– خالد الدهيبة –
* على سبيل التقديم :
أ ) – يبدو من الضروري الانطلاق في هذه الدراسة من إثارة مسالة التجنيس             Génericité » «  حتى يكون القارئ على بينة من الكتاب المدروس ، فلا تثير التنصيصات المستشهد بها في متن البحث – مثلا – أي التباس لديه ، حين يجد بعضها على شكل انتظام نثري ، وبعضها الآخر على صورة اسطر شعرية .
وما نشير إليه أولا هو أن المؤلف لم يعمل على تحديد الجنس الأدبي لكتابه ، لا في صفحة الغلاف الخارجي ولا في صفحة الغلاف الداخلي . فلا يبقى لنا من ثم إلا النص ذاته حيث نجد المساحة الهندسية للكتاب تتنوع ما بين التصفيف النثري في بعض الصفحات والترصيف الشعري في الغالب من صفحات الكتاب ، بما يجعلنا نصنفه ديوانا شعريا بالنظر لهيمنة الحضور الشعري ، سواء في الانتظام السطري أو في التوظيف النوعي للغة ، وبالنظر أيضا للوضع الاعتباري للمؤلف وغلبة صفة الشاعر عليه في المشهد الأدبي العربي ، مما يجعل الشعر نبع الماء الذي يولد الرؤية إلى الذات والعالم في (( مقبرة السلالة )) .
ولا يمنعنا هذا الاستخلاص من القول ، انه في المزاوجة بين المظهرين النثري والشعري تنكسر الحدود الاجناسية ، وينفتح أفق للكتابة تحضر فيه أساليب المقالة والسيرة الذاتية ومذكرات السفر ، ويمتزج التأمل بالرثاء والوصف بهجاء الحضارة والحاضر . وكل هذا مشدود بلحمة موضوعاتية تنصهر فيها جميع هذه الأبعاد حول موضوع الموت .
ب ) – يشكل الموت موضوعا للاشتغال في هذا الديوان حيث يقدم الشاعر على التأمل في عوالمه اعتمادا على آليات خاصة تبلور معرفة بالموت لها سمات مميزة ، تضعنا أمام تاناتولوجيا 2 شعرية أول ما يسمها هو تلقائية التفكير . إذ أنها رد فعل على واقعة الموت. ومن ثم فانه لا يحضر فيها بوصفه موضوعا تأمليا مجردا ، بل باعتباره حدثا موضوعيا تفاعلت معه الذات الشاعرة ، وإذا كان هذا الحدث متعددا في حياة الشاعر فان اللحظة المؤسسة فيه هي موت الأم ، ولذا لم يكن رد الفعل هذا في تلقائيته معنيا باستقصاء الفكرة ومسح كل جوانبها – كما قد يفعل المفكر المقيد بأصول المنهج وضوابط المفاهيم – بل يكتفي الشاعر بإضاءة ما شاء له الألم أن يضيء منها ، ونقل ما تيسر له غنمه من أقداره الخاصة في دروب ترحاله، واحتكاكه بالناس في الحياة والكتب .
ورغم أن التجربة الذاتية والتفاعل الخاص مع الموت قادا الشاعر إلى التفكير فيه بتلقائية ، والنظر إليه بصورة تفلت من كل مرجعية ، فان المنابت التي نسل النص الشعري منها تجد جذورها في القاع الأسطوري والثقافي العربي والإنساني ، كما سينكشف لنا .
1 ) – ذاكرة النص : مشاتل الموت وينابيع السلالة :
إن الحضور الباذخ للموت في هذا الديوان سبقته تمارين وبروفات أولى في كتابات متقدمة للشاعر ، إلا انه يمكن اعتبار قصيدة (( الجندي الذي رأى الطائر في نومه )) من الديوان الذي يحمل العنوان ذاته ،بأنها  تمثل مشتلا لنبات الموت التي ستنمو وتتنوع بعد ذلك في ديوان (( مقبرة السلالة )) الذي جاء تاليا له في الصدور ، ومن بين ما فيها عن الموت ، واحدة من صوره ، هي صورة القتل . حيث يسترجع الشاعر مشهده التدشيني ، مشهد قابيل وهابيل، وهو يتذكر عراك إخوته مع أخواله في صراع سينتهي بموت بعضهم. فالمشهد هو نفسه ، ربما بفضائه وطقسه وأدواته ، أو أنه المشهد المتكرر الذي تتغذى فيه الأحقاب من غزارة الضحية وبذخ الأموات 3 .
ويحضر الموت في غير موضع من هذا الديوان ، إذ يصور الشاعر نظراته إلى أيامه بكونها نظرات موت ، لتعبه من الترحال من شدة ما طوحت به الأمواج ، ولطول انتظاراته وتحديقه في الأفق حتى عششت الغربان في رأسه، ولم تعد حياته إلا تكديسا للأيام في أدراج ومرايا شاخت من كثرة نظره إليها ، نظرات كانت (( نظرات موت وحيرة )) 4 . وهو الذي وصف ، قبل ذلك ، ازدحام الأفكار في رأسه ، ذات صباح، واضطرابها وتدافعها (( كجنائز يحملها الرجال إلى مأواها الأخير )) .
ويصور الشاعر في قصيدة (( ضربة شمس )) التي استهل بها الديوان تأثير الأشعة على تفكيره ، وهو يقلب بين أصابعه عظمة قد تكون لقاطع طريق من القرون الوسطى ، أو لعاشقة من غرناطة أو من بيروت ، أو ربما له  هو  قبل أن يصبح هو . ففعل التخييل الشعري الموصوف هنا بالهذيان ينطلق من الموت المجسد في تلك العظمة .
ويبدو أن حضور الموت إلى ساحة النص الشعري يرتبط – من بين ما يرتبط به- بالافتقاد إلى حد من الروقان والصفاء ، فاثر ضربة الشمس يوازيه في ديوان (( جبال)) اثر (( عوارض تكييف )) الذي يتولد فيه مع النوم غير الكافي أخابيل ضاجة بالموتى 6 .
