محمد سليم شوشة

رحلة إلى جبال سراييفو

يمثل كتاب رحلة إلى جبال سراييفو للشاعر العماني سيف الرحبي الصادر مؤخرا 2022 عن دار العين بالقاهرة تجربة أدبية في أقصى درجات الخصوصية والتفرد، فهو مبدئيا بين السرد والشعر، ولا يعني هذا السرد الشعري أو الشعر السردي، بل هو بين نصوص من النوعين معا، مشكل من القصائد النثرية وسرد الرحلة المشحون بطاقات شعرية هائلة، وليس من هذا التداخل النوعي وحسب تنبع خصوصيته وتفرده، بل يرجع هذا إلى عدد من العوامل المهمة، فهو خطاب أدبي متنوع المنازع والمشارب ويستجيب لطاقات إنسانية متعددة ومغايرة، وبرغم هذه الكثافة فهو يبدو في صورته الإجمالية خطابا شديد العفوية والبساطة، وهكذا يكون قد حقق معادلة صعبة وهي أنه برغم تراكبه من السرد السيري وسرد الرحلة والاستكشافات والتأملات الشعرية والقصائد النثرية وكذلك الكتابة التاريخية والذكريات، برغم كل هذا يبدو عفويا في أقصى درجات العفوية والسلاسة والتدفق الناعم ويبدو متلاحما في تباعداته ونغماته التي التحمت بما في عقل منشئ الخطاب وروحه من الاتساق والشحنات النفسية والعاطفية المتسقة مع بعضها بنوازع إنسانية خلاقة.

فروح الشاعر تبدو هي المروض لكل هذه النوازع والخواطر المتعددة، ومن نبع السؤال الإنساني واحتكاك روح الشاعر بالمكان وقدحمها ببعض تنطلق شرارات الكتابة وشرارات التكوين الأدبي الذي يبدو أشبه بحال انفجارية تندلع منها حرائق الذاكرة فتنخرط في دوامات من الاشتعال العبثي والعشوائي أحيانا أو المنظمة بنظام خفي أو بأنساق خفية في النظرة الأولى، فنكون في المجمل نتيجة هذا أمام خطاب أدبي جديد تنداح فيه المسافات والحدود بين الأنواع الأدبية وتبدو الكتابة وفقه مثل طائر خرافي يطير لمسافات بعيدة حينا ويسبح في مياه الأنهار والمحيطات ويحلق ويحط ليستريح في أحيان أخرى ولا يميز بين الفضاءات، ويبدو في هدوئه مشغولا وقلقا كما في حركته وتحليقه وفي كل أحواله. وهنا تتماهى الكتابة بوصفها هذا الطائر الخرافي أو الأسطوري تماهيا تاما مع روح الشاعر القلق المتوتر دائما المتقلب بين حالات من الوعي واللاوعي وبين الناثر والشاعر والمؤرخ والصحفي والثائر والمستكشف والطفل الذي يرتد إلى تاريخ بلاده وذكريات الطفولة ومدن عمان القديمة وأفلاجها ونخيلها وحدائقها وعادات أهلها.

