بفقرها المريع.
أثناء وجودي عند عرب، أتصل بمها لطفي، قائلا ان تلاميذها في لبنان يسلمون عليها، مشيرا الى قصة، أخبرني إياها حمزة عبود.. كانت الستّ مها مديرة مدرسة في مدينة صيدا، وكان كل من عباس بيضون وبسّام حجّار وحمزة، يعملون في المدرسة نفسها. كانت البلاد تعيش أجواء الحرب، وفي المساء يسهر الشباب في بيتها الذي لابد، أن يكون مرتبّاً أنيقا ومليئا بالعرق والمازات… في الصباح حين يتأخرون عن موعد المدرسة المحدّد، تغضب المديرة التي تفصل بين العمل ومعطيات الصداقة. يقولون لها ست مها أنت تعرفين أن الشعراء مزاجيون.. يعلو صوتها أكثر قائلة: إذا كانوا كذلك فهي أكثر مزاجيّة منهم.
* * *
الأحد:
بعد جولتها الصباحيّة التي تركتني فيها نائما، روتْ لي قصة دخولها محلاً لبيع الملابس. كان المحل يغص بأصحاب اللحى العشوائيّة الطويلة والمنقبّات، بحيث وجدت نفسها وحيدة وغريبة حاسرة الرأس. وكان البائع، حين تسأله عن شيء ما في المحل يرد عليها ورأسه الى الجهة الأخرى.
وكنا قبل يوم نقطع المسافة من (الدقي) الى وسط البلد، مشياً. الجو ملفع بسحب التلوث وما يشبه الدخان، صخب البشر والسيارات وما تبقى من عربات الحنتور يطبق على المدينة بشكل قيامي. عرّجنا على دار الأوبرا من جهة التحرير، وجدت مبنى المجلس الأعلى للثقافة أمامي، قلت لأسلم على جابر عصفور. لم أجده تركت له ورقة لدى الاستعلامات، وتليفوني في القاهرة. تبين لاحقا أنني نسيت أن أكتب الرقم الأخير. سألت عن منتصر القفاش ونجاة علي أيضا لم يأتيا بعد.
مشينا في ردهات الأوبرا، أحسّتْ بالهدوء المفاجئ الذي ينزل دفعة واحدة ململما شظايا النفس من التشوّش وسطوة الجلبة، ويعبر بها الى شيء من سويّة التأمل والتفكير. قالت: إن دار الأوبرا لابد بُنيت بعوازل الصوت في خرساناتها. وبما أن اليابانييّن صممّوها وهم الذين تكثر الزلازل في بلادهم، فقد ابتكروا، تكنولوجيا فاعلة ضد هذه الزلازل، بدمج كتل مطاطية في الأعماق الخرسانية الضخمة، فترى العمائر تتمايل لحظة هجوم الزلازل كنخلٍ في خضمّ عاصفة، لكنها لا تنهار. لذلك يبتعد الصخب لحظة دخول دار الأوبرا. رغم الشوارع الكبيرة المحيطة بها.
دخلنا قاعة للفنون التشكيلية، يسيطر على لوحاتها هاجس التجريب والتجديد، وكان في وسطها شبه المعتم شاب بلحية قصيرة، يتلو آيات من القرآن الكريم ويجوّدها بمقدرة كأنه أحد المقرئين، المعتمدين من إدارة المساجد ودور العبادة.
واصلنا السير عابرين كوبري قصر النيل نحو وسط البلد. وكانت وجوه وصور من الماضي أخذتْ طريقها معنا لعبور الكوبري، أخذت تنعتق، تدريجياً من أغلال عتَمة الأيام وضبابها، حتى انجلت كوجوه وصور حقيقية واضحة الملامح والقَسَمات.
