«مدامع العشاق» عنوان كتاب للمصري زكي مبارك، عنوان تقليدي حدّ النمطيّة ربما، لكنه دال وجميل خاصة حين تقرأ محتوياته واختياراته الشعرية والأدبيّة… وكم من الإنجازات في هذا المنحى، لا تفتأ تمدنا بالألق والنضارة والدهشة.. شعر ما قبل الحداثة بالمعنى الزمني وكذلك النثر.. هذه الإنجازات واللُقى المضيئة على مرِّ العصور. شعر الحداثة لا يزال جدولاً يتدفّق في ليل عزلته الفريدة، أما ذاك الضارب في تخوم الزمن ومتونه، فقد انفجرت جميع جداوله حتى شكّلـت نهرها الكبير الذي وصل إلى مضائق صحرائه وقد جفّت في لهيبها اللافح المحاصَر، رُبى الخيال وجداوله الحرة… ليأخذ مساراً آخرّ، ويتوّسل طُرق رحلةِ تعبيرٍ تحتفظ بما يأتلق من روح تلك الجذور كزادٍ في عتَمة هذا الإبحار الطويل الشاق..
ليس هناك تواصل ولا قطيعة بالمعنى الذي سالت في جنباته أقلام التنظير ودارتْ رَحَى حبرها المسفوح… هناك ذلك المطر الخفيّ المتواصل عبر الروح العطشى إلى الجمال والحرية. حتى في أزمنة الفاقة الكاسرة والانهيار…المطر المعمّد بأحلام الرحلة وقوس الأبد القزحي الطفولةِ والبَهاء…
في «مدامع العشاق» ورد : أن أبا بكر ابن دريد (العماني الأصل العراقيّ الإقامة والمعرفة) قال :
خرجنا من عُمان في سفر لنا، فنزلنا في أصل نخلة، فنظرت فإذا بفاختتين تزقوان على فرعها، فقلتُ:
(أقول لوَرقاوَين في فرع نخلةٍ
وقد طفّل الإمساء أو جنح العصرُ
وقد بسطت هاتي لتلك جناحها
ومال على هاتيك من هذه النحرُ
ليهنكما أن لم تُراعا بفرقة
وما دبّ في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلي قطّع الشوق قلبَه
على أنه يحكي قساوتَه الصخرُ)
***
أمد يدي إلى فنجان القهوة على الطاولة الخشبيّة، وأنا أحدّق في الأفق.
القهوة التي تجعل الرأس يستوي مع مطلع الصباحات، اكتشف أن الفنجان فارغٌ من القهوة ولم يبق في قعره حتى الثمالة:
في أي زمن امتلأ هذا الكأس، وفي أي زمن أفرغ أحشاءَه؟
يبدو أن بين الزمنين مرّت سُحب سوداء، مرت مجازر متنقلة.. مرت عربات تحمل حطام الأجيال الكئيبة.
***
مستلقية على سريرها المائي، وسط محيط الخضرة المترامي، تطلق نهديها للنسيم العذْب يداعب أعضاءها المفتوحة على آخرها.. وثمة حيوانات إيروسيّة جامحة تأكل العشب على مقربة من نهر الكينونة الأولى، تسرح في خيالها وتخطفها إلى أقاصي الشهقة والزوغان..
***
قطيع جياد برّية تركضُ
بنشوةٍ أمام البحر
أعرافها النافرةُ تسبح
في الفضاء
عيونها شبه ناعسةٍ
وقوائمها تسبق الإعصار
البحر بمدّه العالي
والأفراس بمطلق حرّيتها
كأنما المشيئة أبدعتْ قصيدتَها
في هذا الفراغ الوحشيّ المتناغِم
الرهافة والجمال.
***
كان يهذي:
جحيم العواصف أجمل
من جنة السكون
لحظتها حلّق الحمام عائداً
إلى الطوفان الأول للخليقة
***
النسر يصطاد العاصفةَ
والطيور تجري أمامه
كقطيع
قطيع السماء المذعور
من النسر والعاصفة
***
ضمّد المطر قروحَ المدينةِ
بقبس من أبديّةٍ
عابرة.
***
مناخ العالم يمضي صُعداً في جموحه، والهيجان اللامتناهي حدّ التدمير الإبادي والكارثة..
مطاردو العواصف الرعديّة والأمواج للتصوير والتوثيق والمتعة لم يعودوا قادرين على اللحاق بقطار الطبيعة الغاضب، فيرتدّون عن نزوع هوايتهم الأثير في ركوب الخطر والمجازفة في اليابسة أو في أعماق المحيطات والبحار..
موجات الجفاف تضرب المناطق الأكثر خصوبة.. الاحتباس الحراري يسجّل أرقاماً إضافيّة.. كيف تحتمل الأرض المضروبة أصلاً بزلزال الحرارة والجفاف مثل هذا الوضع؟؟! بيئة البشر وحياتهم يتهددها خطر الزوال- التكنولوجيا لمن يملكها بدت عاجزة أمام هذا المدّ الكاسح الذي يذكر بملامح أولى لقيامة محتملة. حيث الأعراب الذين كانوا بحرّية الأعاصير يتسابقون في البنيان، الأعاصير التي تكاد تقتلع جذور سدرة المنتهى؟
***
في البلاد التي تعيش في قلب إعصار الطبيعة وقسوتها.. موجات متطاولة بلاهوادة ليل نهار، وبلا رحمة، يحس الكائن بالقهر المتطرف، ربما الأكثر قسوة من قهر سلطة البشر وإكراهاتها وقد يجتمع الاثنان في منطقة واحدة كما في بلدان عالم ثالثيّة.. ذلك هو الحظ العاثر منذ صدفة الولادة الأولى لحياة ستُصادر حتى البكاء والصراخ والدموع حيث لا مكان لهذه الترهات البشرية في بلدان تقصف عمرها الحروب الأكثر بشاعة من كل الحروب الأهليّة التي عرفها التاريخ.
***
ما لهذه الغربان الكاسرة كفّت عن الولولة، وهي تعكف على الجثث التي بعثرها الموت على الطرقات والسواحل الخالية بتلك البلاد التي يموت أهلها من العطش والكوابيس.
***
رغم أن المطر بديَمه المدرارة لا ينقطع في الضُحى وحتى مطلع الفجر.. الأرض وأختها الشجرة والحيوانات ما زالت تصلي لتنزل البركة ودوامها الذي لا ينقطع.. (الجمال مزيد من البهاء والجمال: تقول الشجرة في صلواتها النديّة..
