هكذا علّمني الضياءُ الكاذبُ .
أن أبجّل عتَمَةَ المحيطات المدلهمّة.
* * *
ماء ونخيلٌ
ظلامٌ خفيفٌ
أشباح تجفل
وسحرة بدأوا في الطيران
على هيئةِ حدأةٍ أو خفّاش يترنّح بين الصخور.
* * *
ينتحبُ الجبل
من هولِ الفَقْدِ
وربما من أشياءَ
لا يدركها وعي البشر العابرين.
بيني وبينك أيتها الجبال الخوالد
ميثاق ولادةٍ وموت
* * *
صورة “فلليني” على الجدار
الجدار الموجود قبل استواءِ الأرض
وعليه بُنيتْ السجونُ والمصحّات،
بجواره فيل “المقابلة”
وعلى مقربة طالع النخل المفعَمةِ الغدران والصباحات.
إيطاليا، الهند، عُمان، أصقاع تنجبُ أخرى.
ما الذي يلمُّ شتاتَ هذا المشهد
غير خيالك المدبوغ بشموس طالعة.
* * *
النسر المحنّط يرنو إلى مالك الحزين
يفضي إليه بأسرار الوحدة والمسافات
* * *
الزكام يقصف عظامي
زكام الصيف البليد
المكيّفات تنعق مثل بوم الخرائب
أحاول الاستماع إلى نشرة الأخبار.
المشهد على حاله
دمار بشري، زلازل وفيضانات
ممثلون وراقصون ومطربات
“البلاد العربيّة تحتلّ معظمَ أرجاء هذا المشهد الموغل في هلاكه”
أعود إلى الموسيقى
بانتظار اليمامة التي ترفّ كل صباح
في بهو النافذة
لاجئةً من سطوة الهاجرة.
* * *
أسمع الموسيقى
في هذه اللحظة
استمع إلى الموسيقى
كي أهدأ قليلاً من عناء الرحلة الأخيرة
وأتذكرك بصفاءٍ أكبر
أتذكرّ قُبلة البارحة
وسط سديم النوم والنبات المعرّش في المياه
أشجار الموز الغارقة في الطحالب والنعاس
حيث تتهاوى الشُهُب
في ليلٍ غامضٍ
على صفحتِه يتنزّه ماعزُ الجبلِ
متبوعاً بصراخ الرعيان.
* * *
إنني فارغٌ إلا منكِ
وحيد ومغمور بحشودكِ العذْبة
سحائبك التي تمطر صحراءَ ليلي
بالنجوم والضحكات.
* * *
بعد حفْلة الأوبِّرا
مضيتِ وحيدةً
بالخطوة نفسها
مرتديةً لباس البادية،
التي ما زال حليبُ نياقها
يشخب في ضلوعك،
بالخطوة المتأمّلة نفسها
تواريتِ في الظلام.
* * *
نصفكِ العُلويُّ يأسرني..
تجلسين وسط الصَحْبِ
كاهنةً تشرق بالرؤى والمخاوف
تدخِّنين شيشة المقهى
خيال رضابكِ يشفي جروحَ المرضى والتائهين..
من أي الجهات قدمتِ
في هذه الساعة؟
تدلفين الغرفةَ المضاءةَ بجسد النسرِ المحنّط
نصفك الأسفل
أكثر أسراً وإثارة
من آلهةٍ تستحمّ في مصبّات النيل البعيدة.
* * *
حين رأيتكِ لأول مرةٍ
في الزمان الذي أضحى بعيداً
ومتوارياً خلفَ الأكمات
كنتِ المرأةَ الجميلة الواضحة
لكن ما لم يكن واضحاً
ذلك الجانب الغائمُ
المولودُ من رحم الرؤيا
والموصول برعب الأبديّة
* * *
بروميثيوس، سرقَ نار الشعر
ظلَّ ملفوحاً بعذابها السرمدي
أنت سرقت الشعر والحكاية
سرقتِ نار الجمال
خبأتِها في أغوارك القصيّة
* * *
كانت الغابةُ غارقةً في الهدوء والصمت
والليل في منتصفه
ليل الأقدمين البهيج
كان جسدكِ فرح الغابة
المتفجّرة بالهذيانات
* * *
لا شيء يجعل هذه الوحشة مُحتَملة
إلا أنفاسك والموسيقى
الموجة القادمة من عصور الإنسان الأول
تغمر فراشكِ بالزبَدِ والحنين
* * *
السهل المحترق بفعل الهاجرة
الجبال والوديان
شجر الآراك
عرَصَات الحيوان
التي كأنما أتى عليها صاعقٌ ذرِّي
لا بدَّ أن تصلها أحلامُكِ
وتعشب من جديد.
