منذر عامر
هل يمكن النظر الى مُفتتح الديوان الذي يسبق قصائد الشاعر أحيانا كتعبير يشي بمضمون هذه القصائد، من حيث الرؤيا والتوجه والآفاق التي يجوبها الشاعر؟ غالبا ما يكون ذلك صحيحا، وهو هنا أصدق ما يكون في ديوان ((يد في آخر العالم)) للشاعر العماني سيف الرحبي، الذي افتتحه بشطر شعري للراحل الكبير بدر شاكر السياب هو ((يا غربة الروح في دنيا من الحجر))، لكأنه يفتقد الأغنية باحثا عن عزاء بلا حدود، وهو يرى الى تشظي الروح في عالم لا يقدم إلا الغربان التي ترهص للخراب.
لا تقترح هذه القصائد صياغة جديدة للعالم، ولا تقدم احتجاجات الرؤى المنفلتة من سياقاتها الاجتماعية والسياسية، وهي لا تهوم سادرة في أحلامها تنشد الآتي المباغت للاسئلة، لكنها معنية بالتباسات الوجود المنثورة في أقاصي العزلات الباذخة المكانة والمقام.
إنها أيضا بكل الهدوء الفاتن والآخاذ، والذي قد يصل حدود حميمية الهمس، تشهر في جانب كبير منها لوعة الماضي الذي تبعثر في الذكريات الموجعة للراحلين إلى الأبدية، الذين مضوا الى  صرخة التراب ترشقهم النجوم بدفء مفتقد في قبورهم الممتدة من النهاية حتى النهاية المؤجلة، لعلها أشعار تقول مرثية كبيرة، ترثي الأحياء والأموات وترثي البهاءات الماضية.
الشاعر العماني سيف الرحبي في ديوانه ((يد في آخر العالم)) يقدم خطابه الشعري الجديد للهاربين من المسرات الماضية إلى ذكرياتها، هؤلاء القابعون في الهاوية الذين زالت عنهم نعمة الحياة، أولئك المجهولون الذين يقدمون حكايتهم عبر الشاعر والذين ((يُرتبون أحلامهم كلما مرت غيمة))، هم القادمون من التذكر الى حكمة الماضي وشرعة التهويم على عتبات الأحلام المموهة ما بين الخديعة واليقين، أولئك هم الباحثون على استحياء عن معنى لوجودهم المبطن بالمغفرة حين كانوا يحوزون نعمة الوجود.
هؤلاء لا يغادرون إلى عدمٍ، فهم منتشرون في السلالة كتعويض عن انحسارهم عن الحياة ذاتها، فهم باقون ((يُصغون لثغاء الماعز/ والطيور المهاجرة التي دمرها التعب))، باقون في سلالة الغيب الذي يلفهم بأسراره، ((يُصغون الى حنينهم/ ينفجر مع البرق صواعق/ تقصفُ الطرقات)).
هؤلاء المائتون القادرون على التحصن بالذكريات، المزدانون بالأساطير والكبرياء الملقاة على حافة حيواتهم، همُ لا يرقبون إلا ماضيهم واشتعالات خلفوها حيثما وطأت أقدامهم.
فمن هم هؤلاء الذين يساورنا اللهاث ونحن نتقصى انسانيتهم الشريدة عبر ايقاع لثمانية عشر نصا طويلة، تقارب نفسا ملحمياً، يستحضر الأرض والآفاق والأبدية والسكينة ناسجا منها جميعا مساحة لغزاة لا هوية لهم، ومعارك وأناشيد تتردد جيلا بعد جيل و((لأيام تعيش خواءها، ومدن تغرق في بحر تفتك به الأساطيل الذرية وزحف الأوبئة المحيق))، يستحضر أيضا مقابر غارقة في الظلام تارة وفي الغسق أخرى.
من هم هؤلاء، وكيف نسميهم ونحن ننتقل من نص إلى آخر، كل نص يكملُ سابقه، بل ويدفع به نحو فضاءات من سكينة الإعتراف بيد مرفوعة في آخر العالم.. يد تبدد صولة الخديعة المنفتحة على وهج الهاوية وتكتب للنهار القادم قائمة بالخسارات المهرقة على أديم الأرض، ذلك الأديم الذي يغطي أجساد الراحلين.