وسيسمح لنا الشاعر بمكاشفة لحظة الإبداع لديه ، وكأنما هو رسام يعمد إلى أسلوب الباب المفتوح لنطل من خلاله على طريقة اشتغاله ، حينما سيقدم لنا ما كان من المحتمل أن يكتبه وما كان يشعر بضرورة كتابته ، حيث يكون الموت موضوعا حاضرا في الحالتين معا ، فهو يقول :
كنت قبل قليل سأكتب
( … )
عن شرفة في الجحيم
تبدو فيها النجوم أطيافا لموتى قادمين . 7
إلا أن روح الطائر وقراءة البسطامي ومدائح الجسد الجميل هي ما سيبعد احتمال الكتابة بمداد الموت وفاعليته التخييلية ، ويدفع الشاعر إلى الوقوف على طلل الأيام الذاهبة ومدائح الجسد الجميل ، وحتى في هذه اللحظة يطفو الموت من جديد على السطح فيشعر المبدع بضرورة الكتابة عنه بوصفه موضوعا لا أداة للتخييل ، وواقعة وليست استعارة . فهو يراه حتى في ما قد يكون نقيضه ، حيث يقول :
كان على أن اكتب
( … )
عن الموت الذي سيد أبراجه عاليا
من اللمسة الحانية
والرغبة المحتدمة بين عشيقين . 8
وهذا الترابط بين النقيضين : برودة الموت وحرارة الرغبة يظهر كيف أن المعجزة في سحر التخييل الشعري ممكنة في أية لحظة . فالشاعر سيوضح كيف (( تصنع بقفر حديقة )) ليخرج النقيض من ضده ، وتولد الحياة من الموت ، ف (( بعد صرختين أو عشر نوقظ الموتى / من أجداثهم )) 9 .
إن كون قصيدة (( الجندي الذي رأى الطائر في نومه )) – كما أسلفنا القول – المشتل الذي سينبت فسائل الموت في (( مقبرة السلالة )) لا ينفي فكرة تسلل الموت إلى الإبداع الرحبي السابق ، وستظهر لنا الفقرات اللاحقة كيف انه نسيج تشده إلى بعضه البعض حبال وخيوط شتى . وما قلناه عن اختراق الانشغال بالموت لكتابة سيف الشعرية السابقة نقوله عن موضوعة السلالة ، وان لم تكن بقوة الظهور ذاتها التي نجد عليها موضوعة الموت . وهكذا تحضر الموضوعتان حضور اقتران وحضور انفصال ، ويشهد عنوان (( مقبرة السلالة )) على الترابط الضدي في الجمع بينهما والمؤالفة بين الموت والحياة ، فالمقبرة موضع الدفن والإخفاء والغموض وعالم الموت ، في حين أن السلالة حركة جريان كجريان السلان والأودية ، وامتداد نحو الأبدية تدفعه الرغبة ، فهي ما سل من صلب الرجل وترائب المرأة . إنها انتزاع وخروج 10 وسفر صور الشاعر الارتحال القائم فيه من ظلمة الرحم إلى ظلمة القبر حين كتب :
كانت السلالة تقترب
من زهرة المصير.
السلالة المترحلة في الظلام
التي ولدت من غمامة
أو معراج شجرة . ( مقبرة ، ص 17 ) .
ولان السلالة ارتحال دائم، فهي الماضي الذي كان ، والحياة التي ستظل تأتي . ويستطيع الشاعر أن يقرأ هذا الامتداد والتواصل بين الذي كان وانتهى وبين الآتي أبدا حتى في اللوح القابل للمحو : لوح الرمال :
اجلس على الرمل المصبوغ
بدم السلالات
تلك التي مرت من هنا . ( مقبرة ، ص 13 ) .
ويرتخي على بعد استمرارية السلالة في ديوان (( الجندي الذي رأى الطائر )) ظلان متضادان . إذ يحتضنه مع الأول اليقين وصفاء وشيجة الترابط ، ف (( تحت سقف الصباحات )) يحمل الشاعر صراخه من مدينة لأخرى (( مثلما تحمل الأم رضيعها / والعشيرة بنت السلالة )) 11 ، ويتسلط عليه مع الثاني الشكل وكيمياء الاختلاط والتهجين ، كما يتجلى في وصفه لتلك المرأة التي تتواصل مع القادمين إلى (( المدينة المنكوبة )) بأوصاف : (( المغولية العينين / الهجينة بالريبة والسلالة )) 12 .
أما في ديوان (( جبال )) فان بعد الاستمرارية في السلالة يلتصق بصورتين ، أولهما صورة التعاقب التي عبر عنها بملفوظات الرحيل والمرور في بعض الاقتباسات التي سقناها أعلاه من (( مقبرة السلالة )) ، ويعبر عنها هنا بصيغة مباشرة حين يتضرع الشاعر في قصيدة (( هذيان الجبال والسحرة )) إلى الجبال راجيا منها الرحمة ، يتقدم إليها (( بتوسلات السلالة التي / تعاقبت تحت سطوته )) 13 . أو بصيغة السرد كما في (( حكاية هذا الصباح )) التي تعرض مشهد النهاية في ملحمة التعاقب ، المشهد الذي كان فيه :
الراعي ، حفيد الأنبياء :
وآخر صولجان السلالة في تلك الأصقاع
متكئا على ذراعه ، ذاهبا في نومه الأبدي . 14
وأما الصورة الثانية لاستمرارية السلالة فهي الكثرة والتعدد ، سواء وظفت هذه اللفظة بصيغة الإفراد أو بصيغة الجمع. فالمفرد في ذاته يعبر في هذه الحالة عن الكثير لان السلالة دوما فيض وزيادة ، قد ينظر إليهما في سياق الصراع والتنابذ بمنظور سلبي تختزله لفظة (( النغل )) التي تحمل في دلالتها معاني المرض ، وفساد النسب ، والهجانة والتشوه المتخلق عن تزاوج طبيعتين مختلفتين ، وبشاعة الجذب ، والدود ، والجلد المريض . ففي سياق صراعي سيقذف السحرة بهذه اللفظة في وجه الشاعر :
لكنهم  ظلوا يحدقون في جثثي
طوال أزمنة ، ويغرزون طحالبهم العمياء.