أقوى تلك الوجوه تجلت أمامي هذه اللحظة، وأنا أقترب من كازينو النيل، حين كانت هناك مدينة ملاهٍ نرتادها دائما… ذات يوم رأينا شيخاً عمانياً بلباسه التقليدي ولحيته البيضاء الطويلة حتى الركبة. يركب، ربما مع أطفاله، لا أدري، على ذلك الدولاب الضخم الذي يدور بسرعة حدّ الذوبان في الفضاء المترامي.
أتذكر ، بعد عدة دورات، انقطعت الكهرباء وتوقف الدولاب عن الدوران. وكان من حظ الشيخ ومن حظنا نحن لنشاهد هذا الحدث السماوي الأرضي- أن يكون في الأعلى من الدولاب، في الذروة تماماً. كان المشهد بقدر ما يشي بمرح الطفولة ويستدعي الضحك والتعليق، يوحي بجلال الغموض الشبحيّ للشيخ، وهو يستوي على عرش الفضاء باسطاً هيمنته على سماء القاهرة.
* * *
السبت:
أذهب مع الحاج فؤاد، الى إدارة الكهرباء بشارع نوال في العجوزة لتسديد فاتورة متأخرة. الطرقات مليئة بالوحول والبرك جراء أمطار البارحة، التي تعرقل السير اضافة الى الزحام اليومي.
لكن ثمة ما لا يؤثر كثيراً في زحام الحياة القاهرية. في بلدات أخرى بعض هذا الزحام يكفي لتلف الأعصاب وتدميرها. ربما مشهد الحياة الذي يغري بالمرح والتأمل والانهماك. لطف خبيئ لا اعرف تفسيره على نحو واضح.
نمر على صف من محلات الجزّارين وقد عُلقت الذبائح كالعادة بكلاليب من عراقيبها وتدلّت الأحشاء والرؤوس. بالأمس كانت ترعى في أريافها الحالمة. لكن إذ كانت عادة الغذاء البشري المتوارثة في هذا المشهد القاسي، فثمة شعوب معلّقة هكذا من عراقيبها بدافع الوحشيّة والافتراس ورغبة الإبادة ، فضائل العقل الحضاري وغير الحضاري المعاصرة.
أسأل الحاج، من هي نوال التي سُميّ الشارع باسمها؟ لم يجبني بل ذهب في الحديث أنّ هذه الأرض الخصبة المحاذية للنيل، كانت مملوكة من قبل البرنسيسة فاطمة اسماعيل وهي تقدّر بعشرين ألف فدان. هكذا كانت الأرض المصريّة، اقطاعيات بين الأمراء والأميرات. وبضع عائلات أخرى مثل سراج الدين واباظة…الخ.
جاءت يوليو وعبدالناصر حاولوا تصحيح بعض فداحة هذا التاريخ، لكن…
ندخل مبنى الدائرة الحديث الذي لا تخطئ العين نظافته وانعدام الزحام فيه. نجلس بعض الوقت، الحاج يعرف من يسهّل أمور المعاملات، البيروقراطيّة، نفسها في البلدان العربيّة، ذات الثقل السكاني وتلك المتخفّفة منه.
في هذه الأثناء ثمة شخص يلبس جلباباً أنيقاً يصرخ في الموظفيّن، ويستدعي مدير الدائرة الذي يصل الى مكتبه، فيسأله ذو الجلباب الأنيق بصوته العالي، أنت المدير؟ فما كان من هذا الأخير إلا أن ينتفض من كرسيّه: نعم أنا المدير، ولازم تعرف حاجة أساسيّة، أنا مدير الخناقات كمان.
* * *
الاثنين:
أذهب مع جرجس شكري وشاكر عبدالحميد، الى مسرح قصر العيني، مشيا على الأقدام، حيث تعرض مسرحيّة للفرد فرج.. في طريقنا الطويل، نمر على فندق المريديان سابقاً، نشاهد نادية لطفي تنزل من سيارتها باتجاه باب الفندق، وقد شاخت وتثاقلت خطواتها حتى كادت أن تتعثّر لولا مساعدة الحارس. أين منها تلك الفاتنة التي يستلّها المراهقون بصنّارة الخيال الشَبِقة من الافلام الرومانسيّة، في ليالي الخلوة والهياج، حتى الإغماء.