قبل أن نعثر عليهم، وعلى اسم لهم في اللهاث المجاور للأسئلة لنا أن نُحيل القراءة نحو اسم الديوان، في مقاربة تقترح الذهاب بعيدا نحو الهائمين إلى هوياتهم التي تغفلها النصوص، حيث أن الشعر الحقيقي هو الذي لا يقول كل شيء، وليس من شأنه أن يكون كذلك، وإلا لكان أشبه ما يكون بالبيان السياسي.
((يد في آخر العالم)) عنوان ليس على مسافة باهظة من مضمون نصوص سيف الرحبي الشعرية، إنه على تماسٍ تام مع حافة الدنيا، مع النهايات الموغلة في تفاسيرها المروعة للمائتين الذين نصفهم النصوص بأنهم:
((مسوقين بالرغبة / التي لا تشيخ مع الأحقاب/ الموتى الذين لا يتذكرون موتهم/ ويتذكرون الغيمة التي تنزل مع الماء/ على الأسطح والجبال/ وعلى مراوح النخيل)).
لكن ثمة الاقتراح في الذهاب بعيدا نحو الهائمين الى هوياتهم كما أسلفنا، نحو تبديل في كلمات العنوان مع اضافة الـ((التعريف)) ليصبح ((يد في العالم الآخر))، رغم تقليدية وتقريرية التسمية وافتقارها الى الشعرية، إلا ان الاستناد اليها من شأنه أن يفضي نحو لحظة الاضاءة المتوخاة، من وراء البحث عن هؤلاء المائلين قليلا عن زاوية الأفق المضاء بالحياة، المنذروين لغياب هو في حد ذاته اقامة في الروح المتعبة. وانطلاقا من هذه التسمية الجديدة للديوان سنرى أن هؤلاء الراحلين الذين:
((كانوا هناك/ يرتبون الصباحات على عجل/ ويرشقون سماء جارحة/ بنظرات ملؤها التوجس والوحشة/ مشدودين الى مدارات لم يعد لها من حنين)).
هؤلاء القابعون الآن في العالم الآخر يستحقون منا أن نمدّ لهم يداً تمسح غبار الأبدية عن عيونهم، يستحقون منا البكاء والرثاء وكل ما يقيهم غوائل النسيان، هم الذين يعيشون فينا أبداً. ولعل في ذلك ما يجعل الشاعر يرى في مصائرهم، مصيره ذاته، مصير ((أحياء يتذكرون موتهم)) القادم.
هذه اليد التي يباعدها الشاعر عن عالم الحياة لتقارب العالم الآخر، هدفها الكشف عمّا آل اليه الميتون منذ أزمنة سحيقة، والتأمل في الهاوية الفاغرة أبوابها بانتظارنا نحن القادرين الآن على ايصال عزائنا للهابطين إليها قبلنا.
الشاعر سيف الرحبي لا يملك حلولا يقدمها أمام هذا المصير الإنساني، لأنه ليس ثمة من حلول أصلا، لكن ذلك لا يحول دون أن يقوم بمناشدة ما حولهم، تمجيد ذكراهم، فهو مثلا يتوجه نحو حوار داخلي مع الأرض والآفاق، وما يرتأيه من توصيف لهما، فمرة ثمة حوار مع السكينة التي تعاشر الموتى مناشدا إياها:
((امنحي أرواحهم بعض الهدوء/ حُلي رتاج العواصف عنها/ ذكريهم بأطفال غائبين/ ونساء يسْكُن المتاهة)).
وثمة حوار داخلي فادح ومقلق مع الهاوية المستبدة الملفعة بالداكن من الظلام وبالغامض من الهذيان، وحوار داخلي آخر مع الكراهية التي تجوب ((صباحات البشر الكئيبة)). وقد استغرق هذا الحوار الداخلي ربع صفحات الديوان تقريباً.
وعبّر هذا الحوار يمعن الرحبي في وصف حالة الراحلين كأنما هم يرقدون أمامه، لا يطرق باب التفجع والنحيب، لكنه في الوقت ذاته لم يستطع إخفاء كثافة الأسى التي تظلل المشهد الوصفي المؤثر، رغم اتكائه- أي الشاعر- على البساطة والعفوية:
((عُيونهم مغمضة قليلا/ يضطجعون على الخاصرة/ يفتحون جزءا منها/ كأنما ثقلُ التراب على الجسد/ أحزنهم قليلا/ وغياب الأحبة/ يتذكرون ميلادهم/ في صرخة مباغتة/ ولا يفكرون بالقيامة)).