وقالوا لك نغل السلالة
وظلوا ينشرون الإشاعات حول قبر جدك . 15
2 ) – الدخول إلى العرين :
لا يأبه سيف الرحبي كثيرا بطرح الأسئلة الكبيرة عن الموت فهو يسلم بأن كل جواب سواء كان فكرا أو خيالا أو حتى استيهامات (( لا يمنح قطرة ماء لكائن تشققت شفتاه من الظمأ )) ، ولن يكون إلا (( محاولة مرتبكة للاقتراب من عرين هذا السر الذي يتدفق حيوية ونظرة أمام شيخوخة الأرض والتاريخ ، النبات والبشر )) ( مقبرة ، ص 8 – 9 ) ولكنه ، مع ذلك ، يقترب منه في خطرات وتأملات وأفكار وخيالات ( تعبر عنها أفعال مثل : خطر له ، أصغي ، أرى ، يتخيل … ) دون أن يدخل المناطق الغامضة والمجردة. والتي إذا ما ولجناها قد لا نجد فيها أثرا لحقيقة نجهلها عن الموت . ولذا فهو يقف عند ما يعرفه ويراه مشخصا – مثلا – في جسد الأم المسجى . فيحدد الموت انطلاقا من ذلك بكونه فقدانا للإحساس، حيث لم تعد الأم تشعر ببرد المكيف ولا بالتهاب في عينيها من اثر أشعة الشمس المتسللة إلى غرفة المستشفى ولا بضوضاء الأطفال ( مقبرة ص 9 ) .
وهو في تأمله يسترجع الفكرة التي تربط بين النوم والموت . ويتجلى هذا الربط على أوضح نحو في نص الإهداء : (( إلى أمي وهي في قبرها تنام )) ، وفي كل ما يتوهمه الشاعر حين كان طفلا يتأمل القبور و (( يتخيل كل من يتمدد داخلها ، وكأنه في قيلولة )) ( مقبرة ، ص 16 ، حيث أن القيلولة مرادفة للنوم . وتردنا فكرة تصور الموت نوما إلى قاع ثقافي كوني نجده مثلا في الأسطورة الإغريقية التي تجعل اله النوم  Hypnosأخا توأما لإله الموت Thanatos ، ومن هنا كان  لفظ المقبرة Cimetière في أصله الإغريقي:
Koi mêtérion  دالا على مكان النوم . وقد نجده في ابسط سلوك كرتق عيني الميت  ، ووضع يديه في كيفية خاصة بما يحيل على وضعية النائم .
ولكن الشاعر بمثل ما يتصور الموت نوما يتصوره دخولا في يقظة – أفكر هنا في الحديث النبوي القائل: (( الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا )) – ، فالموت عنده (( حياة جديدة )) تعوقه صدمة الأم عن الوصول إلى حقيقتها . وهو يبتعد لأجل ذلك عن  مجرد الاقتراب الواصف ، ليرتاد قفار ارض الموت القبور ( الغامضة ) مجيبا عن السؤال : أيهما الأول : الموت أم الحياة ، أو بتعبير نيكوس كازنتزاكي ( ت 1957 ) N. Kazantzakis (( من سبق الآخر : القبر أم الكائن البشري ؟ )) فهو يؤمن بان الموت أو الحياة بالنسبة لكل فرد هما مسالة مفتوحة على الاحتمالات ، غير أن احتمال الموت أقوى وسلطته اكبر فهو يترك مكانه للحياة لتصبح وجودا :
يوم كنا حلما في خيال الأمهات
كان الموت أكثر رحمة
وكانت الحياة . ( مقبرة ، ص 17 ) .
ويتجاوز (( الجبروت المتمادي )) للموت مصائر الأفراد عند الشاعر، فبعد أن كان يعتقد أن البشر وحدهم (( حشرات حائرة محكوم عليها بالموت )) ( مقبرة ، ص 112 ) و (( يشير إلى الجبال الأوابد / بالبقاء الصلب والحتمي / أمام اندحار الكائن )) ( مقبرة ، ص 32 ) ، أصبح يرى كل شيء ذاهبا إلى الغياب ، وان الموت قوة (( تعطي الوجود دلالة العدم القصوى )) ، وأمامها تنهار كل فكرة . ولذلك أمسى يتصور (( حدس الضياع )) أو انتظار تدخل الموت في الوجود ، حاضرا في تفكير الإنسان . فكان مهيئا لموت أمه ، حتى وهي لا زالت غير مشرفة عليه ، بل وابعد ما تكون عنه :
امتلأت بموتك قبل أوانه
تشربته وأنت تتنزهين
في بهو المنزل
وروابي الأفلاج
كان ذلك من شدة خوفي
من فرط ما حدقت في سماء
المغيب . ( مقبرة ، ص 14 – 15 ) .
أما عند (( شحوب المصير )) ، فيكون انتظار الموت مفهوما ، ولذلك يستيقظ الشاعر في منتصف الليل وهو يسمع داليا تهذي من شدة تفكيرها في وضع الأم :
صوتها يرتفع في هستيريا
كأنها تحدس بأمر ما
كان طائرا رحيلك
يصدح على الأبواب . ( مقبرة ، ص 19 ) .