***
يصطاد الشاعر بأشراك العبارة، النسْر واليمامة، ويؤاخي بينهما على منحدر موت أو تحت ضلع قرية هاذية….. يصطاد السماء والأبديّة.
***
المرأة الجميلة التي تسبح تحت المطر مغمورةً بقوس قزح من الألوان والأحلام المحلّقة مع الفراشات والطيور..
***
تحتضن الشجرة أطفالها السناجبَ بينما المطر يخضّب الأرض المريضةَ بلقاح النضارة والنعيم.
***
النساء الجميلات البواسق
الأشجار الجميلات البواسق
مُثقلات بعثاكيل الثمار والأحلام
الشجر يغالب حتفَه
في الريح والحريق
والنساء بزحف الزمن
وهاجس اضمحلال الجمال الأكيد
الجمال، عبء الجمال
حتى لو تبدّى هِبة إلاهيّة
وامتياز.
***
يسرح اليمام بين حقائب المسافرين وعلى حواف (الجلب) والمياه. مثلما كان في الماضي البعيد بين البطاح والأثْل وذلك النسيم المتسللّ من بين البراثن الصخريّة والأكمات..
أين تلك البطاح التي تسيل على جوانبها أعناق المطيّ..؟
أين ذلك اليمام الشادي في برّية الديار وساكنيها..؟
أين الساكنون؟
وأين الديار التي درستْ وصارت أثراً بعد عين، حتى لم يبق منها شاهدة رمْس أو طلل، يقف ويبكي على أديمه شعراءُ أضناهم الفقْد والحنين.
***
يا سُحباً قادمة بجحافلها، إلطفي على الأحبة الغائبين بجميل ودْقك، أمطريهم، بللي جوانح أعماقهم التي أوشكت على الموت والزوال.
***
نوْح يمام في صبيحة نائمة،
الفراشات برفيفها تتطلّع
نحو الله
والسمك السابح على مقربة من الشواطئ حيث النساء يشربن القهوة بدلال الأصابع والعيون.
هكذا يبدأ يومك
ولا تعرف
إلى أيّ هاوية سيجرفك نحو قعرِها
المساءُ القادم
***
عما قريب، قريب جداً
سيعود المغتربُ إلى أحشائكِ
أيتها الأرض الأم
هجرة الأجنّة
لقد طال به الغياب وطوّحته المسافات
سيعود ملفوفاً
بغلالة الأشواق والورود
***
ضارع أمام عرشك
متيّما بحبك
والحنين المتفجر بروقاً
في حناياه
امنحيه قطرةَ حنان
كي يستطيع الوقوف
أمام عتوّ الإعصار القادم والانهيار
***
يا ملكة السماء والماء
أيقونة الزمان السرمديّة
منذ استوى عرشك على بحر الجمال
المتلاطم
والعبد خاشع تحت أقدامكِ
سعيد بالعبادة والمعبودة التي من غير رموز ولا طقوس، أنت الرمز والإشارة، الواقع الصلب والخيال الجامح على حصان البراري، الكلية الحضور، والبسيطة بساطة النجوم في فضائها، والأرواح النقيّة على أرضها، أنت التي يهتدي بك المسافر في ليل وحشته، والقدّيس في نجواه ووحدته، يهتدي بك الأطفال في خطواتهم المتعثّرة الأولى، في تمتمة اللغة ومعاناة الكلام الذي لا يفضي في نهاية العمر إلى شيء، يسردون الحكايات التي لا يفهمها غيركِ..
أيتها الطبيعة الخالقة
الرؤوم..
***
جرادة تعبر النهر الدافقَ:
تذكرتُ الجرادَ السابحَ غيوماً
فوق المقابر والحقول، تذكرت الجراد سحُب الجراد الجهْمة وهي تجثم على المزارع في أفنية القرى والجبال..
«ويكثر زحف الجراد خاصة في الجزيرة العربيّة. بحيث من حين لآخر تحقق شروط الحرارة والرطوبة تفقس عدد مهول من يرقات الجراد، إن الجراد الذي يفقس في سنوات الهجرة ليس مماثلاً لجراد السنوات العاديّة.
وتكون هذه الحشرات أكثر خفة فتتجمع اليرقات بعد خروجها من الحفر الأرضيّة وتبدأ في التنقل للبحث عن غذائها للقضاء على أي خضرة تصادفها في طريقها»..
هذا الجراد الوحشيّ الحزين من أي الجهات تتفجر فيالقه على هذا النحو الكاسر؟ ليس هناك أسباب وأماكن واضحة، حتى الدراسات العلميّة لم تتوصل إلى ذلك.. هذا يذكرني بالسمك الصغير (الصد أو الباعية) كما يطلق عليه في عُمان الداخل، الذي ينزل من (غيول) الأودية الحديثة العهد، مثل سُحب جراد مائي، بكثافة وغزارة تستمر لأيام وربما أشهرا خاصة إذا تجدّد جريان الأودية والشعاب.
وكان الأهل يصطادونه بالشباك المصنوعة بإتقان (الجراد والسمك) كل بطريقته، ليكون وجبة لذيذة لأيام وأيام..
في هذه اللحظة في الجزيرة الشرق آسيوية أرى جرادة وحيدة تعبر الضفاف.. أم أنها الإشارة الأولى، جرادة الاستكشاف لتأتي على اثرها الكتائب والجيوش؟
***
من البعيد أراكم تبتسمون بمرح عارم في أرجاء العالم وأقاصيه حتى تذرف الدموعَ عيونكم من فرط غبطة وحبور..
أود لو تنطوي المسافات كما في الخيال السحريّ، وأخطو إلى المقهى المقابل لأعانقكم، ونستعيد الأيام الخوالي…
لو نغرق في نوبة ضحك هستيريّة، وللنميمة حظها الكبير في هذه الجلسة المستلّة من سطوة النأي والمسافة..
لكن بعد هذه الوليمة الحميمة بدقائق وربما ثوانٍ أرغب يا أصدقائي، يا من أكلنا خبز الطرقات وشربنا نبيذها الرديء في وحدة مصير وطموح، أتمنى أن تغربوا عن وجهي، أن يأخذكم الغياب إلى أقصى زاوية في الكون المترامي بحيث يستحيل حتى على السحَرة لقياكم، أن تسحقكم داهية الدواهي وترحلون من غير أمل في عودة وإياب!!
