د. نورالدين محقق

تأسس التجارب الكتابية العربية الحديثة وفق منظور انفتاحي على العالم بأسره، على اعتبار أن هذا العالم هو ملك للإنسانية جمعاء، وليس هناك أقدر على التواصل معه في اختلافه وتنوعه من الكتاب وفي مقدمتهم الشعراء، ذلك أن الشعراء حتى وهم يصفون حياتهم اليومية، فإنهم من خلال هذا الوصف نفسه يصفون تجارب إنسانية جديرة بالحديث عنها وتقديمها للناس في مختلف بلدان العالم. وعلى هذا الأساس يقرأ الناس تجارب الشعراء قديمًا وحديثًا، ويستحضرون العديد منهم مثل هوميروس والمتنبي وفيكتور هوغو وأدونيس والبياتي ومحمد السرغيني وغيرهم. ذلك أن هؤلاء الشعراء وهو يكتبون حياتهم اليومية، فإنهم بشكل من الأشكال يكتبون الحياة اليومية للعديد من الناس حتى وإن لم يشعروا بذلك في بعض الأحيان، فالشعر هو مرآة للمجتمع حتى وهو يغوص في الذاتية ويعبر عنها كما يريد ويشتهي، وهو ما جعلنا نتناول تجربة شعرية عربية متميزة ونقف عند ملامحها الموضوعية والفنية، ونحن نسعى لاستجلاء تجليات الحياة اليومية فيها. وهذه التجربة هي تجربة الشاعر العماني المعروف سيف الرحبي.

يمتلك الشاعر العماني سيف الرحبي وجهة نظر شعرية متميزة، فهو يسعى من خلالها إلى استحضار كل مكونات الحياة اليومية التي يعيشها أو التي سبق له أن عاشها ويُعيد كتابتها وفق منظور شعري منفتح على الأساليب النثرية في أرقى تجلياتها الفنية، وهو ما يجعل من كتابته الشعرية تسير في تيار القصيدة الحداثية، وتمتزج بكل منعرجاتها الجمالية. وقد كتب العديد من الأعمال الشعرية وفق هذا المنظور الشعري الجمالي، يمكن أن نذكر البعض منها على سبيل المثال لا الحصر: «نورسة الجنون» و«الجبل الأخضر» و«أجراس القطيع» و«رأس المسافر» و«رجل من ربع الخالي» و«مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور» و«مقبرة السلالة» و«نسور لقمان الحكيم» وغيرها، وقد ترجمت مختارات من أعماله الأدبية إلى العديد من اللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والبولندية، كما كُتبت عنها العديد من الدراسات النقدية والأبحاث الأكاديمية.
سنجد أن الشاعر سيف الرحبي سينطلق في ديوانه الشعري الجميل «رأس المسافر» من الحديث عن المدينة، وهي في بداية عملية استيقاظها. وسيمنح عنوان القصيدة الأولى في هذا الديوان الشعري ذاته اسم «مدينة تستيقظ»، ليبين من خلاله الأجواء التي تكون سائدة فيها. بداية يصف الشاعر كيفية استيقاظه هو في آخر الليل، وكيف رأى المدينة من نافذته على ما يبدو حتى إن لم يشر إلى ذلك مباشرة، ثم يبدأ في الحديث عن النوم مجسدًا إياه في شخص حي، يتزعم قبائل بربرية. وهي صور شعرية تحضر فيها الاستعارات الحية بشكل فني بديع وممتع.
يقول الشاعر في هذا الصدد: 
تستيقظ آخر الليل 
تلقي نظرة على الشارع الخالي، إلا 
من أنفاس متقطعة، تعبره 
بين الحين والآخر
وحده النوم يمشي، متنزها بين
قبائله البربرية 
تتقدمه فرقة من الأقزام

الشاعر هنا كأنه يقدم مشهدًا سينمائيًا قويًا بأجوائه، بحيث تبدو الكلمات وهي تتحول إلى صور شعرية فاتنة، تغري بمتابعة القراءة والغوص فيها. وهو أمر معتاد في تجربة هذا الشاعر العماني الألمعي، حيث يجعل من الكلمات تتراقص في خفة جمالية مذهلة وهي تلتقي ببعضها البعض كي ترسم للمتلقي عالمًا شعريًا فريدًا. ويستمر هذا الوصف الشعري البديع لكل ملامح هذه المدينة والشخوص التي تتواجد بها في هذه اللحظات التي تحضر في فضاءاتها، وهي تُرى من النافذة، ليتم إغلاق هذا المشهد اليومي المقدم بإسدال الستارة عليه.
يقول الشاعر واصفًا كل ذلك: 
المصابيح تتدافع بالمناكب، قادمة
من كهوف سحيقة 
لا تحمل أي سرّ
السماء مقفرة من النجوم 
الجِمال تقطع الصحراء باحثة 
عن خيام العشيرة
القطارات تحلم بالمسافرين
لا أحد … لا شيء…
أغلِق الستارة 
فربما لا تحتمل 
مشهد مدينة تستيقظ
 
