التقيتُ سيف الرحبي، أوّل مرّة، في مجلّة “اليوم السابع”، ثمّ في مقهى “لابيريغوردين” المطلّ على نهر “السين”.

لا يقيم سيف الرحبي في المدن التي يسافر إليها، بل في الكلمات التي يكتبها، هنا وهناك، حيث يحطّ رحاله. كأنّما هو في ترحاله الدائم وفي انتقاله من بلد إلى آخر، شرقًا وغربًا، يبحث عن تلك الكلمات وحسب.

أمامه البحر في مسقط، والصخرة التي تتوسّط البحر، ينظر إليهما ويصبح في مكان آخر. حين يأتي إلى باريس، نذهب إلى الحدائق الصغيرة التي اتّفقنا على تسميتها “حدائق الهايكو”، وهي، بالفعل، ومضات من قصائد خاطفة وكثيفة، تتوزّع في محيط السان جيرمان، وصولًا إلى حديقة “لوكسمبور”. 

في أحد الأيّام الصافية والمُشمِسة، اتّجهنا نحو الحديقة الملاصقة للكنيسة ووجدنا شخصين من المتسكّعين ظَنَنّا، لأوّل وهلة، أنّهما يتعاركان بينما كانا يلعبان، قبل أن يتمدّدا فوق الأرض المُعشبة بالقرب من منحوتة بيكاسو المُهداة إلى غيّوم أبولينير. 

جَوَّاب آفاق، سيف. يعرف أنّ معنى المكان قد تغيَّر، وأنّ المنفى لم يعد مرتبطًا بالجغرافيا، بل بالواقع. فالواقع هو المنفى وهو السلطة، فضلًا عن نوازع العنف التي لم تتبدّل منذ ألوف السنين، وأصبحت، مع التطوّر التقني والتكنولوجي، أكثر هَولًا وأكثر شراسة.

في كتاب “المدن اللامرئيّة”، يتحدّث الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو عن خمس وخمسين مدينة غير موجودة، يصفها ماركو بولو للإمبراطور قوبلاي خان، ويأخذنا من خلالها إلى أماكن اجترحتها مخيّلة الكاتب. إلى تلك المدن المتخيّلة، يسافر سيف الرحبي أيضًا، ويضيف إليها مُدُنًا لا تحرسها جيوش وأسلحة، وإنّما أسوار الحنان والتوق الدائم إلى المدى الأوسع.

عيسى مخلوف