باريس – هاشم صالح
· الى أحمد صالح والحرقة في القلب: ((فواها له بعد البلى يتغرب…))
ليس من السهل التحدث عن الشعر الحديث الآن. فالمجموعات او الدواوين كثيرة جدا، والتشابه بينها كثير الى درجة انه يصعب التمييز بينها. لماذا؟ ليس فقط لانها تعتمد الطريقة النثرية في الكتابة او ما يدعى بـ((قصيدة النثر)) وانما لأسباب أخرى أيضا. أهمها في رأيي انها تعتمد الطريقة نفسها في اجتراح المجازات الشعرية. وبالتالي يلزمنا وقت ليس بالقصير لكي نستطيع أن نميز بينها حقيقة، لكي نفرز الاصوات الشعرية الحقيقية عن الاصوات الاخرى المتطفلة على الشعر. كانت مرحلة ((الرواد)) في الخمسينيات والستينيات التي انعطفت بالشعر العربي عن عموده التقليدي، انعطافة حادة أو مرعبة، أدت الى توليد حساسية جديدة أقرب الى روح التطور ونبض العصور الحديثة. وهنا يكمن نجاحها او حتى معجزتها التي لا تزال مسيطرة علينا حتى الآن، اقول ذلك ونحن نعلم حجم الهزة او الزلزلة التي أحدثتها هذه الثورة في تاريخ الشعر العربي. فقد تحول الشعر الحديث الى قضية تناقش في البيوت ويختلف عليها الاخ مع أخيه، أو الابن مع ابيه. أصبحت قضية عامة أخطر من القضايا السياسية او الدينية. واعتبر الشعر الحديث لدى بعض الاوساط المحافظة كأنه ((رجس من عمل الشيطان)). وكل ذلك بسبب كسر الشكل التقليدي للقصيدة العربية، وهذا الشكل الموروث منذ امرئ القيس وحتى اليوم هذا الشكل الذي قدسه مرور الزمن وتطاول القرون. في الواقع ان الثورة الشعرية الحديثة حملت في طياتها الكثير ومن هنا طابعها التحريري الهائل ونجاحها الذي لم يكن مضمونا سلفا. لقد نجحت لانها جاءت في وقتها: أي بعد طول احتقان وجمود وفجرت في لحظة واحدة او في شكل واحد (هو الشكل الشعري) كل انغلاقات الزمن العربي.
وبما ان هذا الخرق للعمود الشعري، المتواصل منذ الجاهلية وحتى احمد شوقي، احدث صدمة هائلة للوعي العربي، فما كان ممكنا الانتقال منه مباشرة الى قصيدة النثر. بل كان ضروريا المرور بقصيدة التفعيلة التي تحافظ على الحد الادنى من الموسيقى او الايقاع الشعري. بهذا المعنى فان قصيدة التفعيلة تشكل حلا وسطا بين شكلين متطرفين: الشكل التقليدي للقصيدة العربية وشكل قصيدة النثر. وفد فهم ((الرواد)) جيدا ان الاذن العربية المعتادة على الايقاع الضخم للقصيدة الكلاسيكية عاجزة عن الانتقال دفعة واحدة الى قصيدة النثر التي يبدو ايقاعها خافتا او معدوما ((اللهم الا بالنسبة الى الذواقين الذين يعرفون كيف يلتقطون الايقاع الصامت). لهذا السبب سيطرت قصيدة التفعيلة على مرحلة الشعراء الرواد، بل ومر بعضهم بالقصيدة الكلاسيكية قبل ان يتوصل اليها. نعم، كان من المحتم او الاجباري المرور بحل وسط (او بتسوية وسطى) لكي نستطيع ان نساير هذا التطور الهائل الذي حصل خلال ربع قرن فقط.