ويتحول (( حدس الضياع )) إلى إحساس بالحضور الدائم للموت يخفف من الشعور باحتقان القيامة من حولنا ، وانطفاء الأشياء الجميلة حين تتدخل المشيئة حتى :
تجعل الطريق اقل هولا
وتجعلنا نفكر في نعش لا مرئي
يحمله الدهر . ( مقبرة ، ص 16 ) .
ومع التسليم بالحضور  الدائم للموت ، شعور بأنه يأخذ الأشياء الجميلة ويذهب بها ليس بدافع ماكر ، ف (( يعتام الكرام )) على حد قول طرفة بن العبد ( ت 569 م ) 16 ، أو يختار (( حبات القلوب )) بتعبير ابن الرومي ( ت 283 ه )  17 ، بل لان جمال هذه الأشياء قد لا يتناسب في النهاية إلا مع برواز الموت . وكأن ارتكانها في الغياب يحفظ الجمال في الذكرى ، أو أن الجميل لا يمكن أن يكون إلا محدودا ومؤقتا ، ف (( الجمال على موعد مع مغيبه )) . أو بتعبير جورج شحادة ( ت 1989 ) (( لا شيء نحبه إلا ويفر كالظل )) . وربما يكون هذا فاتحة لتلمس الجمال الكائن في الموت نفسه . فالموج الذي يجيء ويروح يكتب جمل المحو التي تجدد شباب الموت ، وتجعله أليفا وعذبا ، ذلك أن موت الموجة ليس حقيقة متعبة ، بل هو القوة القادرة على جذب الإحساس وتوليد الافتتان والتي نسميها قوة السحر ، انه الحقيقة التي نقبل عليها بكثير من الاستمتاع وندفنها حيث تنام كل الطفولات الميتة ، وحيث نقدس كل عمر قصير وتجربة مفرومة .
بحث متكتم عن وجه آخر للموت ، وأسلوب تزييني لترويض (( الثور الهائج)) – تحضرني هنا عبارة (( عصفور الألم الكبير )) الدالة على الموت عند جورج شحادة – الذي يذكره الشاعر في حديثه عن الألم . وأي ألم  اكبر من ألم  الموت ؟  ومن  غيره (( يطعن الهواء والبشر )) ويدور (( في حجرات  النوم / متنزها بين مخلوقاته الليلية )) ( مقبرة ، ص 50 ) ، وتتكشف مقصدية التزيين في جعل الألم (( يسقي إنسانيتنا / بمياه متجددة )) ووصف خرجاته القاتلة ب (( نزهة الثور الهائج / نزهة الألم الوحشي )) (مقبرة، ص51 ).
ويذهب الشاعر بعيدا في امتداح الموت ، وهو يتحدث عن المقبرة . فرغم تواجده بين القبور وفي أحضان الموتى وعالمهم الذي يملؤه الأحياء بحكايات الأشباح والسحرة ، فانه لا يجد مانعا من القول أن الموت ربما كان (( يمنح بعدا حالما )) ( مقبرة ، ص 7 ) بما يعنيه الحلم من تبديد للخوف من منظر القبور ، وانعتاق من بشاعة الحياة . وأبعد  من هذا يغدو الموت عنده الداء والدواء ، ف (( من لا يستطيع احتمال الغياب ، لا يستطيع الحياة )) ( مقبرة ، ص 102 ) ، فيرغب في الموت هربا من رعب الفقدان الذي يسببه الموت نفسه ، وتتوسع هذه الرؤية التجميلية حتى يصبح الموت معادلا للصفاء ، مثلما يتضح في شكوى الصحراء من عدوانية البشر واستباحتهم لأسرارها بإنجيل العلم :
ما أجملكم أمواتا
أيها البشر
كي تعودوا إلى صفائكم
الذي فقدتموه في غبار الحروب . ( مقبرة ، ص 81 ) .
وبعد أن نبش الشاعر درر الجمال والصفاء في دفائن الموت وصيره الزيت الذي يمسح الصدأ عن إنسانيتنا ، لم يبق له إلا الحب – تلك القوة القادرة على استلال (( سمكة الألم المعتوهة )) من الرأس ، ولكن العاجزة أمام (( الثور الهائج )) – ليجمع بينه وبين الموت ويجعله (( توأمه الحنون / حافز سره العنيف )) ( مقبرة ، ص 74 ) . ولنا أن نفهم كيف للموت أن يفتح كنز أسرار الحب وان يؤجج النار في وجاقه ، انطلاقا من تفسير سيف الرحبي الشعري لتجربته الحياتية ، إذ يتخذ الرحيل والبعاد اختيارا للتعبير عن الحب ، ذلك أن (( المحب من فرط حبه ، وخوفه وارتباكه لا يرى حلا إلا بالانفصال عمن يحب كي يمتلئ به أكثر )) ( مقبرة ، ص 28 ) وليضحى التنائي  بديلا عن التداني . وهو ما يصر الشاعر على تأكيده في ديوان (( الجندي الذي رأى الطائر في نومه )) حينما أوضح أن ترويض الغياب لا يتم إلا عبر اجتراحه والإقامة فيه ، وانه ينفصل عمن يحب وهو في ذروة هذا الحب (( 18. والذهاب بهذه الفكرة إلى أقصاها سيجعل الرحيل في الموت يجد نوعا من التسويغ ، لأنه يثبت صورة واحدة وأخيرة هي الأجمل لمن نحب . ولن يخدش هذا التسويغ عند الشاعر إلا المفارقة التي يكشف عنها فعل الدفن. فكيف )) نهيل التراب والحجارة على جسد من نحب ؟ )) ( مقبرة ، ص 8 ) .