يمضي في الوصف غير ساع الى التقاط حكمة تُزلزل مهابة اليقين، لكنه يمنحهم المكانة ويدل على مواقفهم الانسانية (نكاد من فرط انجرافنا مع حالتهم أن نقول النبيلة):
((الطرقات التي شاخت/ تحت أقدامهم/ مفعمة بروائح الأجساد التي انهكوها كثيرا/ مسوقين برغبة الزوال/ الزوال الذي لم تساومهم عليه الحياة/ التي ساومت في كل شيء)).
ولكن هناك أيضا جانبا آخر في قراءة بعض قصائد ((يد في آخر العالم))، هذا الجانب لا يبدو معنيا باشهار لوعة الماضي، الذي بعثرته المصائر في الذكريات الموجعة للراحلين الى الأبدية، حيث نلمح سياقاً آخر يتمحور حول  التكثيف الرؤيوي للشاعر وليس للسياق الشعري، وهنا يبرز الشاعر الرائي الذي يطلق ((سراح النظر الى آخره))، ومن حقه أن يكون رائيا ما دام هناك ثمة ((عدم يرتبُ المكان والبشر والحيوات المسرفة في الغواية))، يكاد يقول ((قدر)).. يُرتب المكان والبشر والحيوات…)) لكنه يرى عدما ينهب الآدميين والرغائب والغنائم والمسرات، فهل لنا أن نقرأ عن عبء جارح في عبثية الوجود، التي يرتكن اليها الشاعر، تلك العبثية المتجسدة في ((سور الحياة المتهدم)) الذي يراه الشاعر منذ أن أطلق النظر الى آخره، وثمة ((أقوام يزحفون على بطونهم))، وأين بالضبط؟ ((تحت سماء حافية))، وكأن ما قدمه لا يكفي ليضيف صورة أخرى أكثر سوداوية، ((وأراض يسحلها الزلزال))، هنا تبدو المقدمات القاتمة الرؤيا مؤشرا على الدمار القادم، وهي جاءت عبر صور متراكبة، حتى أفضت الى النهايات المرتقبة أمامنا: السور المتهدم، والزاحفون على البطون، والسماء الحافية، والزلزال المدمر .
له إذن أن يذهب في العراء بعيدا، ذاك العراء الذي يفضي الى الضياع، ومن ثم الى العبث واللامعنى، ولكن هل يركن الشاعر بعد الى مثل هذه الغواية، فيصعد منصة الرثاء والعويل، أم ينتحي جانباً ليشهد الخلائق انه لا ينقم على أحد، ولا يكترث لأحد، ولا يرجو شفاعة، بل جاء ليرى أنين السكون في جهات الكون التي تحدها الهاوية؟
انه هذا وذاك معاً يُبشر بـ((صاعقة تمزق مضجع المدن))، وينتظر ((السيكلوب ذي العين الواحدة)) الوحش المخيف في الأساطير اليونانية، ويرى الصاعقة كلما ((نعقت بومة الربيع)). أمام هذه الصور المفجعة التي يراها كيف لا ينتهي الشاعر الى الرثاء الطويل، الى منافحة الأرض والابتهال إليها الرفق في مصائر ضحايا العدم- القدر الذي ((يرتب المكان والبشر))، فليس ثمة ما يملكه الا مثل هذه الصلاة الخفيضة:
((امنحيهم بعض حنانك/ قطرة من بحر الشفقة/ هؤلاء أبناؤك/ قادمون من أرصفة الطوفان/ من أزمنة البغضاء والعشائر)).
يرثي نعم، ولكنه لا يرجو شفاعة، وحين لا تجنح القصيدة نحو الشفاعة يكون الشاعر في عناق مع قصيدته، تكون الذات الشاعرة بمناجاة عن توبة الغواية الواضحة في حضرة الشعر، وتتأهب الخلائق والموجودات للاصغاء لناي يرافق حلم الشاعر سيف الرحبي في قصيدة (لا تنسف العالم لكنها تزيح قليلا صرخة الحنين).
ومثل هذه القصيدة تباعد بينه وبين الضجر من عبثية يعرفها جيدا، وعدم يراه يرتب المكان والبشر والحيوات وهو الرائي، فهل باستطاعته بعد أن يعلن الخلاص؟ ليس تماماً، لأن الشاعر لا يفكر في لحظة ينجو فيها، بل يفكر في لحظة أخرى.
دفاتر – فلسطين – رام الله