من هنا الصعوبة التي يلاقيها شعراء جيلنا الحالي في تأكيد أنفسهم او خطهم الشعري بالقياس الى مرحلة الرواد. فأسماء الشعراء المؤسسين للحداثة لا تزال تهيمن على المشهد الشعري العربي حتى الآن. أقول ذلك على الرغم من أن هؤلاء غابوا او توقفوا عن العطاء الشعري منذ فترة طويلة، باستثناء ادونيس الذي لا يزال رازحا حتى الآن (ولكن هل ادونيس الحقيقي الذي فجر الثورة الشعرية العربية في الستينات واعطاها انجيلها الكبير ((اغاني مهيار الدمشقي، لا يزال هو أدونيس الحالي؟ يحق لنا ان نطرح هذا السؤال. ولا نطرحه للتخفيض من قيمة ادونيس او من اجل الانقضاض عليه كما يفعل بعضهم. فلا أحد يستطيع ان يحطم شاعرا انتج ديوان الحداثة العربية: أي الديوان الذي يعادل ((أزهار الشر)) لبودلير بالنسبة للحداثة الفرنسية او العالمية. ولكننا فقط نريد ان نقول بان للشعر موسما او زمنا، وانه يصعب التوصل اليه بعد زوال الموسم والقطاف. اللهم الا اذا اراد الشاعر ان يعيد تكرار فتوحاته الماضية…).
واذن فان جيل الشاعر العماني سيف الرحبي – أي جيلنا نحن- يحق له ان يتسلم دفة القيادة. فقد جاء دوره بعد ان تعب الرواد- او من تبقى منهم- واصبحوا يلهثون وراء امجادهم الغابرة. ولكن، كل المشكلة تكمن هنا. فكيف يمكن تجاوز- أو تخطي- هؤلاء الكبار الذين استطاعوا ان ينسونا حتى شخصيات مهمة مثل احمد شوقي وبدوي الجبل ومحمد مهدي الجواهري؟ ليس من السهل على جيلنا الحالي ان يتجاوز جيل السياب وادونيس ومحمود درويش وخليل حاوي وان يشكل شخصيته الشعرية المتميزة عنهم. هذا تحد كبير يواجهه الشعراء الشبان الذين يكتبون حاليا. ولولا ان ابا تمام يؤكد لي العكس لخشيت ان يكون الرواد استنفدوا كل الامكانيات الشعرية المتوافرة في هذه المرحلة.
يقول ابو تمام:
ولو كان يفنى الشعر افناه ما قرت
حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول اذا انجلت
سحائب منه اعقبت بسحائب.
واذن، فلن يفنى الشعر ولن ينتهي حتى مع الرواد… ولكن بما ان الانتصار الشكلي لقصيدة النثر أصبح مؤكدا الآن، فان التمايز بين المجموعات الشعرية، او بين الشعر واللاشعر سوف يتم على اساس آخر غير الايقاع والموسيقى والقافية. سوف يتم على الاساس الذي قامت عليه الحداثة الشعرية العالمية: أي المجازات اللغوية التي تولد- كما الكهرباء- الشحنة الشعرية.