أن أكون وحيداً تحت هذه الشجرة، المكلّلة بغيوم توشك على المطر، وهي تسعد العالم بظلالها وكرمها، ألعب مع عصافير الدوري وغربان آسيا وضواريها الأكثر ثراءً من مسغبة تلك الجلسات التي تشحذ السكاكين وأنواع الأسلحة مع الشروع في أي حركة أو كلمة غادرتْهما البراءة والتلقائيّة، منذ أن تصرّم عهد طفولتها السحيق ودخلت جهنم هذا العالم وصراعاته التي لا تفضي في كل أحوالها، إلا إلى الخسارة والخذلان.
***
تتدافع السُحب في علياء سمائها، كأنما أعمار البشر ماضية بالتدافع ذاته، إلى حتفها الأكيد.
***
لا شيء يطفئ ظمأ هذه النفس المتعطّشة دوماً إلى محو الأماكن والمغامرة المفتوحة على مدار الآفاق، إلا العودة إلى رحمِ ترابها الأول.
***
البحر في نوبة هياج
قطرة مطر، قطرات تتناثر كحبّات اللؤلؤ، لا تلبث أن تتبعها السيول الجارفة، أنهار الله مفتوحة على مصراعيها تتنزّل من سماء خفيضة بغيومها القاتمة المتدافعة بوحشيّة كأنما تضمر في دواخلها مشروع ثأر وانتقام..
أثناء كتابة هذه الأسطر، كانت الأخبار تحتل الحيز الأكبر عن زحف الإعصار (ساندي) على نيويورك وواشنطن، ليضرب قلب امبراطوريّة العالم، كأنما الطبيعة تتآزر لتدمير صنيع الإنسان، وما جنته عبقريتّه الفذة حتى تستعيد براءتها الأولى..
***
صوت السناجب الفجائعي، وحيوانات أخرى في ليل الغابة المضطرب الجريح، يحيل إلى نواح نسوة يتمزقن على أطفال قضوا في مذبحة من تلك المذابح التي دأبت عصابات الحكم في سوريّة على ارتكابها (إذا كان ثمة شيء يشبه أو يقارب أصوات أولئك النسوة التي تلخص تاريخ المأساة البشريّة وعارها)
صوت السناجب يتعارض مع شكلها المرِح البعيد عن القتامة والحزن، كأنما الطبيعة أودعت تناقضها الحاد في هذا المتسلّق الطريف.
***
تلملم أشلاءك أيها الشهيد
سحقتك الدبّابات والطائرات
وأسلحة لا حصر لها
جاد بها البشر المتحضِّرون
على الأرض الثكلى
تلملم شظايا جسدك المتناثر
في خضِّم الفضاءات
وتعود إلى المعركة
من أجل حلم غامضٍ
بعدالة قادمة
من أجل الأطفال الذين نُحروا
والنسوة النائحات
في ليل الكارثة
من أجل القيم والإنسان
الذي أحيل إلى قردٍ
يقدّم وصلته البائسةَ
في سيرك رعاعٍ ومسوخات
تلملم شظاياك
واللحمَ والدمَ المسفوح في الشوارع والأزقة
عائداً إلى أرض القتال
العالم تخلى عنك، أدعياء الحقيقة والتنوير تخلوا عنك
أبناء جلدتك اعتادوا على الفرجة
التلفزيونيّة
وأنت وحيد، في أرض المواجهة
لكن روحك العصيّة على التدمير
ستزهر وردة الأريج
في البراري الوحشيّة.
***
يأتي حين من الدهر على المرء، ينزع فيه إلى تحطيم الكون كبيت من زجاج رهيف.. كأن يبدأ بأكلته الأولى المفضّلة: البشر الأقربون منهم أدنى بالمجزرة حيث يتم تمزيقهم شلواً شلواً ولا يخطئ افتراس الأحداق والقلوب..
ثم الأبعد فالأبعد، حتى أولئك القاطنين في الكهوف الحجريّة والغابات.. شعوب الاسكيمو ومن على حواف العالم، وقد نسيهم التاريخ لن ينساهم خيال المذبحة الكونيّة الخصيب.. وربما يتمدد الخيال الهائج كمحيط من الدم والحقد والانتقام، إلى كائنات الطبيعة (غير البشرية) ليجفف أنهارها.. ويحرق غاباتها ويعمل فتكاً وتنكيلاً بحيواتها وكل مظاهر وجودها السابق على وجود الإنسان على هذه الأرض بملايين السنين..
هل تنطلق مركبة هذا الخيال الدموي إلى مظاهر الكون الأخرى في فضاءاتها اللانهائية.. لقد أُنجزت هذه المهمة أيضا وبضراوة منذ زمن بعيد..
***
هناك حكام عرب أحالوا أنهاراً ضاربة في القِدم إلى مجارٍ وأوحال كما أحالوا البشر بالطبع
لنتخيل نهرا مثل بردى والنيل أو دجلة والفرات وغيرها من أنهار العالم اللصيقة بصفة من صفات الخلود والأزل، كم من السنين آلاف السنين استغرقت في الزمن تحفر المياه والأساطير مجراها وتستوي كنهر تتوزع على ضفافه الشعوب والحضارات والقيم المتقادمة، التي كانت من الأسباب الجوهريّة لوجودها، إن لم تكن (هبته) كما يقول (هيرودس) عن النيل، بالمطلق.. كيف يستطيع شخص أو حكم لا يكاد يعبر الذاكرة إلا مثل كابوس ثقيل في ليلة مرض مؤرقة.. كيف يستطيع إعدام نهر بمثل هذا العمق السرمديّ روحياً وزمنياً، ما عجز عنه كل طغاة التاريخ ومن الوزن الثقيل: إنها إحدى معجزات التدمير والانحطاط العربيّين.
هناك أنهار بقيت تجري مياهها، لكن روح الخلق والنماء أُعدمت فيها.. وحتى يأتي زمن آخر، على الرائين أن يثبتوا ملامح قدومه الوشيكة أو البعيدة!
لكن (بردى) على ما يبدو عصياً على التجفيف والإعدام، وإن شُبّه لهم ذلك، ظلَّ يجري ويتدفق في عروق الأجيال، من الأبناء والأحفاد حتى انفجر على هذا النحو العظيم المأساوي الفذْ.
