هذه القصائد الاحدى والثلاثون في ديوان سيف الرحبي الجديد ((جبال))، تشكل، في رأيي، خطوة الانعطافة الصعبة، في مسيرة هذا الشاعر الذي ظل يحاول الامساك بناصية الأرض، أرض وطنه، عبر عقدين من كتابة مختلفة، كتابة خاصة،كلفته متاعب حياة بأسرها.
إلا أن لهذه الانعطافة تمهيداتها، أعني أن سيف الرحبي كان مهتما بالتثبت من مواطئه، قبل اتخاذه الخطوة الحاسمة. ولقد تم التمهيد في ((ذاكرة الشتات)) و((منازل الخطوة الاولى)) و((رجل من الربع الخالي))، مزيجا من شعر وذكريات واستعادة طفولة.
لقد طوَّف الشاعر، طويلا، وبعيدا. عرف حواضر وبلدانا، وتلمس أمكنة، من الهند الى المغرب، وشمالا حتى بحر الشمال، وهاهوذا يعود، في مثل خطفة الساحر، او المسحور، الى مسقط التي لا أشك في انها بدت قصيّة أمام ناظريه، وهو في تلك الشقة الهولندية التي تتسورها الغابة والسواقي، في لاهاي، غير بعيد عن محكمة العدل الدولية حيث يجلس قضاة مترفون الى ملفات متضخمة تنفجر في أماكن بعيدة، وقد تكون البحر الأحمر، او بحر العرب، او المحيط الهندي، ذات المرافئ التي سماها بول نيزان، جحيم البحّارة.
هي أولا، انعطافة، والسبب بسيط جدا، فهي المجموعة الشعرية الأولى للرحبي، المكرّسة، كاملا، لمشاهد بلاده، والتي كتبت كاملة، في بلاده، وفي مسقط تحديداً.
ومن هنا، الحضور الكثيف المخيف للطبيعة، هذا الحضور الذي تحتل الجبال واجهته العريضة، ثم الصحراء، فالبحر:
((رحمة بنا أيتها الجبال، بيقين مرابضك وشعابك، لم تكوني سببا لشقائنا، لكنك من تملكين مفاتيح الرحمة))-ص52.
وهي صعبة، ثانيا، ذلك لأن القصيدة الجديدة في عُمان، نبتت بجذور معلقة في الهواء، لا غائرة في الأرض. كانت القصيدة الجديدة قطيعة كاملة، قصيدة بلا تراث، سواء في الشكل، أو الموضوع، أو زاوية الرؤية.
لكن النص الشعري يظل يبحث عن تأصيل، عن مروي، أو مشاهد، أو ملموس، عن تواتر ما لاسناد.
النص الشعري يظل يبحث عن أرض مشروعة، مشرعة.
وفي الحالة العمانية تعترض البحث صعوبة واضحة. إذ لا ميراث قريبا تستند اليه القصيدة (السياب مثلا بالنسبة لقصيدة العراق)، كما ان التناص مع الآخر ينبغي ان يقل الى حدود معقولة، كي يظهر التمايز.
ما الحل، إذا؟
أزعم أن الحل الصعب الذي اهتدى اليه سيف الرحبي هو في اتخاذ طبيعة وطنه، وإغواء تاريخه، ميراثا:
((لقد ذهبوا بعيدا صوب أنفسهم، وذهبوا في الوحشة، أيام تتلوها أيام، الديار تضمحل في عين عاشقها، والجبال عرين الذكرى، تفقس النسور بيوضها، الأقرب الى ألوان الرمال والصخور، من فرط ما ارتطمت بالأزلية، ليس بيني وبينك ايتها الساحرة الولود، إلا هذه الكثبان من الرمل، وهذه الأزمنة المكدسة أمام بابي، تقولين كلاما لا أفهمه، وتقولين هذيانا أفهمه، بسرعة سقوط النيزك على رأسي- ((هذيان الجبال والسحرة))، ص47-48 ، ((الجبال)).
وانا اعتقد أن في هذا الحل ضمانة دائمة للتأصيل، ولتنوع المشهد والموضوع، وضمانة في الوقت ذاته ازاء الحذلقة التي يمكن أن يسقط فيها النص، حين لا يمسك بقبضة ولو متناثرة من الأرض، الأرض الواهبة، والضرورية للعملية الفنية نفسها.
وبين الواقع وجدل الشعر، يقوم منزل الشاعر، و((تكمن)) منزلته، وبمنأى عن كل المقولات المتصلة بعلائق الفن، يضع العمل الفني ميسمه الساخن، على الأوراق، وربما على الجباه ايضاً.

سعدي يوسف
* من كتاب ((خطوات الكنغر)) آراء ومذكرات، لسعدي يوسف
الصادر عن دار المدى (1997م)