يصف الرحبي في هذا المقطع الشعري سيرة الحياة اليومية، لا يكتفي بهذا الوصف فقط، بل إنه يهرب من الواقع اليومي ويستحضر في المقابل الواقع الثقافي الوجودي، بحيث تصبح المدينة مدينة ثقافية شعرية وليست فقط صورة لمدينة واقعية ليس إلّا. وتلك صفة من صفات الشعر القوي وعلامة مميزة لطرق اشتغاله الفني. إن الشاعر هنا، وهو يصف المدينة بدءًا من آخر الليل إلى بداية حلول النهار، فإنه يمهد بذلك لعملية استمرارية التدفق الشعري فيما سيأتي من قصائد هذا الديوان الشعري، إذ سنرى أنه سيقوم مباشرة في القصيدة الثانية للحديث عن علاقته بالغرفة، غرفته، وبالمقهى، مقهاه المفضل. هكذا سيحدثنا عن نفسه وعن كيفية مغادرته غرفته وذهابه إلى المقهى، وكيف سيقضي وقته فيها. إنه يقوم بذلك بواسطة لغة شعرية موغلة في العمق ومحيلة على سيرورة الحياة اليومية في مرورها وفي تأثيراتها على الإنسان. 

التجربة الشعرية الحداثية
إن الشاعر وهو يفعل ذلك يُحوّل مجال اهتمامه من الحديث عن القضايا الكبرى، إلى الحديث عن القضايا الصغرى التي تمس كيان الإنسان المعاصر وتحدد نظرته إلى الوجود، وهو بذلك يسير في غمار التجربة الشعرية الحداثية ليس العربية فحسب، وإنما التجربة الحداثية الشعرية في العالم كله. إن الشاعر هنا يخلق عالمه الشعري الخاص به ولا يسير وفق عوالم الشعراء الآخرين لاسيما الذين ينشغلون بمآسي العالم الكبرى وينسون أن الشعر يكون في كل ما يرتبط بالذات الشاعرة ومختلف خصوصياتها التي قد تكون صغيرة في نظر الآخرين لكنها كبيرة في نظره، وهو ما يجعل منها محور شعره واهتماماته الفنية.
يقول الشاعر واصفًا هذه الحالة اليومية: 
 في الصباح عندما أستيقظ 
يستيقظ العالم في رأسي
بكائناته وزعيقه الذي يهرس العظام
أغادر غرفتي التي تشبه كهفًا مليئًا 
بالقتلى 
وأدلف المقهى
أحدق مليًا في الفنجان الشبيه بأفعى
تسترخي في ظهيرة صيفية 
وأفكر أنه فنجاني الأخير في هذه المدينة

في هذه القصيدة يسجل الشاعر يوميات حياته بشكل شعري عميق، إنه يتحدث فيها عن انشغالاته التي تبدو صغيرة في نظرنا، لكنها تشكل العمق الإنساني بغوصها في أعماق الذات الإنسانية ولحظاتها اليومية التي تمر بزمن عابر، لكنها تترك  في النفس آلامًا وجروحًا حينًا، وتخلف وراءها فرحًا ومتعة حينًا آخر، لكنها في كل الأحايين تسجل مرورها في شوارع الذاكرة وتنغرس في طياتها بحيث لا يستطيع النسيان أن يقترب منها، ذلك أنها هي التي تحدد شخصية الشاعر وتجعل منه مُعبرًا عن كل هذه اللحظات الإنسانية المختلفة. إن الشاعر هنا وهو يتحدث عن المدينة لا يتحدث عنها باعتبارها معمارًا فحسب، وإنما يتحدث عنها باعتبارها كائنًا حيًا، فهي تشعر بما يشعر به كل المتواجدين في فضاءاتها. الشاعر هنا يُشخص هذه المدينة ويذهب في عملية الاقتراب منها إلى الغوص في دواخلها وجَعلها تبوح بأسرارها تارة على لسانه هو بالذات، وهو يقوم بوصفها وتارة أخرى من خلال كلام الشخوص المتواجدة فيها والعلاقات التي يقيمونها مع بعضهم البعض، وهو ما يمكن اعتباره تجديدًا لافتًا للنظر في مسار القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة على حد سواء. 
إن لعبة الفضاء المكاني تتغير، في الفضاء الأول تحضر الغرفة بكل حميميتها، كما يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، وفي الفضاء الثاني يحضر المقهى بكل ألفته الكبيرة أيضًا. إن الشاعر وهو ينتقل من فضاء داخلي إلى فضاء خارجي يشعر بالزمن وهو يمر، ويشعر بالأوقات وهي تتغير، إنه كما يقول «قادم على حروب وقبلات، يكتشف نكهتها بعد قرون» وهو ما يجعله لا يتردد في عملية تسجيلها والكتابة عنها.