هكذا تجمع تنالوجيا سيف الرحبي بين رؤية وجه الموت المرعب وبين امتداح فضائله . امتداح يبرره موقفه الرافض للعالم رفضا يوسع له المجال ليغدق بسخاء أهاجيه المرة لهذا الوجود ، بسبب من نفوره وحزنه . فهو حزين على رحيل الأم التي سيغزوه بعد موتها الشعور بأنه مرمي على قارعة العالم :
حيث لا موت ولا حياة
حيث الكراهية دليل الأعمى
نحو الجحيم . ( مقبرة ، ص 26 ) .
وحزين على خيبات تاريخ يكثر فيه الباكون على (( فسحة البحر المحاصر )) وعلى (( الأرض التي يجثم على أديمها البرابرة )) ، ليستكمل بذلك هجاءه في (( جبال )) للذات الجماعية . التي لم يبق لها أجداد ولا ماض ولا آلهة ، وأصبحت (( تتسلق ظلالها كما تتسلق العظايا الجدران )) 19 .
وهو رافض للفضاعات التي تقام (( تحت المعطف الأنيق للحضارة )) في عالم الاستهلاك والخراب الذي تحمله التكنولوجيا وإنجيل العلم . يتألم بسبب ذلك للأمهات والشعوب التي تباد تحت (( جبال الحديد )) ومن (( الضرع المعدني )) . ليؤكد الشاعر بذلك كيف (( تسيء الآلة للمكتسب الإنساني كله )) مثلما عبر ر . م ريلكه ( ت 1926 ) R . M . Rilke وهو ينتقد الحضارة التكنولوجية في (( سونيتات إلى أرفيوس )) 20 .
هكذا راض الشاعر الثور الهائج ليخرج سالما من العرين .
3 ) – صنافة المقابر وهندسة العالم الآخر :
تغتني (( مقبرة السلالة )) بسجل متنوع من المقابر يؤكد أسلوب تقديم سيف الرحبي لها الفكرة التي تعتبر المقابر مساكن الأموات Necropole الوجه الآخر للمدن والقرى مساكن الأحياء  Metropole ، فهي تعكس بيئتها الطبيعية والعمرانية ، وتعبر عن خريطتها الطبقية ، وعن موقع الموت والموتى في حياتها الاجتماعية 21 . ويستجيب سجل المقابر عند الشاعر إلى الصنافة Taxonomie الآتية :
* المقبرة المدنسة :
مقبرة ( الجيلي ) هي رأس اللائحة في سجل المقابر بالديوان يستحضرها الشاعر مسترجعا معها مرحلة الصبا ، ليتوضح لنا ما ذهب إليه ب . سانسو P. Sansot من انه (( تتجذر الطفولة المفقودة حيث يقام القبر )) 22 . إذ يستذكر الشاعر مشهد المرور الليلي بطريق المقبرة بصحبة أمه ، وهنا تظهر مفارقات عديدة منها مفارقة خوف الراشد وثبات الطفل ، ففي التقابل العمري ما بين طفولة الابن ورشد الأم يكون الخوف من نصيبها في حين تتحرك القوة في الصغير ، فيمثل دور الكذب  المبطل للهلع لتبديد رهبة الأم ، متظاهرا بالتماسك ومدعيا بان ما يحفظه من القران كفيل بحمايتها ، وهنا وجه آخر للمفارقة تنقلب فيه الأدوار ليصبح الطفل مهدئا والراشد مقصورا بالتهدئة .
ويفتتح الشاعر الكلام عن هذه المقبرة بالحديث السالب ، إذ تقدم إلينا بما ليسته وبما يعطيها تميزها . أولا من حيث الموقع ، فهي على خلاف بقية المقابر توجد وسط القرية لا على تخومها ، وقد لاحظ ج . فوارستيي J . Fourastié بأنه حيث توجد المقبرة وسط القرية ، فان الموت وطقوسه يوجدان في قلب الحياة مثلما سيتكشف لنا . كما أن هذه المقبرة تبدو ، ثانيا ، في وضعية وظيفية مغايرة ، فلا حديث عنها بوصفها مجالا لزيارة الموتى ، بل باعتبارها فضاء للعب الأطفال ، يركبون القبور كما تركب الدواب ، يركلونها وهم يمسكون بالشاهدة ، كأنهم يمضون في الطريق المألوف للمارة والسابلة . وليس الصغار وحدهم من يحيدون بالمقبرة عن وظائفها الاستعمالية المعروفة ، فهم إذا كانوا سيدركون بعد تخطيهم براءة الحداثة ، ما في لعبهم من تدنيس لحرمة الموتى ، فيتركوا عادتهم المشينة ( مقبرة ، ص 16 ) ، فان الكبار لم يفعلوا شيئا لتبديد المناخ الكابوسي الذي كانت تظهر عليه المقبرة ، إذ كانت ترمي الجيف والجلود المسلوخة على المقابر. وهذا السلوك اللامبالي سيجعل الطفل يفكر في نومه في قيامة الأموات للاحتجاج على (( ما آلت إليه الأمور ، التي لو كانت مستقيمة ، لكانت كرامة الموتى ومن كرامة الأحياء )) ( مقبرة ، ص 18 ) .إنها القيامة التي تذكرنا برقصة الأموات Danse macabre 24 ، المصورة في الرسومات التي ستظهر في أوروبا بعد القرن 15 م حيث سيهاجم الموتى الأحياء بأدوات الحفارين فتتناثر قطع اللحم والهامات .
* مقبرة الموتى العراة :
تقع هذه المقبرة في ( الشعاشع ) إحدى مناطق قرية ( سرور ) مسقط رأس الشاعر ، في الحواف القاحلة لبقعة خضراء وفي سرة الجبل ، مما يجعلها هدفا للشعاب المنحدرة من الأعالي ويمنحها ، بالتالي ، ما يولد تفردها وهو كونها مقبرة الموتى العراة  فالأجداث مكشوفة من غير سقف أو شاهدة وبادية الجماجم والعظام والأكفان . وبذا تفقد هذه المقبرة ما هو في صلب حقيقتها ووظيفتها ، وهو التخلص من الجثامين الذي كان هاجس البشرية منذ القدم ، سواء بالدفن أو الحرق أو حتى الأكل . فالدفن يفقد هنا معناه أي الإخفاء والستر ، وهو المعنى ذاته الموجود في الكفن أي المواراة والتغطية ، وفي الضرح أي الإبعاد والتنحية 25 .