في هذا الخطاب الأدبي المغاير والتميز لكتاب سيف الرحبي رحلة إلى جبال سراييفو يبدو المتلقي هو الآخر في رحلة أسطورية يحاول أن ينفلت فيها من قبضة جائحة كورونا يطالع البشر في بلاد البلقان براهنهم وماضيهم القديم والقريب، يتجول في الأماكن يعاين البشر والمرافق والأنهار والأشجار ويعيش الواقع في أحيان ويحط على المادي فيه ويمتص التدفقات البصرية من حوله بالضبط كما قد يرجع إلى الكتب والمراجع والذكريات والتقارير الصحفية. ذلك لأن سيف الرحبي منشئ هذا الخطاب السردي الشعري يبدو غير مستقر على حال ويتنقل دائما بين أشكال من الكتابة، يرصد الواقع ويدون بعض ما قد يمر به أحيانا في رحلته مع أسرته التي يحول فيها ابنيه ناصر وعزان إلى بطلين لهذه الرواية السيرية القائمة على الرحلة، فيكونا معبرين عن اختلاف الأجيال وليستثمرهما بشكل عفوي في مقاربة تباين الأجيال واختلاف النوازع والهوم والانشغالات والمكونات الثقافية، فالأبناء صاروا يغرقون في نواتج التكنولوجيا وتستغرقهم الألعاب الإلكترونية بما قد يتدفق عبرها من العنف دون وعي، وبما يشكل منهم ذواتا مركزية تستشعر نفسها وتتماهى مع الآخر أحيانا وأحيانا أخرى تنفصل عن الواقع بتجلياته المادية والحقيقية، فيعيشون محاصرين أو متشرنقين في هذا الفضاء الوهي أو المصطنع وغير واعين بدرجة كبيرة إلى العمق التاريخي للبشر، وهكذا ربما تكون الأجيال الجديدة غير منشغلة بالتاريخ والأيديولوجيا بكل صورها مثل الأجيال السابقة من الآباء والأجداد.

يقارب سيف الرحبي في رحلته تاريخ الأيديولوجيا السياسية في بلاد البلقان والاتحاد اليوغسلافي وكذلك السوفيتي ويفضي بمواقفه وآرائه أو تصوراته الشخصية ومعلوماته التاريخية بما يشكل ماضيا وحياة كاملة أصبحت مغايرة تماما للصورة الراهنة، فنكون وفق هذا التشكيل أمام صورتين متقابلتين أو على الأقل بينهما تفاوت ضخم بين زمنين وثقافتين أو أجيال، ومن هذه الأبعاد الأيديولوجية ينفلت إلى حدود أرحب عن الأيديولوجيا والأشكال والأنظمة السياسية للدول العربية في الوقت الراهن وهنا تكون المقارنة حتمية أو تحدث بشكل عفوي ولاواعٍ وهكذا تحضر ذكريات كثيرة للشاعر السارد عن رحلات أخرى كثيرة في المغرب والقاهرة ولبنان وسوريا وتونس وغيرها من الدول العربية، ليست مجرد سياحة في المكان بل تأتي عبر أسماء وشخصيات أدبية من أصدقائه ونابعة من مواقف حقيقية وذكريات وحوادث مشحونة بالخبرة ومشحونة بالانحياز والمعرفة، شعراء وأدباء وصحفيين كانت لهم تمرداتهم ومواقفهم وعوالم لم تعد كما كانت، وهكذا يكون في الكتاب نسق حركي بارز يكرس لمعنى الرحلة أو لقيمتها بالتصور الخيالي أو المعنوي، فنكون على هذا النحو لسنا بإزاء نمط واحد من الرحلة التقليدية التي تتهتم بالمكان أو الرحلة القائمة على الحركة الفيزيقية والتجربة المادية والمشاهدة، بل هي كذلك رحلة في الذاكرة ورحلة من الأسئلة والمساءلة للذات وللآخرين من الأصدقاء، رحلة لا يكون فيها الهم مقصورا على تدوين المشاهدات والحصيلة البصرية فقط، بل يكون فيها الارتحال نحو الحقيقة ونحو المعرفة أو على الأقل الرغبة فيها. رحلة نحو المعنى، نحو تقاطعات الفكر والأديان ورحلة الخيبة والإخفاق والفشل الإداري والسياسي أحيانا في بعض الدول المتأزمة مثل لبنان التي يبرز للكاتب موقف خاص تجاهها وانحيازا لها وحبا كبيرا يحفه الأمل في أن يكون لها مخرج.