فالشاعر الحقيقي منذ الآن فصاعدا سوف يحاكم على أساس التالي: هل انتج مجازات جديدة أو مقنعة أم لا؟
كان الناقد الفرنسي جان كوين قد بلور نظرية حول الحداثة الشعرية الفرنسية ولقيت نجاحا كبيرا ابان المرحلة البنيوية (انظر كتابه ((بنية اللغة الشعرية، Structure du Language Poetique باريس 1996) ((النظم)) لعبدالقاهر الجرجاني مع اضافات جديدة بالطبع. تقول هذه النظرية باختصار شديد: الشعر هو خرق لنظام اللغة المعتاد. الشعر اغتصاب اللغة، انتهاك لقوانينها المألوفة. الشعر هو لغة ثانية، ((لغة داخل اللغة)) كما كان يقول بول فاليري. الشعر هو انحراف عن الاستخدام العادي او اليومي للغة، ولكن، ليس كل انحراف شعرا. الاسلوب غلطة، ولكن، ليست كل غلطة اسلوبا. بمعنى آخر لا يكفي ان نقول الليل ابيض، او النهار أسود لكي نصبح شعراء. فهناك انتهاكات للغة تبدو مجانية ولا تؤدي الى نتيجة. وهذا ما نراه لدى الكثيرين من الشعراء الشبان. حيث لا تبدو الانتهاكات- او المجازات- مقنعة. كل شيء يعتمد على السياق الذي يرد فيه هذا الانتهاك: هل يبرره ام لا يبرره. بمعنى آخر فان ما يسبق المجاز- او الضربة الشعرية- وما يلحقها هو الذي يخلع عليها الشعرية أولا. يضاف الى ذلك ان المجاز يؤسس معنى ثانيا غير المعنى الحرفي للغة. وهذا المعنى الثاني هو الذي يشكل لغة داخل اللغة ويقلص من حجم الانتهاك لقانون اللغة. فعندما يقول مالارميه مثلا: السماء ماتت. فانه يرتكب خطيئة لغوية او ينتهك قانون اللغة لان السماء لا تموت. وحدهم الأشخاص يموتون ولكن عندما تؤول العبارة ونعطيها معنى ثانيا فانها تصبح معقولة وتخفف من عبثيتها أو خروجها عن نظام اللغة المعتاد. فقد نتصور انه يقصد بانه لم يعد مؤمنا، أو بان السماء أصبحت فارغة بحسب التصور المادي الحديث… الخ. وفي مكان آخر عند مالارميه العبارة التالية: احتضار أبيض، وهي عبثية او لا مجانية اذا ما اخذناها بالمعنى الحرفي للكلمة. فالاحتضار ليس أبيض ولا اسود او قل ربما كان أسود اكثر مما هو ابيض. في الواقع ان صفة اللون لا تنطبق عليه لانه ليس شيئا ماديا او حسيا كالطاولة او الجدار او غير ذلك. ولكن الشاعر انتهك قانون اللغة ولم يتردد في التحدث عن الاحتضار الابيض. وفي مكان آخر ايضا يتحدث عن الفسق الابيض! وهذا مضاد للحقيقة تماما. فالفسق اسود وليس ابيض… ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن ((الليلة الخضراء))، لرامبو او ((العطر الاسود))… فهذه كلها انتهاكات لقانون اللغة او اغتصاب، ولكن، عن هذا الاغتصاب بالذات تنتج الشرارة الشعرية. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن ابي تمام المشهور بمجازاته المستحيلة:
لا تسقني ماء الملام فانني
صب قد استعذبت ماء بكائي
فقد صدم الذائقة العربية كثيرا في وقته وراحوا يطالبونه بنوع من التهكم والسخرية: اين هو ماء الملام هذا يا ابا تمام. اسقنا منه؟ ارنا اياه!… ولم يفهموا ان الرجل يحاول المستحيل- أي يحاول ان يكتب الشعر بكل اصالة وابتكار. لهذا السبب شكل ابوتمام ((غرابة)) او استثناء في تاريخ الشعر العربي حتى ظهور الشعر الحديث. يقول في مكان آخر وهو يمدح أحدهم:
أيامنا في ظلاله ابدا
فصل ربيع ودهرنا عرس
لا كأناس كانهم صدأ
العيش كأن الدنيا بهم حبس
فالصدأ لا ينطبق على البشر وانما على المعادن كالحديد وسواه. ولكنه يغلف المعادن ويحيط بها من الخارج كما يغلف السجن البشر ويحجزهم. هكذا نجد انه انتهك قانون اللغة- او قانون المعقولية اللغوية- ثم سرعان ما قلص هذا الانتهاك من خلال السياق التالي للبيت. وهنا تكمن العبقرية الشعرية او الضربة الشعرية الناجمة التي لا يستطيعها الا الكبار. فالواقع ان ابا تمام كان يريد ان يعبر عن حالة شخصية، عن كونه ضاق ذرعا بأناس يعيشون حوله ويمنعونه من التنفس والانطلاق. فشبههم بالصدأ الذي يغلف المعادن ويغطي جوهرها. ولكن، أليست هذه هي حالتنا نحن ايضا؟ في كل عصر يوجد اشخاص مملون يزعجونك ويحاصرونك كالصدأ… هنا ينبغي ان نقيم تمييزا بين المجاز المبتكر/ والمجاز المستهلك او الذي استهلك من كثرة الاستخدام. فالاول لا يقدر عليه الا الشعراء الكبار الذين احدثوا خرقا في تاريخ الشعر واضافوا اليه ارضا جديدة. واما الثاني فهو مباح للجميع. وأعتقد ان أول من تحدث عن الصدأ بهذا المعنى في تاريخ الشعر العربي كله هو ابوتمام. ولذلك قالوا عنه، كان يتكئ كثيرا على نفسه، أي يرفض ان يستخدم مصطلحات سواه.