وعلى الرغم من عري الأموات ، ومع أن هذه المقبرة مثل سابقتها فضاء صيد للطيور الجارحة ، تطارد فيه فرائسها ، فان الشاعر يرى بان صورة الموتى بملامحهم المعبرة ، سواء عن ضحك أو عن حزن ، تقلل من هيبة الموت الخرافية . ( مقبرة ، ص 34 ) . فلا خوف حيث العري ولا رعب إلا حيث الأشياء محجوبة .
* مقبرة الموتى الواقفين :
إنها المقبرة الواقعة خلف الجبل الأخضر في منطقة من العراء بين الشموس المحرقة . يدفن فيها الموتى واقفين ، مما يجعل الشاعر يتساءل إن كان في ذلك شكلا من العقاب الضمني عن آثام ارتكبت في الحياة . وهذا يفترض أن كل الموتى فيها آثمون . فقد يكون لوضعية الوقوف هاته مداخل أخرى للتفسير  أو التأويل ، منها إرجاع الوقوف إلى واقعة اجتماعية أريد منه  فيها  التأكيد على ميتة الإباء والأنفة ، وغير ذلك من مضامين التفسير الذي يجد  مرجعيته في السلوك الجمعي ، بالنظر إلى أن وضعية الوقوف مشتركة بين كل القبور في هذه المقبرة . ويستبعد بذلك التفسير المنطلق من حالات فردية ، كالرغبة في تضخيم الميت لذاته ، والتي عبر عنها ، مثلا ، ذلك الإقطاعي الذي أوصى بأن  يدفن واقفا حتى لا يمشي الفلاحون على بطنه 26 .
* المقابر الباذخة :
على خلاف المقابر السابقة ، بمشاهدها الكابوسية ، وبيئتها الطبيعية القاحلة ومنظر الفقر والتقشف البادي عليها ، نجد مقابر الآخر في الغرب غنية بخضرتها وهدوئها ، كأنما هي بساتين أو حدائق مبنية على تنظيم واصطفاء ، مثل مقبرة ( بير لاشيز ) بباريس مرقد أدباء فرنسا ، فالموتى هنا يخلدون لراحة الموت وليس لديهم أي منظر يوحي باستعدادهم للعودة ، فلا هم واقفون ولا هم ظاهرون على سطح الأرض 27.
وليس جمال المقبرة عند الشاعر دليل ، مع ذلك ، على راحة الموتى فقد توجد الراحة في ما هو (( أكثر غيبية وتعقيدا )) ( مقبرة ، ص 35 ) ، لا في أثاث الجنائز وأمتعة القبور ومواكب الدفن أو مراسيم الحداد .
4 ) – سجل الموت وألوانه :
تميز العربية بين الميت : أي من زالت عنه الحياة ، والمائت : أي من قارب أن يموت . كما تميز بين ألوان من الموت ، فالموت الأحمر هو الموت قتلا ، والموت الأبيض هو الموت الطبيعي أو الفجائي ، والموت الأسود هو الموت خنقا . ويقدم سيف الرحبي في (( مقربة السلالة )) سيرة لموتى ولمائتين ولضروب من الموت .
* سيرة الموتى :
يتقدم الموت في سيرة الموتى Necrologie في ألوان مختلفة ، وعبر سجل حافل جعل الشاعر يخشى فتح دفاتره ، حتى لا يفاجأ بخبر موت من يريد الاتصال به . وأول من يطالعنا في هذا السجل أم الشاعر التي شكل موتها خسارة دفعته للتمزق بنصال الفقدان الأبدي واليتم ، والى الشعور بالذنب لرحيله المبكر عن حضنها ، وصدمة ستشل تفكيره وتعجزه عن البكاء ، فيذهب إلى البحر ليختلي بذاته ويضع يده هناك لا  على ألمه فحسب ، بل على جروح التاريخ والآم البشر ، دون أن ينخرط في أي من مراسم الحداد الجماعية  ، فالآخرون من عاداتهم النسيان ، وما سيفتقدونه في الأم هو عطاياها – وهي رمز العطاء المطلق – لا وجودها في ذاته .وإن النسيان لهو الحكم النهائي على الميت بالموت ، فحتى (( التماثيل تموت حين لا يراها احد )) كما قال يانيس ريتسوس ( ت 1990 ) G . Ritsos معتبرا لأجل ذلك بأن  الأسلم هو أن نحتفظ بالموتى في دواخلنا ، فهم لا يبالون بالنذور .
ويكتب الشاعر مرثية لعبد الله بن احمد الحسيني استعادة للطفولة، وتقديرا لفنان كان غريبا بين قومه، ونذر إبداعه للمستقبل ( مقبرة، ص 64 ) . رغم أن الشاعر لا يخدره وهم الخلود حتى عبر الإبداع نفسه ، فالموت يظل فوق كل قوة مهما كانت ، يسلب النفس قوة الشغب الذي قد تسخر به من كل شيء ، وتتباهى به على الموت ذاته مثلما فعل ذاك الذي غمر حياته بالسريالية ، بصورة من الإمعان في الغرابة ، وحتى في التهريج ، ولم يبق منه الآن إلا لوحات حمل توقيع سالفادور دالي ( ت 1989 ) S . Dali ، ويمكن أن نضع في هذه الخانة من السجل ف . نيتشه ( ت 1900 ) F . Nietzsche الذي استضافه الشاعر في قصيدته (( واقعية )) والتي يبرز فيها كيف تنهار إرادة القوة والسخرية المريرة ، وفكرة عبث الوجود تحت سياط الموت . ( مقبرة ، ص96 ) .