لقد هدّها الزمن أكثر من اللازم.
نصل الى المسرح، ألتقي بعبد الغفار مكاوي وفاروق عبدالقادر، مكاوي، ألتقيه لأول مرة، بعد زمن من تبادل الرسائل والكتب، مرة أرسل لي ديوان (أونجاريتي) مخطوطا بخط يده وترجمته.. بعد قليل تأتي آسية البوعلي مع رفيق الصبّان. آسية تقول لفاروق: أنا الوحيدة من بين العمانييّن تربيت في مصر. أجابها فاروق: وسيف الرحبي، تربى فين، في الربع الخالي؟
* * *
أستلم رسالة تليفونية من رشا عمران، تقول: هل تتضامن مع الشاعر الصيني الذي قررّت السلطات السوريّة ترحيله من غير سبب واضح. أحمد جان عثمان، سوري وعربي عبر الزواج والزمن واللغة التي يتقنها أكثر من شعراء كثيرين عرب الحسَب والنسَب.
أجبتها، أنني غير مستعد للتضامن. لقد جنَتْ على نفسها براقش. وهو يستحق الطرد، فما الذي أتى به وأبقاه كل هذه المدة في ديار العرب في هذه المرحلة. مفكرا نفسه في عهد الرشيد والمأمون!
* * *
الثلاثاء:
اذهب الى وسط البلد لمقابلة شاعرة شابة، في مقهى جروبي. وجدتها قلقة، ان لم توضح لي المكان جيداً فأَتيه في الطريق. قلت لها يمكنني معرفة أماكن القاهرة وأنا مغمض العينين. واتضح أنني موجود في هذه المدينة، قبل مجيئها الى دنيا البشر.. طفقت تتحدّث عن الأجيال الشعريّة وخصائص جيلها الفني. قلت، يبدو أن كل عام يشهد ولادة جيل جديد.
وسيضيع الباحث في معمعة أجيال مطاطيّة، هلاميّة الملامح والتكوين. هذا اذا كان الابداع بحاجة الى مثل هذا التجييل والتزمين. ثم انتقلنَا الى النصْب الثقافي، فكان الموضوع أكثر ثراء وواقعيّة، حيث أضفتُ الى خبرتها المصريّة، وحدة النَضْب ورحابته على الصعيد العربي.
مقهى (جروبي) الذي أسس أواخر القرن التاسع عشر، بعض من أعرف من المصرييّن، ورثوا الجلوس فيه أبا عن جد، أجيال كان لها مرتع لقاء وحنين.
أنا لم أعرف المقهى، لم أعرف الجلوس في المقهى إلا حين قدمت الى القاهرة. في ذلك الزمان الذي يبدو هنيهة تافهة، لا تستحق الاشارة في ذاكرة الجبال. ويبدو لي من النأي والبعاد كأنه في كوكب آخر غير الأرض الذي نعيش.
* * *
الساعة الثالثة ليلاً، أعود من سهرة مع سي محمد بن عيسى وعبدالعزيز الهنائي. في نادي العاصمة، معظم الحديث كان عن (أصيلة) المدينة الثقافيّة البحريّة التي نأتيها من أماكن مختلفة وكأنما نعود إلى بيتنا الحميم، بن عيسى يتخفّف من أعباء السياسة في واحة الثقافة والفن. وحين نقترب من السياسة يشتعل الخلاف. هذه الليلة كانت السِهام تتطاير شعاعاً بيني وبين صديق الطفولة أبوعمر.
أرى مشهد النيل والقاهرة من ذلك العلوّ الذي يقع فيه النادي. مشهد مدوّخ من فرط سطوته الجماليّة.. هذا الأبد الجارف في أعماق المكان.