ربما يكون من المهم في مقاربة هذه التجربة الأدبية المختلفة أن تكون هناك محاولة لتتبع الأنساق القيمية والنفسية التي تنتظم هذه الكتابة، فيمكن أن نقول إن نسق القلق مثلا يصلح لأن يكون مسارا جيدا لاستكشاف جماليات هذا الخطاب الأدبي، فالقلق يبدو حالا ممتدة ومهيمنة على روح الشاعر، القلق من الجائحة وكورونا التي تحصد الأصدقاء وتأتي الأخبار من كل مكان برحيل بعضهم في المنفى أو المهجر أو بلدان أخرى زارها الشاعر من قبل، وكأننا أمام حال من القلق المتجدد لسؤال الموت الأزلى وسقوط الأرواح أو انطفائها مثل انطفاء النجوم التي مازالت تبعث بالضوء إلى الكواكب ويمتد نورها في المسافات برغم الانطفاء من ملايين السنين. هنا تتجلى حال القلق بوصفها خيطا ينتظم وحدات الكتابة وينتظم حركتها وتنقلاتها بين فضاءات مختلفة، قلق يتبلور ويتجلى في السؤال أو بالأحرى في الأسئلة التي غالبا ما لا يكون لها إجابة، أو يتجلى في صورة شعرية جديدة هي بذاتها في تشكلها مرسومة بدافع من طاقة التساؤل وشحنات الدهشة الجديدة والمتجذرة في النفس من قديم الزمن، فيلتحم ويتحد عبر هذه الحالة صورة سيف الرحبي بتجاربه الشعرية القديمة مع سيف الرحبي الواقف في الراهن على أبواب جديدة من الدهشة والتساؤل والاستكشاف والخوف من كوفيد ومن مصير الأبناء والأجيال القادمة والقلق حيال مصائر دول العرب وحضاراتهم وثقافتهم وموقفهم من الآخر، فتنصهر في هذه الكتابة صور متراكمة للذات الأديبة بين الشعر والنثر يكون فيها سيف الرحبي واحدا من الماضي والحاضر؛ يحمل تراكمات الماضي ويعبر عن عمق اللحظة الراهنة وتوترها.

يمتزج في نهر هذه الكتابة وجوف خطابها وعمقه البصريُّ بالتأملي المجرد، فلا تدور الكتابة في دوامات التجريد وفضاءات التأمل المحض، بل تمتزج مع البصري واليومي ومفردات الحياة الهينة من المأكل والمشرب وتفاصيلها الحركية وقت الفسح والتنزه والطعام في المطعم العام بالفندق أو تفاصيل التواصل مع عجوز بوسنية أو متابعة سائحة بولندية شقراء أو الخروج في نزهة إلى النهر أو حديقة أو مزرعة للخيول فتكون خروجا إلى مقبرة جماعية من زمن الحرب الأهلية، وغيرها الكثير من التفاصيل الحياتية العابرة أو الهينة التي تمتزج بالأفكار الكبرى والتأملات حول مصير الذات والبشر والنزعات الفكرية والفلسفية والجمالية الكثيرة التي تهيمن على مساحات كبيرة من فضاء خطاب هذا الكتاب. وكأن هذه الكتابة هي ذاتها مؤشر على جوهر قصيدة النثر لدى سيف الرحبي في هذا الكتاب وغيره، بأن تمزج بين التداولي واليومي والراهن والعابر والبصري مع الفكري والأسطوري والتأملي والتاريخي وبلاغة السؤال الذي يشبه سهاما يصوبها نحو أهداف عدة في غابة الوجود.