* * *
في المقهى المحاذي
لسكة الحديد النافرةِ
كأعناق أحصنة هرِمة في بيداء
قطارات الهباء
بصفيرها الذي لا يفتأ يلاحقني
منذ الزمان الأول للخليقة
ولا ينضب له معين،
تجلسين كل مساء
في المدينة المثْقَلة
محدِّقةً في الدخان والفراغ.
* * *
اليمامة تداعب جسَدَها
في بهوِ النافذة الفسيح
صهيل أفراسٍ
صفير قطارات قادمة من البعيد.
* * *
كيف اختارتك المواسمُ جميعُها
مواسم القحط والحصاد
لتكوني نجمتها
نجمة الفصول الهاربة باستمرار.
* * *
اليمامة على حدِّ النافذة تغفو
مع شريكها الوهمي
النسر المحنّط في أعلى سلّم الموسيقى
يسرد تاريخ الغضب الإلهيِّ
وانقراض الأكوان.
* * *
أحدّق في الأجيال اللاجئة
من جبروت الظهيرة
وفيالق الإبادة..
في عراق العباسييّن والشعراء
في قرطاجنّة هنيبل
يمن الحميرييّن والأقيال
عُمان اليعاربة والبحار
لا أرى إلا دخاناً يتلاشى
في ممر أحصنةٍ
وزفير طائرات
* * *
أحدّق بوجهي في المرآة
لا أرى إلا غيومكِ
تُحيي أرواحَ قتلى
عبروا ذاتَ يوم مرآةَ ذاك المكان.
* * *
قهوةُ الصباح.
خبر موتٍ أو انتحار صديق
ضاقتْ به الأرجاء الشاسعة
وضاقتْ به الأبجديّة
حيث لانورَ إلا نور العَدَم الشفيف
حيث تسكن السلالةُ
وبزهر الزمهرير
* * *
أباطرة العَدَم في الربع الخالي
المتاخم لأساطير الطوفان
ينزلون من قلاعهم المشيّدة جيداً
يكتسحون المدُن الكبرى
وعلى وجوههم تكشيرة الفارس المغدور.
* * *
العبارةُ تختنقْ
اللغة عقيم
الضفادع ترسل نداءَ استغاثةٍ
في ليل العالم البهيم
والمدُن غارتْ في مواقعها
مرتشفة لعاب كأسها الأخير.
* * *
يرفرف الغرابُ
على عذوق النخلة الخديج
حذاءَ البحر الهادرِ في نوم ابن ماجدِ
وفي أجداث القراصنة.
* * *
كل هذا الغروب المنكسر
على رأسي
كل هذه الطيور الباحثة عن مأوى
كل هذا الشجر المحترق
على سفوح الجبال
كل هذا العمرِ النافل قبل الولادة.
* * *
أحياناً تمنحني الليالي فسحةً بين حشْدِ
الكوابيس المتدافعةِ بالرؤوس والمناكب،
لأناجي طيفَ أمي الذي لا يبدأ في التمتمة
والعتاب، إلا ويتلاشى
كانطفاء نيزكٍ في سماءٍ مقفرة.
* * *
هذه النسمة المفاجئةُ
من أين أتت وغمرتني بحنانها الوارف
من أيِّ سماءٍ بعثتها الآلهةُ
لتحطَّ كسرب يمام برِّي فوق سهل أخضر؟
من أي جناح طائر يعبر المحيط؟
ابتسامتكِ التي تنشر بهجةَ الروح والمغامرة.