أستلقي على الكنَبة التي اشتريتُها قريبا. الديكة بدأ صوتها يسطع في البعيد، الديكة الأكثر إحساساً بالزمن ربما من الفلاسفة. في المنطقة القريبة تتردد أصداء ديكة أخرى، في بولاق الدكرور على الأرجح.
الحنفيّة ترشح بالمياه وأحيانا تعوي كأنما ثمة حيوانات تتقاتل داخلها.
أتمدّد على الكنبة التي تتحوّل سريراً وأدخل في سديم النوم الفاره قبل أن تطرق الأقدام السلالم وألوذ إلى الموسيقى للتخفيف أو نسيان وقعها الثقيل.
* * *
في المعادي بنادي اليخوت، ألتقي بماري تريز عبدالمسيح وصديقتها ماجدة رفاعة، حفيدة رفاعة الطهطاوي. من الجيل الرابع لجدّ التنوير المصري والعربي. كان الموعد على غداء. وكان من المفترض أن يكون عبدالمنعم رمضان، لكنه اعتذر وفق ظروف طارئة.
تذكرت وأنا قادم مع ماري بسيارتها، حين كنت أركب مع صديق دراسة في سيارته المسرعة على نحو صاعق حتى ارتطمت بعمود كهرباء وسط الشارع. رحتُ في غيبوبة خفيفة، استيقظت بعدها على أهل الحي المجاور وقد أحاطوا بالسيارة مع بعض أفراد من الشرطة..
كان الجو على النيل رائعاً.. ثمة نخلة وحيدة على الشاطئ. في الضفّة الأخرى بساتين وقصور لأثرياء ومسؤولين.
ماجدة رفاعة التي تصدر مع محمود أمين العالم مجلة (أفكار) تقول، أنها تتخيّل الجنّة هكذا: نخلة ونيل وشمس غاربة وهدوء.
* * *
الخميس:
أم عبير، القائمة بأعمال المنزل، شخصية فيها من الغرابة والقوة ما يغري بكتابة الكثير. تاريخ من الألم والشقاء والخيانات، أثمر هذا الكائن العجائبي.
يمكن لأم عبير لمن يمتلك القدرة الخارقة على الإصغاء والسماع، أن تستمر في الحديث الى ما لا نهاية. هدير جارف من الكلام لا يتوقف. لو قدر لها أن تدخل مهنة التمثيل لبرعت في الأدوار الطويلة ذات الممثل الواحد ولا تحتاج الى مؤلف، أو في الأدوار الملحميّة، بشكل لا مثيل له في تاريخ هذا الفن. لكن المصير أخذها الى مسار آخر.
وهي على معرفة دقيقة تفوق معرفة الأجهزة بأحياء الدقي والمهندسين والعجوزة بتفاصيلها وبشرها ومشاكلها. مادتها الواقعيّة لا تنضب مقرونة بقدرة التعبير ووسائله.
حين تأتي أحيانا صاعدة سلّم الدور الخامس الذي تصعده أكثر من ست مرات في اليوم رغم عمرها واشتغالها في أكثر من منزل ومكان، والتي حصلت من جرائه على ثروة مهمة تتفوق بها على الفئات الوسطى على جاري الترتيب والتصنيف.
حين تقترب من باب الشقة يسبقها صخب الإرادة، وقد بدأتُ في كتابة أو قراءة، أترجاها أن لا تكلمني حتى أدعوها الى ذلك.
تدخل غاضبة الى المطبخ، تفتح الراديو، وغالباً على مطربها المفضل محمد عبدالمطلب. وتظل هناك تغني وتتحاور مع أشباحها حتى تنتهي فترة الهدنة. عنادها في فرض إرادتها، عرفتُ أنها تمارسه في كل البيوت مهما كان مقامها المدني والعسكري.. رغم هذا العناد وهذه الارادة الفولاذية ، فهي قريبة وجدانيا وحميميّة، تعرف بحنكة المجرّب، الفروق بين البشر ومستوياتهم مع غض النظر عن الوجاهة والوضع المادي.. هكذا عقدت صلات علاقة مع الكثير من الأدباء والصحفيين، يوسف القعيد يستمتع بالحديث معها، وحسين عبدالغني حين قلت لها انه مراسل الجزيرة، قالت ما تهمنيش الجزيرة ولا غيرها هوه راجل طيب وجميل من غير حاجة، وغالبا ما تسألني عن عبدالرحمن الابنودي وفاروق شوشة اللذين تعرفهما عبر التلفزيون.