تحضر في فضاء الكتاب ومقاربته وتجربته الكتابية صورة للحيوان وصور للأشجار والطبيعة والطقس وتقلب الفصول وتحولات الطبيعة وقسوتها واختلاف الجغرافيا وتقلباتها بين الرحمة والقسوة والجمال والتوحش والعنف أحيانا أو ما يمكن تسميته بديكتاتورية الطبيعة على نحو قريب من تسمية الكتاب ولفظه، بما يوازي ديكتاتورية الأنظمة السياسية أو يشببها أحيانا، واختلاف البشر من منطقة إلى أخرى بين الود والحب والترحيب بالآخرين أو النقيض من ذلك، بين ثقافة السهل وثقافة الجبل وعمران كل منهما وخصائصه وإمكانية انطباع ذلك بدرجة من الدرجات على سلوك الإنسان وثقافته. يتحرك بين الفن والسينما والتعليم وبين البر والبحر والمنخفضات أو المرتفعات في تطواف فكري وبصري يبدو شاملا ومتنوعا بتنوع الحياة وشمولها وهو ما يجعل خطاب كتاب رحلة إلى جبال سراييفو نابضا وحيويا بما يشبه الحياة أو يكاد يطابقها تماما ويكاد لا يغفل عن جانب منها.

والحقيقة أن هذا الكتاب يحتاج إلى دراسة أكثر تفصيلا وبخاصة مع قصائده وسماتها أو خصائصها بين الشكل والمضمون، وكيف أن كثيرا من هذه القصائد هي ابنة الرحلة وابنة القلق الوجودي حيال الموت وحيال الجائحة والخوف من مغادرة الأصدقاء وموتهم مبكرا دون الوفاء بما بينهم من الوعود والآمال، وكيف أن كثيرا من هذه القصائد ذات تشكيل بصري وتصويري مغاير ولها معطياتها أو فلكها الأسطوري المتمركز حول طبيعة الجبل وأسطوريته وقدسيته الدينية القديمة أو الراسخة، فالجبل من أكثر من المكونات والعناصر الطبيعية تقديسا وارتباطا بالأساطير وتاريخ الأديان وأكثرها انغراسا في وجدان الإنسان بهذه الكيفية بحسب طرح كثير من الدارسين مثل ميرسيا إلياد مثلا صاحب العود الأبدي وموسوعة تاريخ الأديان الذي أشار إلى مركزية الجبل في الأساطير الشامانية والأديان المختلفة، فهو حاضر في الأديان الإبراهيمية اليهودية والمسيحية والإسلام عبر جبل موسى وجبل عرفات وغيرهما وكذلك لدى الهنود في الفيدية وكثير من الديانات والأساطير الأخرى كجبال الأوليمب عند اليونانيين، فنجد للجبل حضورا وتواترا خاصا بما يشكل منه نسقا في قصائد هذا الكتاب، كما لو أن الجبل بحضوره المادي في سرد الرحلة ونثرها لم يكن كافيا أو معبرا عن كل الشحنات النفسية والمعرفية للذات حول الجبل ومقدار عمقه أو تغلغله في وجدانها، فكانت القصائد أو النصوص الشعرية مكلمة لهذا العمق الأسطوري والديني ومعبرة عنه، والأمر ذاته مع الغابة التي لها حضورها الكثيف كذلك في قصائد هذا الكتاب ونصوصه الشعرية، والغابة هي الأخرى ذات أبعاد أسطورية مهمة ولها ظلالها الثقيلة أو الكثيفة حضورا، فكانت الإشارة مثلا إلى غابة جلجامش وأنكيدو وغيرها من الغابات الراهنة التي يمكن أن نقول إن الرصد البصري في هذا الكتاب عمل على تشكيلها أو تكوينها لتكون مجالا للغموض والخوف والأسطورة ولتكون عاملا موازيا ومعادلا لغابة النفس وأسئلتها أو غابة الوجود بمخاوفها ووحوشها وجائحتها التي تجثم على صدر البشرية مثل تاريخ الحروب، فتكون للغابة دلالتها المهمة والمركزية في خطاب كتاب سيف الرحبي بما يحفز على دراسة مستقلة لمقاربة حضورها فيه مع الجبل أو بشكل مستقل وهو ما يدل على قدر ثراء هذه التجربة الكتابية وقدر خصوصيتها وقدر ما ترسب فيها من المعارف والمكونات الإنسانية بشكل لاواع أو عفوي.