***
يصحو الطفل باكياً كيوم ولادته، وبإحساس أكثر وحشةً وضياعاً، يحدّق بعينيه المرتبكتين في أرجاء الغرفة وكأنما في أرجاء قبر، لا أحدَ في البيت لا أحد في المكان. يصغي فلا يسمع صوتاً، يصيخ السمع بانتظار الخطى، خُطى الأم والأب والأخوة على جاري الصباحات الفائتة، فلا يأتي أحد، لا نأمة ولا همسة، وذلك الكلام الذي يذوب حناناً لا يشرق من ردهات المنزل وغُرفه.. يضطرب الطفل أكثر، يدخل في نوبات هستيريّة من البكاء والنحيب إزاء هذا الصمت المدلهم الذي يلف المنزل والمكان بأكمله…
يحاول أن يمشي بخطواته الصغيرة الغضّة باتجاه النافذة أو الباب.. وحين يصل إلى النافذة بعد أن عبَر مضائق وجبالاً وعِرة، رأى الأجساد مشنوقة تتدلى من أشجار السنديان العالي، الذي لم تسحقه الحرب بعد، في فصله الشتويّ الحزين… وتراءت له أشباح القتلة، تزحف نحو البيوت المجاورة وبعضها نحو غرفته التي يلفـها سكون الموت العميق.
***
كنا نذهب من دمشق في حيّ ركن الدين ومساكن برزة، أيام الجُمع والإجازات باتجاه الغوطة التي تطوّق العاصمة السوريّة من جهة الشرق ملتفّة بظلالها الخضراء التي تخترقها الجداول والقنوات المائيّة المتدفقـة كالأنهار… نهرب من صخب المدينة ودخان المازوت إلى هذا الملاذ الفردوسيّ الآمن الحنون، مجموعة أصدقاء من بلاد عربيّة، العراق الجزائر اليمن فلسطين… يستقبلنا الأصدقاء السوريون في منازلهم مع عائلاتهم بأجيالها المختلفة، من الجدّ الفلاّح الحامل دائما للرفث (المسحاة) ينثر البذور، يساوي الأرض ويحرثها، وحتى الأطفال يقفزون مع الفراشات والحيوانات بين الأشجار السابحة في مياه (بردى) العذبة الباردة حتى في ذروة فصل الصيف، نأكل من ثمار الأرض الطيبة نشرب من كروم الروح، نبلها وكرمها.. أولئك الأصدقاء السوريون الذين ننسى بين ظهرانيهم، أننا قـَدِمنا من بلاد أخرى. بعيداً عن الأهل ومرابع الولادة والطفولة من فرط ما يغمرنا مناخ اللطف والمحبّة والوئام…
في هذه اللحظة التي ما زلت متواصلاً فيها مع أولئك الرفاق، رفاق «الزمان الأول» كما عبّر حسّان بن ثابت في قصيدته الشهيرة، أحدّق في شاشات الأخبار، التقارير والرسائل، لأرى فيالق الجهل الأكثر عتوّا وإجراماً عرفه تاريخ البشر، تبيد المرابع والديار بهمجيّة لا نظير لها، تلك الديار التي بـِقدم الحضارة وكبرياء شعبٍ، من أوائل الشعوب التي أعطت للبشر أحرف الأبجدية الأولى، ليبدأوا رحلتهم في سلّم التقدم الإنساني والحضاري، ينتهي بها المطاف إلى هذا المنعطف الأكثر وحشيّة واستباحة في انعدام القيم والضمير… كم هو مكلف بفداحة دمهِ وغزارة ألمهِ، حلمُ الخلاص والحريّة ؟!
***
تسحرني رقصة السمك في بحاره أو في الأحواض الكبيرة، رقصة ضاجّة مرحة حتى وهي تعانق موتها بعد قليل، كذلك العصفور الذي يرفّ على جذع الشجرة المتدلية الأغصان والفسائل، مثلها حشرات الفصول وحيواتها السريعة الزوال.. تلك الكثافة من جمال وحيويّة عبور لمثل هذه الكائنات التي لا ترى في الموت شبحاً مخيفاً، ينفد العمر وهي ترتجف على شفا هاوياته، بقدر ما تجد فيه (على الأرجح) طوراً آخر من سعادة ممكنة.
إنها كائنات بوذيّة بالفطرة والغريزة.
***
ذلك النوع من الحكام، أبادوا البشر والطبيعة عن جهل وصلف وانحطاط سياسة وأخلاق، أمام ذلك الخيال الهائج، ففي منطقة ما من تحليقاته أو نزوعاته الغامضة، ينزع إلى أن يخلّص العالم من محنته ومأساته، التي هي في أسِّ وجوده وفحواه.. جموحه وطهرانيته المتطرفتين يرميان إلى هذا النوع من الخلاص، بالاستئصال الجذري الناجز والنهائي.. ربما على منوال (البوذا) حين يقول «من الجميل أن ننظر ونتأمل الأشياء لكن الأجمل أن لا تكون هنالك حيوات وأشياء».
البوذا، هنا لا يدعو إلى إبادة الكائنات واستئصالها، في كينونتها التي استوت واستقرتْ على نحوها العنيد، الصلب والهش أيما هشاشة، وإنما يتمنى ويفضّل ألا تكون موجودة منذ البدء، رغبة عدميّة لمحو الكون في أزليته، قبل النشوء والارتقاء، وليس بعد ذلك
وبعد (البوذا) أبوالعلاء المعري حيث تدمر في هذه اللحظة قوى الهمجيّة والظلام (معرة نعمانه) وذاكرته، تحدّث عن هذه الفكرة الرهيبة، هذا الهاجس الذي يلامس أكثر الحقائق عمقا ودُواراً:
(…) (ما كان أغنانا عن الحالين)
بمعنى آخر، عن هذه الملحمة الأرضيّة الدامية العابثة، وما يعقبها!!
فلاسفة محدثون لجأوا إلى حل الإبادة والقتل لتخليص العالم من شرور سلطاته وحكامه فعلاً لا تخييلاً وتمنّيات (نتشاييف) الروسي مثالاً، في «عدميته العنيفة» والأمثلة تكثر اذ تتبنى خيارات تيارات سياسية، يميناً ويساراً.. إنها اللحظة ربما، التي يصل فيها خيال المرء في هيجانه وزوغان أعاصيره إلى التخبّط في أشراك تناقضاته اللاعقلانيّة واللامنطقية حتى لو ادعى هدف الخلاص من محنة الوجود أو تخليصه من الظلم الجاثم والشرور..