أما فتحي عبدالله ووحيد طوييلة فكانا عائلتها الحقيقية؛ لاحقا اكتشفت سرّ، كونهم ينحدرون من بلدة واحدة في الريف المصري.
مرّة قلت لها لو قُدَّر لك يا أم عبير، أن قدتِ الجيوش العربيّة عام 48 باتجاه اسرائيل لما كنا نعيش كل هذا الوضع الكارثي الآن.
وحصل أن حاول بعض الصبية، كسر باب الشقة في غيابي.. وما أن عرفت أم عبير، أن هناك خدوشاً في الباب على اثر المحاولة، حتى أزبدت وزحفت على سكان العمارة وخاصة على الحاج صاحب العمارة الذي لا تقع هذه الحوادث في اطار مسؤوليته.. ومن ثم باتجاه عرب لطفي، وصرت في الأيام التالية أعيش أنقاض معركة أم عبير.
الأمس ظلّت تشتم شخصا لا أعرفه، ومع اندفاع سيل الشتائم والقذف، تبينت شتيمة، لم أسمعها من قبل لا في مصر، ولا ما يشبهها في الجزائر والشام ولبنان التي تختزن ترسانة الشتائم الثقيلة. (ابن المهتوكة) ظلّت تكررها في خضمّ المفردات الجارفة الصعبة.
في هذا الصباح، اسمع وقع خَطوها القادم حيث تدخل غاضبة تصرخ: ما تعرفش، الشيخ ياسين قتلوه، فتفتوه، هوه وولاده. لعنة الله على اليهود واللي جابهم.
* * *
أذهب الى مقهى في وسط البلد، مقهى ريش أو ما تبقى منه شكلاً وليس روحه المشعّة في الماضي. ألتقي ببهاء الطود وآخرين، وكنت قبل يومين سألته عن العراقي علي القاسمي الذي وصلني خبر اغتياله في أسبانيا.
وكانت سكرتيرة مجلة (نزوى) قد سألت عن عنوانه البريدي إثر نشر مادة له في المجلة، فجاءها الرد من زوجته او أرملته في هذه الحال، انه اغتيل. وقد انتقلت مع أولادها الى الاسكندرية، فأي شيء يتعلق بالمرحوم يمكن إرساله إلى عنوانها الجديد.
أدخل المقهى أفاجأ ببهاء يجلس مع القتيل العراقي العصيّ على الموت. العراقي والفلسطيني عصيان على الموت والانقراض منذ بابل وحتى ما بعد أمريكا. ولأنني أدمنت معاشرة الموتى ومعايشتهم في أحلام النوم واليقظة وعبر قراءة الأدب الملغي الفواصل والحدود بين مختلف الحيوات والأماكن، فقد أخذنا في الضحك والتهريج. وأخذ القاسمي بزمام الحديث من غير فاصلة اعتراض تبهضه مشقة التوقف والاستراحة. وكأنما بهذا السيل العرم من الكلام أراد إثبات وجوده الذي لا يُدحض، ودحر إشاعة الاغتيال.
* * *
أقرأ للحلاّج :
وأي الأرض تخلو منك حتى
تعالوا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إليك جهراً
وهم لا يبصرون من العماء
وللسيّد المسيح :
»لا تنثروا درركم قدام الخنازير كي لا تدوس عليها ثم تلتفت إليكم وتمزقكم إرباً…«.
وللمولويّه :
الموسيقى هي صرير أبواب الجنة وهي تفتح على مصراعيها.
