فاطمة المحسن
اصدر الشاعر العُماني سيف الرحبي ديوانا جديدا عن دار النهضة العربية ببيروت، ولعل عنوانه هو الأطول بين عناوين المجموعات الشعرية الحديثة (من بحر العرب الى بحر الصين/ سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار). أسفار يجوب فيها الرحبي بحارا ووديانا، سماوات طالعة في رأسه، وجبالا يرتقيها خياله،يبحث عن الروح المطلق، ويتوحد مع الطبيعة في اغنيات تُذكر بقوة الرومانس النابذ لكل ضعف وفجاجة. هو بين قلة من الشعراء العرب، ينظر الى الشعر على انه إشراق يمسك الأكوان كلها في لحظة حلم  : (( ما الذي يلم شتات هذا المشهد / غير خيالك المدبوغ بشموس طالعة.). السفر في شعر سيف الرحبي، ليس هو الرحيل والحقائب والفراق واللقاء، بل هو المشهد المتسع لخياله، هو المطلق والكلي، هو المتعالي والمترفع عن الشؤون الصغيرة.الطبيعة ضد الذات المتصاغرة. الصور المتسامية،ضد اليومي والقريب والحميمي.انخطاف الخوف الممزوج بالنشوة، ضد الحسي والملموس والجسدي.
سيف الرحبي، برز في التسعينات شاعرا مميزا، بوضوح وقوة لغته، حيث تجنّب لونين من الشعر سادا قصائد جيله: شعر التفاصيل اليومية، وشعر الغموض والتجريد .ربما نجد ترجيعات  سركون بولص البعيدة  في نصه، ولكنه يمضي ليكتسب صوته الخاص من تأكيده على الميتافيزيقي والولع بالكلي، في البحث عن البدايات الأولى لتشّكل الأشياء. البدايات التي ينظر أليها من مكمنه،جزيرته الطالعة من رحم أسلافها الأوائل : الصحراء وجبال الأبدية الجرداء، والبحر اللامتناهي.عُمان اللؤلؤة التي نراها في شعره، ربما أجمل من عُمانه التي ينفر منها.نوع من التعالي على المحلي والبلدي، وتطلّع الى ما يتسامى في مفرداته (( بيني وبينك أيتها الجبال الخوالد / ميثاق ولادة وموت)).
يكتب سيف الرحبي في ديوانه هذا عن الحب، ولكنه ينظر الى جسد المرأة على انه كشف لما عليه الإنخطاف، ومضة التجلي  :  (( حين رأيتك لأول مرة / في الزمان الذي أضحى بعيدا / ومتواريا خلف الأكمات / كنتِ المرأة الجميلة الواضحة / ولكن ما لم يكن واضحا / ذلك الجانب الغائم / المولود في رحم الرؤيا / والموصول برعب الأبدية. )).
نص سيف الرحبي يتصل بمفردات الإسطورة،فرموزه واستعاراته ومجازاته،تتناغم مع مثالية تؤسطر الاشياء، وتراها في طورها المطلق، فبين الذات والعالم وعد الكمال الانساني المضمخ بخيبة ورعب وشعور خفي بالموت. الإنتهاء الذي يكابد فيه الفرد توحده مع كوابسه، هو الألم العابر أبدية الظلام والتوحش (( تلك اللحظات المتقطعة من نهر / الأزمان الفلكية، تختزل عمر الكائن / البشري برمته، / وربما تستطيل لتشمل مساحة الموت القادم / والمجهول. )).
أناشيد الطبيعة في شعر الرحبي، تغالب الإشراق الصوفي الذي يحاوله في هذا الديوان، فملكة التصوير، أو اللوحة إن شئنا، تتشكل لديه من تنافذ بين الذات والخارج، إيمان بوحدة العالم، وغنائية الوجود، فيما  يبحث من خلال رومانسية اللغة عن رمزية تدفع به الى مقام التأمل الصوفي (( بين حد الليل والمطلق / واحتدام بروق مدلهمة / تقطع طيور الروح / رحلتها السرمدية. )).
ليس هناك في شعر الرحبي، تلكؤ او فراغات، سوى فراغات الأفق الممتد الذي يحدّق فيه، فهناك استرسال في قصيدته، يستله من عناصر الفكر السابق للوعي، وحتى وهو يقارب الموضوع العربي، الحروب والقمع، فهو يطل على المشهد بعين الطائر المحلّق  ((أي كوكب يتداعى في الرأس/ بمثل هذا العتّو والإنهيار؟ / أي قطار مندفع في براكين الدم. )) ، فثمة مسافات في خياراته بين الموضوع وتمثّله، بين الواقع وترميزاته، وفيما هو يمضي مندفعا ليشتبك مع الحياة،يضع قناع الشعر كي يتجنب العارض من الصور. يهيء مسرحا  يتصارع عليه الأبطال وكائنات تخرج من كوابيس  يقظته. يشذب الكراهية، ويصقل الخوف الذي يسكنه من الآخر، هواجس التنكر للعالم والصداقات (( ألمح الغيمة تمتد بحنوّ / لتأخذني من قسوة الأصدقاء / ووحشة الطريق. )).
سيف الرحبي الجوّال في المدن، غيره الآخر الذي يعيش داخل قوقعة نفسه، يمكن أن يمسك القاريء في نصه، بعض تمرد على أعراف المحبة،ذلك الوحداني الذي يفتقد  كياسة الحكمة والمداراة. عنف اللغة يطل براسه، حين لايرى العالم إلاّ من وراء حُجب الرفض.   لايتخيل نفسه، سوى ذلك  المعلّق من أخمص قدميه،في نقطة تصل بين حافتين من رحلة الهروب : رحلة أجداد أبديته، ورحلة الأباء الملعونين الذين يطاردهم في حلمه.يطرد المكان الأول والصحب، ويلغيه من حياته.يحاول رؤية ماخلّف السأم من توقيعات على حساسيته وأفكاره، ولكنه يقترب من تخييل التاريخ كي يصبح مطواعا، وملك يديه : (( عبر بحر عُمان والمحيط الهندي / حتى أقاصي آسيا/ ذاهبا لمعانقة الظلال/ للقاء البوذي الذي ظل تسع سنين/ محدقا في الجدار / في سؤدد الروح/ للسباحة في بحر الصين والعندمان،/ وسألقي التحية على قراصنة/ يفتشون عن لآليء وجزر طمرها الإعصار. )) .
ثلاثة نصوص طويلة  في مجموعته الاخيرة، هي عبارة عن مقاطع متصلة، أطولها نصه الأول (سألقي التحية ..) والثاني عنوانه (موسيقى اليمامة الهاربة من سطوة الهاجرة) والثالث (كقطيع كباشٍ بيضاء أثخنها الهياج)، لم يضع تواريخ للقصائد، هذا ما يسّهل اعتبارها نصا واحدا، كأنه كُتب في حومة الإسترسال.