إنها اللحظة التي يصل فيها المرء الى أقصى هذياناته الانتقاميّة من عالم فقد أي وشيجة أو أمثولة تقيه من هذا الانزلاق البركاني، وتكثيف المأساة بادعاء استئصالها، في حالة الفيلسوف الروسي، وعلى المنوال نفسه تيارات التطرف المعاصرة وإن بسطحية وأوهام مراهقة فكرية وسياسية وليس في حالات «الشطح» الوجودي أو الاستقصاء الذي يمخر الأقاصي والظلمات، كما عند البوذا أو أعمى المعرّة بصير الطبيعة ومكر الزمان.
إنها اللحظة ربما، التي يسقط فيها الكائن من الزمن حسب تعبير (سيوران) ومن القيم والتاريخ. لحظة ليس لها من ملامح عدا النزول الحتمي في قعر تلك المنطقة الموغلة في العتمة والعنف من غرائز البشر.
***
الكائن الآنف الإشارة، المرتكب المذابح على الصفحة البيضاء، حلبَة معركته مع العالم، ليس من غير جروح متراكمة ومصائب متعاقبة اقترفها بنو جنسه من شبيحة ومسوخ بشري وسلطات. ربما كان طفلاً نجا من مجزرة، رأى فيها عائلته تذبح بالسكاكين على مرأى ومسمع من البشريّة المحيطة.. حيث زمن التكنولوجيا يشرك الجميع في الحروب والمجازر بأصناف وسلوكيات مختلفة، رأى عائلته وآخرين يحرقون بيوتهم في النيران الجامحة، حين نجا ذلك الطفل بأعجوبة، رأى النار تلتهم الأجساد بشبق تلتهم الرأس حتى تحيله فحماً متناثراً في الأرجاء التي لا ينقطع فيها رعد المذبحة والصواعق، رأى اليدين وأجساد الأحبّة التي كفّت عن الحركة وتطايرت هباءً، وشظايا.. رأى ذلك كله بعينيْ طفل يحلمان بالألوان والطيور واللعب في الأعياد، حين يذهب عيد ينتظر الذي يليه..
وربما كان جندياً في حرب لا علاقة له بها وتسبب في سَحْل خلق كثير.. أو سليل (دوغما) ايديولوجيّة.
أو من ذلك الصنف البشري المظلم الذي يرى في المجزرة على ذلك النحو من العمق والاتساع حالة مشهديّة بهيجة، وحالة تطهير للبشر من أدرانهم وذنوبهم المتطاولة كالمجرات في سمائها والجبال والبحار على أرضها.. حالة مشهديّة تقرن العنف الأقصى بجمال النهايات مهما كانت الأهوال والفظائع التي تنتج عن هكذا تفكير وسلوك..
إنه الكائن الملتبس الذي وقع كما يقع الطائر الجميل الفاتن بريشه وتحليقه الحرِّ في الفضاءات، وقع في بركة الدم والضغائن وأهوال الانتقام.
إنه في هذه المنطقة الحِديّة الخطرة الدامسة، بانتظار قبَس ربما، من نور مترحل بين النجوم والآفاق، يمنحه بعضاً من هدوء وطمأنينة افتقدهما في حياته المديدة التي شارفت الألف عام أو أكثر.
***
لا شيء يسعى إلى حتفه الأكيد
مثل النحل، ذكر النحل
والانتحاريين البشر
في طِراد المثُل المستحيلة
الكل يندفع الى إزهاق روحه
بفرح غامر
***
الرجل الذي أثقله العمر يجلس في الكرسيّ المقابل، حزيناً يحدّق في اللاشيء.. ولأنه ليس له غريزة النحل ولا إرادة الانتحاريين وأوهامهم، أطاح الزمن بآخر دفاعاته، فها هو أمام زائره القادم (هادم اللذات ومفّرق الجماعات) وجهاً لوجه.
***
الحياة تطارد الموت
والموت يطارد الحياة
الحياة تركض متوترة لاهثةً
مرتجفة
والموت ببرود أعصاب وترف يجري كمن يمنح مكرمة أو فسحة للطريدة المحاطة بالأسوار العالية والأشراك
الإثنان يركضان كلابا سلوقيّة
تتسابق
في ليل المدينة أو الصحراء
***
هذه الثمار المتدلية من ساق
شجرة (النارجيل)
نضِرة مشرقة، بعد مطر ليليّ غزير
لكن يد المالك قريبة أكثر من أحلامها
قريبة لقذفها في سلال المبيعات..
سينزل المطر في غيابها
وستكون ثمار أخرى
تستقبله بنفس اللهفة والإشراق.
***
بداهةً أن أحوال الأمم والممالك ومسار مصائرها، في سفر التاريخ المتقلب العاصف، هي العجب العجاب..
وبالفعل، التاريخ يعيد نفسه على شكل مسخرة أو مأساة.. وتختلط عناصر الاثنتين بشكل غير قابل للتقسيم (المانوي) حين، يغالي هذا التاريخ في قسوته ويدفع أمة من الأمم الى أشداق الضِعة والانحدار بشكل فيه من الغموض أكثر من أسباب الوضوح المعروفة في صعود الأمم وتقهقرها، ليست الأمة العربية بالطبع خارج هذا السياق..
أحوال روسيا مثلاً، روسيا الامبراطوريّة سواء في عهود القياصرة أمثال (إيفان الرهيب) أو قياصرة الماركسيّة اللينينيّة في العهد السوفييتي الذي أطبق بقبضته الحديديّة على نصف الكوكب الأرضي تقريباً..
(لينين)، (ستالين) ومن على نمط هذه السلالة السابق واللاحق على اختلاف التمايزات والصفات، أشبه بآلهة مخيفة بانية وهادمة وملغزة.. عهد القياصرة الأول هزم نابليون بونابرت، مُسقط عروش أوروبا، مدوّخ الملوك والممالك، أوقفوا زحفه فكانت بداية النهاية لتلك الأسطورة الحالمة..
العهد الثاني هزم (هتلر) على رغم غلظة العهدين واستبدادهما، هزم النازيّة بعدما أذلّت أوروبا القويّة تحت أحذية جيشها الذي لا يقهر كما أراد وحلم بذلك (الفوهرر)..