ولكن يبدو أن خرق نظام اللغة ازداد كثيرا في الشعر العالمي الحديث قياسا الى الشعر الكلاسيكي. واذا ما نظرنا الى شعراء الحداثة الفرنسية كبودلير ورامبو ومالارميه وكل من تفرع عنهم لاحقا وجدنا ((الشذوذ)) عاما شاملا. اما عن السورياليين فحدث ولا حرج. فقد وصل الامر باندريه بريتون- زعيمهم- الى حد القول: ((بالنسبة الي فان الصورة (او المجاز) الاكثر قوة هو ذلك الذي يحتوي على اكبر درجة من الاعتباطية. اني لا اخفي ذلك)). وهذه الجملة هي التي اضفت الشرعية على الكتابة الاوتوماتيكية: أي الكتابة التي لا رادع لها ولا وازع، الكتابة التي تعبر عن الوعي الباطن وتحرر من كل القيود… وهكذا راح السورياليون ينتهكون قانون اللغة ويجترحون المجازات الغريبة الشاذة، وهم يعتقدون بذلك انهم يكتبون الشعر. وتابعهم في ذلك الكثير من الشعراء العرب المحدثين. وهكذا اصبحت المجموعات الشعرية تتشابه وتمتلئ بمئات المجازات الغريبة التي لا معنى لها فانقطعت العلاقة كليا بين الشاعر والجمهور.
وليُفهم كلامي جيدا هنا: إني لا أهاجم الحركة السوريالية ولا أعاديها. بل على العكس احترمها واعتبرها لحظة ضرورية من لحظات التاريخ. وفي الحالة العربية الراهنة اعتبرها مرحلة اجبارية مثلها في ذلك مثل العدمية، او الصراخ، او الجنون… السوريالية قامت بوظيفة تحريرية هائلة في وقتها، وحتى الكتابة الاوتوماتيكية كان لها معنى في لحظة ما. لماذا؟ من اجل خض الناس، من اجل هز التقليد، من اجل زلزلة الموروث الثقيل والامتثالية الخانقة، لكن استسهال المجاز او الابداع الشعري هو ما أدين، وليس الابداع بحد ذاته. اني مع كل انواع المجازات المبتكرة بشرط واحد فقط: أن تكون مبررة ومقنعة، وان تضيف لنا مساحة جديدة من الحرية.