وربما يسجل في الحيز نفسه عينة خاصة اختارت لموتها لونا غامضا ، تنضم إلى طبقة الموتى الذين يجمعون بين سحري الإبداع والانتحار . وهي العينة التي تولد عند الشاعر نشاط التأمل والمتعة الذهنية ، بخلاف نموذج الأم أو الفرد المرتبط بالمحيط البشري الواقعي الذي تضطرب عند موته أو تذكره العاطفة . هكذا نجد الشاعر يدخل في قصيدة (( هواء عذب )) قراءة الشعراء المنتحرين ضمن الأشياء الجميلة التي يستمتع بها ويستجلب الراحة إلى نفسه . فيشير إلى خليل حاوي ( ت 1982 ) وجورج تراكل ( ت 1914 ) G . Trakl ، وديك  الجن ( ت 235 ه ) ، وماياكوفسكي ( ت 1930 ) V . Maïakovski ( مقبرة ، ص 99 ) . إلا أن لحظة تنفيذ قرار الانتحار هي ما يؤرق فكره ، وهو الذي صور لحظات الاحتضار في الموت الأبيض ، وما يصاحبها من فقدان للذاكرة ، ودخول في الغيبوبة . كما تعيده هذه الطبقة من الموتى إلى بلاغة الخيرات ونعم الموت الغامضة ، ليكبر في هؤلاء المنتحرين فشلا يؤسس لانتصار خال من الزهو ، وقوة قادرة على بعثرة وليمة السراب التي اسمها الحياة .
وإذا كان المنتحرون قد أضافوا بإرادتهم لونا مميزا هو لون بين بين ، في جمعه بين الأحمر والأسود ، فان آخرين سيضيفون ، بغير إرادتهم ، إلى لوحة الموت لونا آخر يمتزج فيه سواد الخنق بحمرة القتل ببياض الموت المفاجئ ، مثل موت رشيد صباغي صديق الشاعر بعد أن أسقطته الدوخة تحت عجلات قطار الأنفاق ، وموت الصبية الخرساء في البحر ( مقبرة ، ص 35 – 36 ) ، وغيرهما ممن يجمل الشاعر الحديث عنهم في قوله :
كل هؤلاء الغرقى في الكهوف
القتلى في ساحة الحرب
الذين فتكت بهم الأوبئة. ( مقبرة ، ص 31 ) .
فالميتات البشعة ليست فقط نتيجة العنف والفضاعات التي تصنعها المفردات التي يختارها سادة الحروب في خطبهم ، اعني قاذفات ب 52 ، وصواريخ توماهوك ، وبقية ألفاظ هذه اللغة التي تملأ العالم أغلاطا إملائية قاتلة ، بل من وحشيات عديدة مثل جنون حركة السير أو غيرها مما لا نفكر فيه عميقا ، فليس الجنرالات وحدهم من يبرمون العقود مع الموت .
* سيرة المائتين ، وأمثولة الأسماك والفيلة .
يفتح الشاعر صفحة العجزة وهم في الشرفة المطلة على الموت عبر نصين يحملان العنوان المكرر (( شيخوخة )) ، فيرسم في الأول طريق رجل عجوز لن يأخذه إلا إلى الموت . طريق مفروش بالعجز عن الحركة وملبد بالوحدة والعزلة (مقبرة ، ص54 ) لينتقل في النص الثاني إلى امرأة مسنة تسكن غير بعيد عن الموت ، تضعف صلتها بالعالم بضعف بصرها وعيشها في الماضي على الذكرى والحنين . (مقبرة ، ص 66 ) .
يمثل هذان العجوزان المائتين الذين يعيشون بسبب تقدم أعمارهم على هامش الحياة ، حيث يتحول الشيوخ – بتعبير جان بودريار –  إلى (( عالم ثالث )) وتصبح الشيخوخة عتبة للعالم الآخر ، تتحول معها الحياة مشقة والموت في حال مجيئها صفقة مربحة . فالعجز يظل ميسم وضعية كل مائت ، سواء توضح تقدمه في السن ، أم لم يتوضح . كالفيلسوف – وهو عنوان إحدى قصائد الديوان – على سرير احتضاره يرسل نظرات متعبة من نافذة معتمة على الشجرة المورقة يحيي تحية الوداع الكون المستعصي على التفسير ، معترفا بعجزه عن فك ألغازه . ( مقبرة ، ص 95 )
غير أن (( الخيال المأخوذ بصدمة الغياب  )) ، والذي يفكر في الموت باستمرار، فيراه نازلا مقيما ، كما يراه آتيا متقدما ، ويبصره في كل شيء ، في الجلبة التي تبيد السمع والحواس ( مقبرة ، ص 37 ) ، وفي النخل الذي يصرعه الجفاف ( مقبرة ، ص 28 ) يجعل الشاعر قادرا على رسم صورة موته الخاص بالصورة المشتهاة . فهو وان عرف بسياحته وتطوافه المبكر ، حتى أصبح لا يقر له مستقر ولا قرار ، فإنه يتصور أن موته سيكون في منطقة ولادته التي يربطه بها حب وحشي ، يجعل الجبل ، هناك ، على يقين أن الشاعر لن يهرب من جوارحه ، وان وقت ا ستلام روحه سيأتي ، ليموت ، مثلما ولد ، في ظلاله الداكنة . ( مقبرة ، ص 41 ) .