روسيا على مسار تاريخها المحتدم بالأحداث والخطوب، والتي أنجبت أخصب وأعمق العقول والمخيّلات الأدبية والفلسفية عبر العصور، وكانت نقطة التوازن الضروريّة في صراعات العالم وتناقضاته.. أرعبها المدُّ العثماني الكاسح لتلك السلالات الطورانيّة الآسيويّة التي «تنشر الحداد بين الأمم» وهزّها، لكنها بقيت حتى أفضت بها صروف الدهر إلى ما هي عليه الآن.. عصابات متناحرة وعناصر حكم ليسوا أبعد عقلاً وطموحاً من (بروسلي) وكذلك (فان دام) على سبيل الحداثة العضليّة، والمكاسب الماديّة السريعة. وقد ورثت العناصر تركة الخراب مباشرة من سكير محترف أقرب الى تلك الدهماء التي وصفها (ليرمنتوف) و(جوجول) و(ديستوفسكي) و أقرانهم في إنجازاتهم الأدبيّة الخالدة.. إن لم تكن أكثر ضِعةَ ٍ حيث دهماء الأدب تراودها هواجس نبل مفقود وحنين.
في مثل هكذا سياق ومناخ، لا نجد غرابة، ليس في مواقف السمسرة السياسية الرخيصة التي يستخدمها (الغرب) في تبييض صفحته الدموية تجاه شعوب العالم المنكوبة، وإنما في هذا النفر «الروسي» المنتشر في بلدان كثيرة من العالم، حالياً، مصدِّراً كل أنواع التجارة الوضيعة مصحوباً بسلوك فظ وهمجي، يجعل المرء يتساءل هل هؤلاء بالفعل ينتمون إلى روسيا؟!
أكتب (فشّة الخلق) هذه وأنا محاصر في هذه الجزيرة في الشرق الآسيوي الأقصى، بهذه النوعيّة من البشر وصخبها الذي يترفع عنه (زعران) المشرق.. وأتساءل بحزن وغضب حول هذا المصير الذي آلت إليه روسيا، رائدة (النشيد الأممي) والشمول الإنساني وطليعة المنظومة الاشتراكيّة الغاربة، الذي قضت أجيال من العرب والعالم في الإصغاء إلى ذلك الخطاب المعادي للرأسماليّة الغربيّة المذمومة والمحتقرة في تلك المرحلة..
هذه الرأسماليّة أو (الغرب)، كما يقول الفيلسوف الروسي (الكساندر زينوفيف) الذي كان جندياً في الجيش الأحمر وشهد بهجة سقوط برلين على يد هذا الجيش الذي يعتبر التاريخ، أن (تروتسكي) أبرز رموز مؤسسيه وهو المنظّر والمفكر، وقد قضى كما هو معروف، في المكسيك، بضربة فأس هشّمت رأسه الذي تناثر مِزقاً، على طاولة الكتابة في ذلك الليل اللاتيني، حين حلّ ضيفاً على صديقه الرسام (دييجوريفيرا) وزوجته الرسامة (فريداكالو)، هربا من الغضبة الرفاقية (الستالينيّة) التي لا تختلف في نزوعها الغريزي الدامي عن (الغضبة المضريّة) والتي حصدته حتى في أقاصي العالم، وهذه صفة ملازمة لثورات البشر، مهما اختلفت المشارب والاتجاهات والأماكن، الريبة والخوف ومن ثم التصفية للرفاق قبل الأعداء والخصوم، كي لا يعكّر صفَو مقامها معكرّ من رأي أو ملاحظة، أو نقد مهما كان صادقاً ومحباً ورفاقياً على جاري التوصيف الماركسي واليساري تتساوى بشكل فنتازي في هذا المشْتَرك الثوراتُ العظمى التي قلبت وجه العالم والكون والتاريخ مثل الثورة الفرنسيّة بالدرجة الأولى وكذلك الروسيّة السوفييتيّة، وحتى تلك الكوميديا الدمويّة مثل اليمن الجنوبي، أو دمويّة من غير كوميديا مثل(كمبوديّا) الخمير الحُمُُر وغيرها. (كمبوديا) التي زرت منذ فترة فيها مدينة (أنكور) بمعابدها المقدّسة وصنيعها الروحي المدهش.
يتساءل زينوفيف، «ما هذه الظاهرة التي تسمى الغرب الظاهرة التي أنزلت تلك الضربة الماحقة بدولة عظمى جبّارة دون أن تطلق طلقة واحدة، فيم يكمن مصدر قوتها؟ ما آفاق تطور البشريّة تأسيسا على هذا المال الذي آلت إليه معركة الغرب التاريخيّة ضد الشيوعيّة» طبعا الفيلسوف الروسي الذي كان ناقداً فذا للشيوعيّة كما طبقت في بلاده، لا يقر بالانتصار النهائي للغرب ولا بسقوط الأفكار العظيمة.. وهناك حزمة من الأسباب والشروط الأخرى في هذا السياق.
بحزن وغضب أتساءل لكني أقول ان هؤلاء ليسوا إلا أقليّة ضئيلة من الشعوب الروسيّة التي تشكل أرضها سدس كوكب البشر بأجمعه.
***
عام 1980 على ما أظن، ذهبت إلى (صوفيا) عاصمة بلغاريا المرتبطة بموسكو عبر تبعيّة مطلقة، ذهبت حالماً بدراسة السينما حين اكتشفت أن تلك الدراسة تستغرق ثماني سنوات طوال على شخص ملول وغير منضبط مثلي.. لم أكمل غير عام مثل معظم أسفاري ومشاريعي المبتورة دوماً.. خلال ذلك العام تعلمت شيئاً من اللغة البلغاريّة. أتذكر كان كتاباً أصفر اللون. وغالباً ما كنت أتغيّب عن حصص الدراسة الصارمة التي ميّزت العهد السوفييتي..
كنت أذهب الى السينما والمسرح وحيداً أو مع أصدقاء كانوا هناك، مثل خالد درويش وتهامة الجندي وكذلك جواد الأسدي. كانت السينما البلغاريّة على نحو من الازدهار الإبداعي أسوة بسينمات الدول الاشتراكية حسب التسمية الرائجة، رغم القمع بسيادة الرأي الواحد، رأي الحزب والواقعيّة الاشتراكية التي بدأت تتحول إلى جثة، لم يعد إلا الكتَبة من يركن إلى تصديق أطروحتها المقنّعة بأقنعة الثقافة والعدالة الاشتراكية.