وأكــتب:
أيتها الأرض، الصّبِخة العاقر.
كيف ينبت في أحشائك عشبٌ، حتى لو زرعتْه بيدها الآلهة؟
أيتها الموسيقى، أيتها الجبال، جمالك الذي لا ينضب.
في الصباحات المفعّمة بسقوط النيازك ونعيق الغربان
والحرارة المحتشدة كنذير بركان.
تطوفين بنا الأزمنة
كإنك الوصيَّ الوحيدَ
على عرش الأبديّة.
* * *
الأحد:
أذهب مع نبيل سليمان، الى مدينة 6 أكتوبر لنحتفل بعيد ميلاد جابر عصفور الستيني، وهو المنزل الذي شيّده الدكتور حديثاً، بذوق عالٍ. ونحن نتجول في ردهاته وزواياه الكثيرة، تستقبلك الكتب بحضورها المهيمن، على كل تلك المنحنيات والزوايا. وثمة حديقة خلفيّة مليئة بأشجار مختلفة. ونخلة وحيدة تهتز قليلا تحت ضوء القمر الذي بدأ يتنسّم أنفاس ربيع قادم.
أحدّق في فضاء المدينة الشاسع غير المكتظ بالعمائر والأبراج والضجيج.. انها واحدة من رئات المدينة المحتقنة بالزحام والغبار.
أفكر أن 6 أكتوبر تقع في عراء الصحراء، لكنها الصحراء الأقل وحشة وقسوة. ولقربها من المدينة الأم تحسّ بذلك الامتداد الحميم.
لفيف من الأصدقاء من أهل الفن والأدب أشعلوا ليل المدينة الهادئ، بالغناء والكلام والنكات. وكان مضيفنا منغمراً بحيويّة في الجو بكل أمواجه المنفلتة من القيود الوظيفية والاجتماعيّة، غير عابئ بالمحطة الستينيّة في خط هذا القطار الساحق الذاهب الى اللاشيء.
ربما كان ينظر صوب المستقبل كخلاص مؤقت من احتدام اللحظة وهوامِّها.
ربما علينا أن نحشد ما نستطيع من وسائل المواجهة للاستبداد الزمني على مشاعرنا وأجسادنا، وننعم بقسط من سلام الروح، حتى ولو كانت له الضربة القاضية في النهاية. لكن قبل تلك الضربة والضربات التي تمهدّ لها، ثمة واحات نخيل خضراء وحدائق خلفيّة نمرح فيها، وتحمل صباحاتُنا رائحةَ عشبها النديّ.
* * *
آخر الليل، أصحو. لا اعرف كم الساعة الآن؟ لا اعتقد أن المؤذن قد أذن، أو أن الديكة قد صدحت بصوتها الذي يحمل دائما صخب القرى البعيدة التي يحتلها عواء الذئب.
ضوء خفيف، يلوح من درفة الباب مع موسيقى توقد حنين مدنٍ وذكريات. غائبة عن السرير تفصلنا المسافات والصدوع..
أستحضر طيف أي امرأة تركتْ نظرتها في أعماقي ذات يوم ممطر، علّه يساعدني على استئناف النوم بعد سماع ديكة الفجر وشدو ريف اليمام.
* * *
ألتقي بعرب، بعد الظهر، تخبرني بأنها كانت في جنازة صديقة لها. ممثلة مسرحيّة تدعى فانيا الكسندريان، كانت تسكن سابقاً في الشقة المقابلة لشقتها مباشرة، أي بجوارنا، ثم انتقلتْ الى مصر الجديدة لتلقى مصرعها مع والدها العجوز وامرأة أخرى، طعناً بالسكين في قلب العمارة التي تسكنها، على يد مهووس ديني.
فنانة من اصل أرمني تموت قتلاً في الأربعين من عمرها.
كم من الوقت يلزمني لتجاوز طيف المرأة الجميلة المغدورة في روض الصبا والأحلام؟