جولة على مقاهي دمشق مع الشاعر العماني المسكون بالوحشة والضجر
سيف الرحبي : راديكالي آخر من مهزومي الثمانينات

خليل صويلح

الأيام التي قضاها سيف الرحبي في دمشق ، كانت فرصة لاستعادة مكان أليف ، هو إحدى محطاته الأولى في الترحال. هذا الشاعر العُماني المسكون بالوحشة والضجر ، وجد نفسه فجأة ، أسير الذكريات المدفونة منذ عقدين ، تجول في الشوارع والمقاهي القديمة ، كأنه لم يغادرها أبداً. تجوّلنا معاً في مكتبات دمشق ، ثم عرّجنا على مقهى كان يتردد إليه في ثمانينات القرن الماضي . وكانت دهشته كبيرة ، إذ لم يتغير ديكور المكان ولا حتى نادليه القدامى . ورغم سروره كان مضطرباً لإحساسه انه ذاهب الى مقبرة! “هل هي مقبرة السلالة ؟” (عنوان ديوانه الأخير). يجيب سيف: “عزائي الترحال الأبدي بعيداً عن مقبرة السلالة هذه”! ويتذكر قولاً لأنتونان آرتو : “ما أقسى شعور الانسان بعدم الوجود في مكان محدد”.
ولعل هذا الاضطراب الوجودي، قاد نصه أخيراً الى تحولات سردية حائرة بين فتنة القصيدة وثراء النثر في “مشهد رعوي بدوي، تغلفه روح فجائعية”.. كأن سيف الرحبي لا يعيش اللحظة الراهنة الا باستعادة سيرة الأمس ، بوصفه رجلاً من الربع الخالي ، وجد نفسه أخيراً في شتات العواصم من دمشق وبيروت والقاهرة .. الى باريس . لكن رائحة الرمل ظلت تتسلل من بين أصابعه ، ليكتب مصائر تتخبط في تلك المتاهة بلا ضوء ولا قرار ، في مناخ شبه اسطوري ، قاس وشفاف في آن واحد.
يقول : ” ولدت على تخوم الربع الخالي ، وقضيت سنوات التكوين الأولى هناك ، حيث تتقاطع الجبال مع الصحراء مع البحار الشاسعة ، وبهذا المعنى فإن الربع الخالي تلخيص مكثف ومأساوي صاعق لذواتنا ، وربما يحيل إلى ما يكتسح هذه الذات من جفاف وجهل وضياع فكري ومادي، في حلبة التاريخ المعاصر”.
وبإمكان القارئ اكتشاف ماهية هذا القلق والارتباك في نصه الذي صار مزيجاً من السرد البصري والجملة الشعرية المعلّقة في فضاء العزلة.
وهذا المنحى الدرامي في كتاباته ، جاء محصلة لاحتدام الرغبات وانكسارها ، في لغة تتأسس على كل ما هو غريب ومدهش ، يستنطق الشاعر ما هو غامض في ذلك العالم الصحراوي الفسيح، معتبراً أن : “الانفتاح البصري والمعطى السردي مهمان في دفع العبارة الشعرية الى آفاق جديدة”.
كتب سيف الرحبي مشهديه الصحراء بعدسة سينمائية مفتوحة على الفضاء الأزلي ، تتداخل فيها السيرة مع المكان وتاريخ السلالات، في تجربة صدامية تبدو كأنها نوع من الهروب الى الأمام … هروب ما هو الا “عودة عميقة للمنابع الأولى، للأحاسيس الأولى ، للجراحات الأولى” وهذا في نظر الرحبي ، “مربض السرّ وعرين الشقاء الأبدي للكائن”.
سيف الرحبي راديكالي آخر من مهزومي الثمانينات ، اكتشف زيف شعارات المرحلة فإنسحب خائباً ، ولم يجد ملاذاً سوى الصحراء ، والكتابة، بوصفها ضرباً من الترحال في صحراء الواقع وصحراء اللغة، منطوياً على ذات مدّمرة، استيقظت متأخرة على ثقل رعب ميتافيزيقي ، لا خلاص منه سوى بالانتحار… أو الكتابة!.