كانت علامات زمن آخر ترتسم في الأفق، زمن غامض وملتبس، لكنه قادم لا محالة كما كان يحدس ويفصح أهل الثقافة والفن في تلك البلاد الثريّة..
كنا نذهب إلى السينما البلغاريّة مثل أفلام (كريستو كريستوف) الطليعيّة بالمعنى العميق.. أتذكر أحد افلام (كريستوف) البطلة تذهب دائما إلى المطاعم والبارات، لكنها لا تشرب ولا تأكل، فقط تتأمل المشهد البشري في هذه الأماكن الضاجّة.
وحين يسألها أحدهم، تجيب، أراقب الناس كيف ينتحرون على هذا النحو الاحتفالي الصاخب..
أو أفلام (فلليني) والموجة الايطاليّة المزدهرة التي بدأ في عرضها معهد السينما وكانت لدي فكرة أو خلفيّة ما، عن هذه السينما الفريدة عبر أندية السينما في القاهرة أو نادي السينما في دمشق الذي كان يقع قريباً من المستشفى الطلياني بعد (الصالحية)..
رغم ذلك التغيب والإهمال عرفت بعضاً من اللغة البلغاريّة شديدة القرب من اللغة الروسيّة، مما أتاح لي بعد هذه السنين المتراكمة التي أخالها أحقاباً، أن أفهم عبارة (أراب س بارا دوي نافادي) الروسيّة (عربي بلحيته في الماء) كنت أسبح في حوض الفندق المطل على البحر الشاسع، حين نطقها الأزعر الروسي، مما عكّر المزاج، في آخر يوم أودع فيه الأمطار المضيافة والغيوم في هذا البلد الهادئ ببساطة أهله وحسن تعاملهم مع الغريب.
***
(تودروف) المفكر المقيم في فرنسا، بلغاريّ الأصل وكذلك (جوليا كريستيفا) وُصفا بالمنشقين ابان المرحلة الاشتراكية، وهي صفة لا يقرها الكثير من هذا الصنف الثقافي الرفيع، الذي ينتمي إلى تلك المنظومة الشرق أوروبيّة كي لا تُستخدم من قبل الغرب لأغراض دعائية.. تودروف، إثر التحول الذي حصل في بلاده، كتب أن (الشر) أيضا نسبي جداً، ما كان شراً في تلك الحقبة الاستبداديّة، أصبح أكثر (شريّة) كتب ذلك إثر التحول مباشرة وما أعقبه من فوضى تصاحب عادة هكذا مرحلة في التحولات المجتمعية والسياسية العاصفة.. هل تغير الأمر الآن؟!
***
شبح عاصفة في الأفق
الطيور ترتجف (عن حزن أم نشوة؟)
في وكناتها
الحيوانات تشرئبّ بأعناقها
نحو السماء
راكبو الموج والمظليّون يعودون
سريعا إلى اليابسة
بدأت الأمطار الغزيرة محمولة
على جناح الريح
ديكة تلوذ مع شحّاذين بُترت أيديهم
بتمثال بوذا
الجميع بانتظار القادم المجهول
***
أستعيد ممارسة هواية أثيرة، هي الجلوس وحيداً في الفنادق أمام بوابة الاستقبال، أرى القادمين والراحلين من مختلف البلدان والأصقاع، والقارات، المتحضرة، المتخلفة، البيضاء، الصفراء، السوداء، الشقراء.. تشكيلة بشر وألوان، سُحنات وأحجام، ترتسم دوماً على بلدان بعينها، وحتى في ظل هذا الاختلاط (العولمي) تظل السمات الأساسيّة، لانتماءات الأجناس وأصولها قائمة ومتعينة في هذا السياق الذي عرفته السلالات والأماكن في تاريخها الطويل.. غير الأوروبي حتى لو عاش أجيالاً، وامتلك جنسيّة البلد مثل أهلها، يظل عربياً أو افريقياً أو لاتينياً.. وعلى رغم الكثير من الحقوق الديمقراطية المتاحة بشكل يشطّ عن المقارنة مع بلدان الأصل الفاقدة غالباً لأي قيمة انسانية وأخلاقيّة.. ذلك لا يغير كثيراً من النسق المتحكم مثل قدر الولادة والموت واللون، وفي نظر السكان الأصليين..
أحياء المدن العريقة التي لا تحبذ أغراباً ودخلاء تتجنبهم بكافة الوسائل، ولا تبعدهم من ذلك حقوق الجنسيّة والعيش الطويل..
أجلس في ردهة الفندق المحاطة بأواني الفخّار وتماثيل الفيلة على حواف الأحواض السمكيّة، أحدّق في الوجوه والسحنات، حركة المسافرين والقادمين… هذه المرأة المسنّة على عكازها تقاتل من أجل ما تبقى لها من حياة، وتلك الفاتنة التي يفوق حسنها كل أوصاف الشعراء وادعاءاتهم، لا شك ستترك ندوباً في الذاكرة حدّ البكاء والنحيب مثلما كان يفعل الأسلاف على حطام الزمن والأطلال.. هذه العائلة الصاخبة وذلك الرجل المتأمل الحزين جاء هرباً من ضغوط موطنه الأول حتى لو كان جنة الله على الأرض، فكيف بجحيمه؟ من العائلة وظروف العمل القسريّة.. الخارطة تتمدد وتطول بلانهائيّة حركة القدوم والغياب الذي يطوي كل أثر في جوفه المعتم البعيد، حركة الترّحل والهجرات والملّمات التي يزخر بها عصرنا أكثر من العصور التي سبقته في هذا المضمار الذي بقدِم الإنسان والحيوان..
أجلس في الزاوية المواجهة، وكجزء من هذه الهواية الممتعة، أيضاً في مقاهي محطات القطارات، حتى حين لم أكن على سفر.. تلك المحطات القديمة بدخانها وحفيف أزمنتها المتطاير…..الولع بالمحطات الواقعيّة وتلك التي يوثقها الأدب والسينما، مثل محطات القطارات التي تنتمي إلى بدايات النهضة الصناعيّة، محطة (سيرجي ليوني) في فيلمه (حدث ذات مرة في الغرب) حين كان قاطع السكّة والطريق (هنري فوندا) وهو ينتظر القطار، وسط الفراغ المحتدم والضجر، يحاول أن يأخذ غفوة سريعة، لكن تلك الذبابة اللعينة تحوم حول وجهه تطير وتحط، وهو يحاول إبعادها، بيده وبمسدّسه، مسدس رجل الكوبوي بلباسه المعهود، لكن الذبابة لا تكف عن الطنين والإزعاج، حتى يطلق عليها النار، في مشهد من أجمل مشاهد السينما.. مقاهي المطارات لابد أن تكون مسافراً، لذلك أذهب مبكراً لاستمتع بالمشهد أطول فترة قبل أن نُحشر في ذلك الصندوق الحديدي المحلّق في فضاء المجهول.