ويربط الشاعر بين الحنين إلى ارض الأجداد والموت المحقق على الذروة ، أو في أي منعطف سحيق ( مقبرة ، ص 61 ) . ثم يستكمل الموت المشتهى ، لديه ، صورته التراجيدية حين يتصور ذاته جنديا يحارب من أجل القيم العليا . جندي مهزوم :
هرب من براثن هولاكو
ومازال يمعن في الهروب
رغم أنه لم يتخل عن الحلم
بجولات أخرى
تدور فيها معارك العدالة
على أشدها
حتى يعانق حتفه
بجوار قبرك الكريم . ( مقبرة ، ص 29 – 30 )
وكأنما يؤسس الشاعر لهذه الرؤية التراجيدية التي يذهب فيها البطل نحو مصيره،  عندما يلتفت إلى الطبيعة ليستمد منها أمثولات تؤكد صورة الذات العائدة للموت في أرضها ، مثلما يتبدى في أمثولة السلمون الذي يبحر في المحيطات البعيدة حتى إذا أدركه إحساس الموت القريب ، قفل راجعا للموت في مرابع ولادته ( مقبرة ، ص 83 ).  أما مسار الحياة والموت عند الفيلة  ، فان الشاعر يقابل فيه بين المبدع والفيل . فالفيل كلما استشعر اجله قريبا لجأ إلى الاعتزال حتى يموت وحيدا كالمبدع الذي يسكن بيت عزلته وينفر من الجماعة ووجع طقوسها . ( مقبرة ، ص 83 ) .
* كلمة الختم :
تحتفل (( مقبرة السلالة )) بالحياة وان تمحورت حول الموت. فالديوان يلتقط بعض التفاصيل الصغيرة والعابرة التي تصبح في عظمة كل الحياة ، بفعل الانتباه إلى مفعولها القوي في الحياة نفسها ، مثل تحية ذلك الأخ المجهول للشاعر وهو أمام محطة البترول ، التحية التي شقت طريقها إلى القلب فأحيته وهي تدمر جيوش الحزن والكآبة ( مقبرة ، ص 59 ) .
ولعل القيمة الأساسية للاشتغال على مثل هذا الموضوع تكمن في القيمة المضافة التي تقدمها القصيدة ،  وهي  تبلور معرفة شعرية بالموت . معرفة غير تلك التي تروجها الخطابات المحتكرة لهذا الموضوع ، سواء أكانت تندفع نحو التفلسف والتجريد الذي يفتقد معه الموت طراوته ، أو مدفوعة بالتخويف من رعب العالم الآخر وأهواله .
والديوان ، قبل كل هذا وبعده ، تجربة تعلمنا أن الشعر اكبر من القصيدة  ، وان الكتابة فوق التجنيس ، لا تحتاج هويتها للافتة تسيجها. كما هو تجربة سيغتني بها حضور الموت في ديوان الشعر العربي الحديث . ذلك الحضور الذي تقوى مع (( جدارية )) محمود درويش ، و((تفسير الرخام )) لبسام حجار  ، ذالك الشاعر الذي شغله موضوع الموت ….
الهوامش :
1 . الرحبي ، سيف          : (( مقبرة السلالة )) ط 1 ، منشورات الجمل ، كولونيا
ألمانيا ، 2003 . سأثبت الإحالة على هذا الديوان الشعري
داخل متن الدراسة تجنبا لإثقال الهوامش وسأشير إليه
اختصارا ب (( مقبرة )) متبوعا برقم الصفحة .
2 .THANATOLOGIE :مصطلح ظهر في أواسط ق 20 م وهو يتركب من اللفظ
الإغريقي THANATOS بمعنى الموت واللاصقة
LOGIE / LOGOS الدالة على العلم . ويقصد به في
المجال الإحيائي والاجتماعي والديمغرافي دراسة
المظاهر الطبيعية والاجتماعية المختلفة للموت .
3 . الرحبي ، سيف         : (( الجندي الذي رأى الطائر في نومه )) ، ط 1 . منشورات
الجمل ، كولونيا ، ألمانيا ،200 ، ص 78 . سأشير إليه
من الآن فصاعدا ب (( الجندي ))  .
4 . نفسه ، ص83
5 . نفسه ، ص 83
6 . الرحبي ، سيف        : (( جبال )) ط 1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،
بيروت 1996 ، ص 9 .
7 . (( الجندي )) ، ص 86
8 . نفسه ، ص 89
9 . نفسه ، ص 57
10 . راجع مادتي         : (( قبر )) و (( سلل )) في (( لسان العرب )) .
11 . (( الجندي )) ، ص 41
12 . نفسه ، ص 15
13 . (( جبال )) ، ص 52
14 . نفسه ، ص 21
15 . نفسه ، ص 55
16 . الإشارة إلى بيت طرفة ( الطويل )
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي     عقيلة مال الفاحش المتشــــدد
17 . الإشارة إلى بيت ابن الرومي ( الطويل )
ألا قاتل الله المنايا ورميهــــا      من القوم ، حبات القلوب على عمد
18 . (( الجندي )) ، ص84
19 . (( جبال )) ، ص 73
20 . ريلكه ، ر، م : (( سونيتات إلى أرفيوس )) ، تر . كاظم جهاد ، الكرمل ، ع 68 ،
2001 ، ص 119 .
21 . RAGON , MICHEL : « L’espace de la mort , essai sur
L’architecture , la décoration et
L’urbanisme Funéraires » , Albin
Michel , Paris , 1981 , P 51 .
22 . SANSOT , PIERRE ( et autres ) : « L’espace et son double » , in
«  L’espace de la mort » op . ait , P 37 .
23 . ibi d , P 51 .
24 . نشير إلى أن اللفظة الفرنسية MACABRE مأخوذة من كلمة (( مقابر )) العربية .
25 . راجع المواد المعجمية الآتية : (( دفن )) ، (( كفن )) ، (( ضرح )) ، في ((لسان العرب )).
26 . « L’espace de la mort » , op . cit , P 185 .
27 . كتب مشيل راجون في المرجع المشار إليه أعلاه فصلا خاصا بعنوان : (( مقبرة
الفلاسفة والشعراء المثالية )) راجع  ، الصفحات : 223 – 232 .