الشعر العربي الحديث وجيل الوارثين (2 من 2)
استقراء الشعر في مجازات قصائد لسيف الرحبي
باريس – هاشم صالح
الشاعر العماني سيف الرحبي، هل آن الأوان لتطبيق النظرية النقدية الحديثة عليه، او بالاحرى على ديوانه الاخير ((معجم الجحيم))؟ أعتقد ان الامر ممكن لان الديوان يضم منتخبات واسعة من دواوين الشاعر المتعاقبة، ويعطي بالتالي فكرة عن تطوره الشعري حتى اليوم. سوف أتوقف عند بعض القصائد المتناثرة على مدار الكتاب لفتت انتباهي اكثر من غيرها، من دون أن يعني ذلك أن خياري هو الوحيد، فهو يلزمني وحدي في نهاية المطاف. ولكن، ينبغي أن أبرره بقدر الامكان. أتوقف عند بعض القصائد التي اعتبرها ناجحة، او التي تحتوي على اكبر قدر من الشحنة الشعرية. بالطبع كان يمكن أن أتوقف عند قصائد أخرى لكن ذلك كان سيطيل البرهنة أكثر مما يجب، أو أكثر مما تحتمله هذه الدراسة، لنتوقف أولا عند قصيدة ((من الغرفة الى المقهى)):
((في الصباح عندما استيقظ
يستيقظ العالم في رأسي،
بكائناته وزعيقه الذي يهرس العظام،
أغادر غرفتي التي تشبه كهفا مليئا
بالقتلى
وأدلف المقهى،
أحدق مليا في الفنجان الشبيه بأفعى
تسترخي في ظهيرة صيفية
وأفكر انه فنجاني الأخير في هذه المدينة.
لكن النهار في أوله
وأنا قادم على حروب وقبلات
اكتشفت نكهتها بعد
قرون.
ما الذي يملأ هذه القصة بالشعر؟ ظاهريا تبدو الأشياء عادية. فهو يروي قصة الحياة اليومية بكل ملل وضجر، ومع ذلك فالقصيدة مشحونة بالشعر من اولها الى آخرها. فالعالم الذي يستيقظ في رأس الشاعر والغرفة التي تشبه كهفا مليئا بالقتلى، والفنجان الذي يشبه الأفعى، كلها صور تدل على الملل من الحياة، بل والقرف منها. لكن عبثية المجاز الذي يشبه فنجان القهوة بالأفعى تبدو مبررة ومعقولة اذا ما تذكرنا ان الافعى قد تكون سوداء ايضا. وربما كان الهوس الشعري قد ضخمه (أي الفنجان) لك يبدو في هيئة الافعى الراكدة بلا حراك (سطح الفنجان…) ثم ان الغرفة الفوضوية التي تتناثر في زواياها الثياب والأوساخ تشبه اشلاء القتلى. وهكذا نجد ان عبثية المجاز المستخدم بررت أو قلصها النظم المتكامل والمحكم للقصيدة. ثم يجيء المقطع الاخير لكي يزيد القصيدة براعة، خصوصا بعد استخدام كلمة التنبيه او الاستدراك: لكن النهار في أوله. لكأننا نستيقظ معه بهذه الكلمة.
ثم ان تشبيه الحروب بالقبلات او القبلات بالحروب له معقوليته ايضا لان الحب نوع من أنواع الحب أما الضربة الشعرية القاضية فتجيء في النهاية: اكتشف نكهتها بعد قرون.
هكذا نجد ان القصيدة مكثفة ومتلاحمة- بل ومتراصة منذ البداية حتى النهاية من دون اضافة أي حشو او أي شيء ممل. وعلى الرغم من انها قصيدة نثر الا انها ليست خالية من التفعيلة او القافية:
القتلى،
المقهى،
أفعى…
هذا التكثيف الشعري لمجازات ابداعية مبتكرة هو الذي خلق الجو العام للقصيدة واقنعنا به، واقصد بالجو العام هنا مشهد الاستيقاظ الفوضوي في الصباح لطالب جامعي، او لشاعر، او لمثقف يعيش هامشيا ويخشى حتى ان يستيقظ. لقد عبر سيف الرحبي في هذه القصيدة عن هامشية او حرية كل واحد منا في لحظة من لحظات حياته، وعن الحياة البوهيمية التي مررنا بها جميعا.
لنتوقف الآن عند قصيدة ((سيجارة بحّار مسنّ)) المهداة الى بحار مجهول في العذيبة:
((يجلس على المصطبة أمام بيته المصنوع من سعف النخيل
وعظام الاسماك
يحدّق في جروف بعيدة (بخياله لا بعينيه)
في يده سيجارة واستكانة شاي
وخلف كل نفس أو رشفة
يسحب ارخبيلا جامحا من الجزر
وراء كل جزيرة
سرب لا يفنى من الذكريات
وراء كل نفس
ساحل مهجور تنفق فيه الغربان)).