هذه الهواية الأثيرة على قلبي، ربما تعود جذورها إلى زمن الطفولة، حين كنا نرقب قوافل الجمال والحمير المترحّلة، من الفتحات الطينيّة، في بيتنا على حواف الوادي الذي تسيل مياهه وطيوره مع حركة القوافل الذاهبة إلى (البندر) وتلك الراجعة بشوق إلى ديارها.
***
آخر كل نهار
تنسحب الشمس إلى مخبئها
قرفاً من هذا العالم
***
لم يعد يخاف الحياة
لم يعد يخاف الموت
لم يعد يخاف الآلهة:
إنها اللحظة القصوى
للسقوط في الجنّة
أو الجحيم..
***
ماذا يخبئ للسوريّ
هذا النهار أو هذا الليل
عدا ظلم ذوي القربى
ومذابح تترى في الطريق
***
سنجاب يتسلق الأسلاك، أتذكر شوقي أبي شقرا (سنجاب يقع من البرج) وكنت ذات زمن في بيروت، أهم بمغادرتها إلى مدينة أخرى، كنت في مقام التردد والحيرة القصوى، هل أغادر أم لا؟ سحر بيروت وأهلها، فتنة الليالي، السهرات والكتب (أندلس وشام) وباريس أو ما يشبه ذلك.. كنت في مقام الحيرة حين باغتني عنوان كتاب أبي شقرا (حيرتي تفاحة تجلس على الطاولة)..حين أقرأ أبي شقراء تتهادى أصوات رعاة تائهة في البراري، أو صخب أطفال يلعبون… أبو شقراء طفل الشعر العربي الكبير من غير ادعاء ولا حفلات تطويب لعالميّة كاذبة.. «أفتح أظافرك مروحة /تخدش الحياة/ في بطنها»
***
كانت تشرب رحيق كروم الأندلس
ذائبةً في السرِّ
تشرق بدموع البهجة والهذيان
***
آسيا محمولة على قرن إعصار
وليس قرن ثور
كل لحظة يمر فيها شبح العواصف
ترتعد وعيونها شاخصة
نحو البحر
الطيور فوق القباب
وعلى ذُرى الأشجار
تنتفض جذلاً
الطيور البريئة تنتشي بالخراب
الرهبان بستراتهم الصفر يتضرعون إلى الخالق
(ليس برد القضاء بل باللطف فيه)
آسيا الشرق الأقصى، جزر الهند الصينيّة (هوشي منه الجنرال جياب)
المولودة بين رحم الطوفان والثورات
دائما على وترَ التّرقب والانتظار
***
الأم تحنو على أطفالها
الشجرة على العصافير والسناجب
وليل الصقيع يقسو
على مشرّديه وجرحاه.
***
المساء يسحب عتاده ومكلوميه
إلى خلف أسوار الغابات
حيث أمة من الحيوانات وما لا يُحصى
تبدأ حياة سرّية وصاخبة..
حركة شعوب الليل
في مسارها السرمدي
إشارات وردت في النص
j (الجـِلب) بكسر الجيم وفتح اللام ، الحقل وهو مقسّم إلى أجزاء صغيرة ، و(الجلبة) واحدة تلك التقسيمات المعروفة في القرى العُمانيّة والواحات …
j (الجمال مزيد من الجمال) عبارة رواها بورخيس في أحد كتبه عن أسقف لاتيني كجزء يتكرر في صلاواته الكنسيّة .. اللهم ارزقنا مزيدا من الجمال …
j أين تلك البطاح التي تسيل على جوانبها أعناق المطيّ … إشارة إلى بيت الشاعر :
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا / وسالتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ
j في الإشارة إلى الجراد ، ما بين مزدوجين ، من كتاب (هجرة الحيوان) لعبدالحميد الوسلاتي
j (……) ما كان أغنانا عن الحالين) من لزوميات أبي العلاء المعري المعروفة
«الزمان الأول» :
j إشارة إلى قصيدة حسّان بن ثابت التي يقول في بعض أبياتها : لله درُّ عصابة نادمتهم / يوماً بجلّق في الزمان الأول / يسقون من بَرد الصقيع عليهم/ بردى يصفّق بالرحيق السلسل ِ…
j من كتاب الفيلسوف الروسي (زينوفيف) الغرب أو ظاهرة الغربويّة ترجمة نوفل نيوف . عادل إسماعيل
j (الغضبة المضريّة) إشارة إلى بيت بشّار بن برد:
إذا ما غضبنا غضبة مضريّة
هتكنا حجاب الشمس أو أمطرت دما
j إشارة إلى فيلم (سيرجي ليوني) وقد أنجز المخرج ذو الأصل الايطالي في أمريكا ثلاثيته المعروفه في زمنها (حدث ذات مرة في الثورة) و (حدث ذات مرة في أمريكا) والثالث ( حدث ذات مرة في الغرب) والمشهد كان البداية المضرجّة بالصمت والترقب في سياق هذه الدراما.. الطريف أن ليوني قبل هذه الثلاثية أُنجز مجموعة أفلام بعنوان (كاوبوي سباكتي) التي حملت توقيعاً مستعاراً بدل اسمه الحقيقي..
j (أولئك الذين ينشرون الحِداد بين الأمم) عبارة للفيلسوف ذي الأصل الروماني (سيوران) من كتابه (تاريخ اليوتوبيا) ترجمة آدم فتحي.. وقد وصف بها سيوران ، الأقوام المجريّة القديمة المحاربة … وهي ربما أكثر دقةً في توصيف الأقوام التركيّة – الطورانيّة بمسالك تاريخها المتشعب في الجغرافيا البشريّة وعنفها الكاسح والغَلبَة ، في إقامة الإمبراطوريات على وعورة هذه الجغرافيا واتساعها …