شعرية التأمل ومرور الزمن 
يبني الرحبي شعره خلال دواوينه الشعرية على فلسفة التأمل في الحياة اليومية واستحضار مكوناتها، وكيفية مرور الزمن وتأثيره اليومي في الكائن. هكذا نراه في قصيدة «بخطوة الغيب» يتحدث عن انفجار اللحظة باعتبارها زمنًا قصيرًا يمر، وفي عملية انفجارها تتبدى له امرأة وهي تعبر الشارع وتقطع بعملية عبورها شغاف القلب، نظرًا لجمالها الفاتن غير المفصح عنه هنا إلا خفية. وهو في حديثه عنها يربط بينها وبين الحياة، وفي خضم كل ذلك تحضر المأساة بكونها تلج أبواب هذه الحياة بشكل أو بآخر، ويجعل من الليلة ذاتها ليلة ملعونة صعبة لا يمكن الوثوق بما تحمله من أسرار مدوية قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. نلاحظ هنا أن الشاعر يمر من لحظة الهدوء والتأمل اليومي إلى لحظة الانفجار الوجداني الشجي، ما يجعل تأمله ينقلب من اللذة إلى الألم في زمن غير قابل للنسيان. وإذا كانت اللحظة، أو بعضها على الأقل، تخلف كل هذه الآلام النفسية، فإن العمر وهو يسري يشكل حياة أخرى، حياة ملؤها الفرح والأسى، السرور والحزن، كل ذلك في عملية مستمرة وتداولية بين الشيء وضده.
 يقول الشاعر واصفًا «كل هذا العمر»:
 ثلاثون عامًا… كل هذا العمر الذي
حوّشته من دهاليز الأجداد 
يفيض الآن على كتف الصحراء
وأنهارها الجافة 
ثم ما يلبث أن يتابع استعراض لحظات عمره الذاهب بسرعة البرق التي لا تتوقف أبدًا، باحثًا عن ظله الذي يبدو أنه أضاعه في معترك الحياة اليومية التي لا تنقضي معاركها إلا لتبدأ من جديد. هكذا يصور نفسه وهو يجلس على مصطبة في الشارع ويتابع سيرورة الزمن ويكتب عنه المسودة تلو الأخرى. إنه وهو يفعل ذلك يسعى للقبض على الزمن عن طريق الكتابة عنه باستمرار وتسجيل لحظاته الهاربة. وهو في عمله الدؤوب هذا يكتب عن العام الجديد وهجرة الأسلاف وعن أحشاء الصباح وعن وجوه تطلع من السديم وعن الحب وعن الليالي وعن البراءة وعن النوم والاستيقاظ. إنه يكتب بالفعل، لكنه وهو يفعل ذلك يجعل من الشعر رفيق دربه الأبدي وحارس نهاراته ومساءاته التي لا تنتهي إلا وهو جالس في غرفة التأملات الإنسانية العميقة.
يقول الشاعر سيف الرحبي في إحدى قصائد هذا الديوان الشعري، وهي قصيدة تحمل عنوان «ليلة أخرى»:
سأنام وأترك كل شيء للريح 
النابحة أمام بابي
سأترك القلم والسجائر والمنفضة 
الملأى بفيالق المغول وهم 
يغتصبون السبايا في 
مدن الذاكرة
سأنام وأترك كل شيء للريح  
والمطر الراعد وهو يقرع نافذتي
طوال الليل ويتسلل إلى نومي
مثل كابوس هائج أو رحمة إلهية

هكذا يبدأ ديوانه الشعري هنا بعملية الاستيقاظ والنهوض والذهاب إلى المقهى ورؤية العالم وتحولاته التي لا تنتهي، يقوم بعملية اختتامه، بالحديث عن النوم، في دورة حياتية مكتملة. وما بين الاستيقاظ والنوم تتوالى قصائد هذا الديوان الشعري معبرة عن أعماق الشاعر ونظرته إلى الحياة اليومية وهي تسير في منعرجاتها، والناس فيها بين ذاهب وراجع، بين مسافر وبين عائد، ذلك أن الحياة في نهاية الأمر ليست سوى سفر مستمر، وما الشاعر وهو يعبر عنها من خلال شعره سوى مسافر ضمن كل المسافرين فيها، وما رأسه إلا «رأس المسافر» بين الكلمات والأشياء، بين الاستيقاظ والنوم، وهو أمر ليس باليسير على كل حال.

التصوير الجمالي المبدع
يغوص الشاعر سيف الرحبي في ثنايا الحياة اليومية واصفًا إياها في شعر صافٍ جميل يكون بعمله هذا قد جعل من الشعر وسيلة تعبير غاية في التصوير الجمالي المبدع، وجعل من التأمل الشعري طريقة فنية غاية في الإبداعية، وفتح بعمله الشعري المتميز هذا آفاقًا جديدة في الكتابة الشعرية العربية الحداثية بامتياز، وهو ما جعل من شعره في مختلف تجلياته وتمظهراته المتنوعة، يمتد في التربة الشعرية العربية الحداثية، بانسيابية كبيرة ويحظى بالتقدير النقدي الجدير به ■

  • من مجلة العربي – العدد 770