لنفرز أولا المجازات المبتكرة- أي الابداعية- في هذا المقطع: ارخبيل جامح من الجزر، سرب لا يفنى من الذكريات… عادة ما نتحدث عن سرب الحمام، او سرب الطيور، او قطيع الاغنام، ولكن، سرب الذكريات؟ هنا يوجد خرق لنظام اللغة المعتاد. يوجد اغتصاب او انتهاك اللغة يحدث الشرارة الشعرية ويجعلنا نستمتع بها، ولكن ليس أي انتهاك… كل من يفهم في الشعر، كل من تعود على تذوقه منذ نعومة أظافره يعرف ان عبارة: ((سرب لا يفنى من الذكريات، هي عبارة شعرية خالصة.
انتقل الآن الى قصيدة قصيرة جدا بعنوان:
((اصدقاء)):
((يحجزون المقاعد في الصباح
كي نشرب القهوة وندخن
لا يكاد يسطع الكلام من أفواههم
إلا وتمتلئ الطاولات
بالغياب)).
كيف تمتلئ الطاولات بالغياب؟ هذا هو المجاز المبتكر الذي خلع على القصيدة كلها شحنتها الشعرية. فالطاولات تمتلئ عادة بالطعام او بالشراب او بالاحاديث المسلية، الخ… ولكن ان تمتلئ بالغياب؟ ثم ان اللعب على هذا التناقض بين الامتلاء والغياب هو الذي يساهم ايضا في اطلاق الشرارة الشعرية. ونعلم ان الشعر الحديث منذ الرمزيين وحتى السورياليين لعب كثيرا على التناقض المطلق من اجل توليد الشعر.
كنت أود ان اتوقف عند قصائد أخرى من نوع ((حب))، او ((بيتنا القديم)) او ((اودية وشعاب)) أو ((الراحلون)) او ((سفر)) … الخ. ولكن يكفي ما ضربته هنا من امثلة للدلالة على النظرية الشعرية التي اعتمدتها. بقي أن اقول كلمة أخيرة عن التجربة الشعرية لسيف الرحبي وعلاقتها بهموم جيلنا وعصرنا.
قد يكون من تحصيل الحاصل القول ان سيف الرحبي شاعر مهووس بأمرين أساسيين: السفر والمكان. كان التحليل النفسي قد علّمنا ان كل فنان متماسك الى حد ما لابد وان يكون مهووسا بشيء محدد. ويتجلى هذا الهوس في المجازات الشعرية التي ينحتها او يفترعها والتي تخترق شعره من اوله الى آخره. هكذا كشف الناقد الفرنسي شارك مورون مثلا عن المجازات الهوسية التي تسيطر على شعر بودلير، او رامبو، او مالارميه… بالطبع لا ازعم في هذه الدراسة المختصرة اني قادر على استخلاص المجازات الهوسية- أي الأساسية- التي تسيطر على شعر سيف الرحبي. هذه المجازات التي تقبع خلف السفر والترحال والتسكع من مكان الى مكان. ولكن يخيّل الي ان الشاعر يبحث عن ((اللامكان)) من خلال استنفاده للمكان. في اللامكان يحصل التلاشي والتحرير الكبير. اللامكان يقبع خلف المكان ويتجاوز حدوده القصية. لاريب في ان السفر في المكان يستحوذ على هذا الشعر. ولكن أي سفر، وأي مكان؟ ثم لماذا السفر؟ لماذا لا يظل الشاعر مقيما في أرضه؟ هناك نوعان من السفر، السفر في الداخل والسفر في الخارج، وهما متلازمان. واذا كان السفر الخارجي ((يجدد الأشياء، الا انه يشيخ العلاقة مع الذات)) كما يقول ميشيل فوكو في كتابه ((استخدام المتع والملذات)). السفر مفرح، مريح، بالسفر نهرب من انفسنا وتاريخنا وبيئتنا الاولى وطفولتنا. ولكن بعد ان نعود الى نقطة الانطلاق الأولى، كم نتوهم بأننا شخنا وهرمنا. كم نتمنى لو اننا ما سافرنا ولا رأينا أحدا، ولا تعلقنا. ذلك ان الهروب لم يحل المشكلة وانما أجلها فقط.
