امستردام- من ياسين النصير
أين تضع قصيدة الشاعر العماني سيف الرحبي في خريطة الشعر العربي الحديث؟ هل تنتمي الى حداثة الستينيات حيث المزاوجة بين الموروث والمعاصرة احدى اهم سماتها التحديثية المرتبطة بمشكلات اللغة الشعرية واللغة الاجتماعية – السياسية. أم هي قصيدة لما بعد تلك المرحلة، حيث بدأت الاصابع الشعرية تبحث عن أفق آخر للحداثة ينأى بالشعري خارج الايديولوجي، ويوطن الصورة أفعال قول تركيبي تنفرط من بنيته تأثيرات  الحكاية والحدث المعلوم، أو هي قصيدة البلدان- المحيط تلك القصيدة التي أشيعت بألوان الشعر في البلدان المركز، فتميزت بطاقتها التعبيرية الجديدة، محاذية لها، ومتجاورة معها، مع نهوض لقضايا وبنى محلية..
وفي قناعتنا، ان قصيدة سيف الرحبي، هذا كله، من دون أن تكون متعينة في بقعة منه، تقرأها، فتجد صدى الحداثات الثلاث، وتقرأها وتجد ثمة انفرادات، وتقرأها، وتقول ان لبلدان المحيط شعراءها المتميزين.
ومنذ قيام الدولة العربية- الاسلامية، كانت حواضر الشام والعراق ومصر، هي المركز، وبقيت الدول المحيطة، دولا محيطة، تمد بنسفها المركز، وتستشرف منه تطلعاته الجديدة، والى اليوم لا يزال هذا العمق موجودا، وقراءة أولى. نجد ان الشعر العربي الحديث يتغذى بما يفرزه المحيط، ويغتني تجارب وكشوفات وابتكارات: نذكر ما اعطته قصيدة: الفيتوري، وقاسم حداد، ومحمد بنيس، وسيف الرحبي، لشعرية دول المركز وحداثاتها.
وفي ديوان الرحبي الجديد ((جبال)) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر نجد المناخ الشعري المتداخل الفضاءات، فعلى مستوى الفضاء الداخلي، توزعت قصائده بين القصار والمقطعات، والطوال. وهذه البنية المكانية تفصح عن تركيبة شعرية متداخلة الأساليب. لكن ما يجمع معظم القصائد، هو عنواناتها المكانية وهذا اشتقاق فني من المكان البؤرة- جبال-.ولعل اقتران ((جبال)) بالنكرة، يفصح عن توسيع دلالة الاسم فيشمل ايضا، عنوانات ليس أماكن.
والمكان، أحد أهم سمات الحداثة الثالثة، بعدما كان الزمان- بكل اشتقاقاته- هو السمة الغالبة على قصيدة الحداثة الثانية- الستينيات- ولأن الأماكن تحمل التواريخ، شواهد وافعالا، فانها مكنت نفسها من التوالد المستمر، حينما حاول الشاعر أن يعيد تركيبها الذهني من خلال أفعالها…
كانت الأرض الضيقة
وكان نحيب الراحلين
فهشمت أعضائي بين مدن شتى.
ولم تقف عنوانات قصائده المكانية عند ظاهرة التوليد الحدثي لها، أي يصبح المكان هو الفاعل من خلال محمولاته التاريخية والحدثية، وانما حاول الشاعر ان يتمثل بالمكان، واستعان بالتشبيه كي يوسع الدلالة، ولأنه- أي الشاعر- حمّال ضمائر، لم تسعه المدن ولا الاسماء، ولم يقف عند دلالتها المعلنة الهوية، بل تجاوز ذلك الى الغاء الأزمنة المتراكمة على هذه الأمكنة،كي يصل بقصيدة الى وحدة قارة، مفادها أن كل ما مر من تواريخ لم يغير من قسوة الافعال المكانية ومن هويتها.
… لم نعد نشبه هذا البحر
ولا هذه الأرض
يبدو أن قرونا مرت بزواحفها
ونحن نيام.
تبدو قصيدة الحداثة الحديثة – قصيدة المكان- انها قادرة على احتواء كل الأزمنة: الذاتية والجماعية، فهي مركبة حتى ولو كانت مقطعية، ودرامية حتى لو كانت غنائية، وهذه الميزة البنائية لها، اعطتها طاقة الاحتواء  الاستعاري للأشياء وللناس معا. فهو اذ يستعير الطير، أو الغيم، أو الغياب، يشد هذه الاستعارة الى ميادينها المكانية، فلا غربة الا للروح حينما يحلق طائر على لا مكان، ولا جرح ينزف حينما لا يكون له راء. ليس عدمية مكانية هذا الذي ينشده الشاعر، وانما لأن الأفعال ما عادت كافية لاستيعاب المأساة. كنا في قصيدة الستينيات، عندما يقول الشاعر ((أغضب وأثور، وأتمرد))… ويشدها الى افعال وأسماء مثل: الثورة، التحرر، النضال… الايديولوجيا… تمتلئ زهوا بالافعال، ونحاول اقتناص التجربة وتمثلها كما لو كانت نهاية. لكننا اليوم، وبعد الذي مر على بلداننا المأساوية، لم تعد قصيدة الأفعال ثورية، وهذا ما مهد لقصيدة المكان، بما يختزنه من ارث وميثولوجيا، أفعال متراكمة، لأن يستوطنها الشاعر حداثته الجديدة.
لعل قصيدة ((هذيان الجبال والسحرة)) واحدة من القصائد المركبة- الغنائية. التي تعين نقديا قيمة أن يكون المكان لغة لفتية حديثة.
ديوان ((جبال)) لسيف الرحبي، خطوة في ترسيم معالم شعرية الحداثة الثالثة، التي بدأت تغادر المركز لتستقر في البلدان الحواف، بعدما، أصبحت هذه البلدان في موقع الاحتواء الثقافي، وبعدما تخلفت بلدان المركز ((العراق- لبنان- سورية- مصر)) بسبب الأحداث الداخلية والدولية، وضغط اسرائيل… نحن الآن في مطلع جديد لحداثة، بدأت ترسل علاماتها بوضوح. وبأسلوب يمزج بين موروث الحداثتين والمستقبل… لا تنمو الحداثة الا في المنطقة التي جرى عليها التدمير سابقاً.
الحياة 1997