وعندما عدنا الى بيتنا القديم وجدنا المشكلة ذاتها تنتظرنا على عتبة الباب: كأننا ما سافرنا ولا رحلنا ولا هاجرنا. حقا لقد شخنا وكبرنا من دون ان تنحل مشكلتنا. لماذا يكبر همّنا كلما كبرنا، ومتى ينزاح هذا الكابوس عن صدورنا؟ هنا يتقاطع الخاص بالعام في شعر سيف الرحبي والشعراء الآخرين الذين يحترقون في أتون المعاناة العربية الحالية. ما هو المكان المفضل للشاعر؟ انه المكان الذي لم يصل اليه بعد. ولكن في كل مكان يجد الشاعر الشيء نفسه: أي الملل والضجر والحياة.. فيهرب الى مكان آخر، وهكذا دواليك الى ما لا نهاية. هكذا هرب سيف الرحبي من عمان الى طنجة الى باريس الى دمشق الى القاهرة الى امستردام… من دون ان يصل الى أي مكان، وان يستقر في أي مكان. وهكذا عاد في نهاية المطاف الى ((مسقط)) رأسه بعد ان جرّب كل الامكنة وسلك كل الدروب. عاد وفي جعبته بعض التجارب الموجعة والقصائد المكثفة التي تشهد عليها.
الشاعر في حال سفر دائم، سفر في الداخل او سفر في الخارج، لا فرق. كلاهما سفر، كلاهما محاولة لاستكشاف شيء جديد او للتخلص من عقدة الذات.. لكن المشكلة هي اننا بعد ان نعود من السفر نعود وذاتنا الخربة (أو القديمة) معنا. وكنا قد توهمنا اثناء السفر اننا خلعناها عن كواهلنا، اننا تجاوزناها، فاذا بها تسبقنا الى عتبة البيت وتقول لنا: هذا أنا، اني هنا لا أتحرك ولا أريم… هذا يعني ان المواجهة مع الذات قبل السفر وبعد السفر هي ذاتها، هذا يعني انها معركة سيزيفية لا تنتهي الا لكي تبدأ من جديد. ليس غريبا، ان تكون اسطورة سيزيف هي احدى أهم الاساطير التي انبنى عليها الشعر العربي الحديث كله. الواقع العربي واقع سيزيفي، واقع لا يؤدي الى أي نتيجة. فكلما توقعنا اننا وصلنا الى نتيجة ما وجدنا اننا نقبض على الماء أو السراب. وكلما تدحرجت الصخرة تدحرجنا معها الى اسفل القعر.
من يستطيع ان يعبر عن الواقع التراجيدي العربي الحالي؟ من يستطيع ان يرتفع الى مستواه او ينخفض الى عمق هاويته؟ هل هو الشاعر؟ هل هو المفكر؟ كلاهما معا، وكل بأسلحته الخاصة. الكتابة الوحيدة المقبولة اليوم هي الكتابة التراجيدية او الفجائعية. نحلم بكتابة ترتفع الى مستوى الفجيعة الحالية او تختصر هذه الفجيعة في حناياها. نحلم بكتابة سوداء، مريرة، على طريقة دوستويفسكي او كافكا او نيتشه. نحلم بكتابة جنونية توازي جنون الواقع العربي او حتى تتفوق عليه. بكتابة تفكك كل ما لم يفكك ليمكننا ان نحلم بانبثاق شمس جديدة.
الحياة 1998