إعداد : محمد الهادي الجزيري

الصورة متاحة لك ..لكنّها بعيدة.. بضغطة زرّ يمكنك أن تقترب منها
وستسمع فقرة شعرية بصوت المنشّط ومقدّم البرنامج الغد (بيت ياسين)..ياسين عدنان..
ولتكن هذه الأبيات المقروءة أوّل تحية منك لقائلها الشاعر الكبير سيف الرحبي …
“تتسلل الحياةُ من يدي، خلسة، بعد أن
أمسكت بها
أحدقُ فيها، وعلاً أدركه هياجُ القناص،
فأنثني على عقب مسائي نحو كأسي
الأولى، لأطاردها فيما يشبهُ
بداية ميلاد مجرةٍ في الرأس
أحتمي بنخيل الماضي
أتسللُ إلى أحلام نائميه
على السُفوح المغميّ عليها بالشمس والنسيم
أتفقدُ رعايا ذاكرتي
كقائدٍ يتفقدُ جيشه الهارب من مذبحة.
…….
العيون التي توقظنا حدقاتُها في الليل
وتتركنا أرقى
هي عيونُ الأحبة الغائبين”.

شخصية اليوم ..تمشي في الأسواق وتفعل في الدنيا كلّ أفعال الحياة، حبّا وسلوكا وكتابة.. نثرا وشعرا وصحافة..، أطال الله عمره وزاد من إبداعه..، إنّه العُماني الشاعر الفذّ والصحفي اللامع.. والرحّالة الجوّاب.. سيف الرحبي ..

أذكر أنّ وفدا متكوّن من الفائزين بجائزة “أثير” ومجموعة من الكتّاب..، قصد مجلّة نزوى وكان ذلك سنة 2015،  واحتفى الأستاذ سيف الرحبي بنا وتناقشنا في مختلف المواضيع ..وكان كذلك على رأسنا الراحل عبد الرزاق عبد الواحد بقيادة الأستاذ الشاعر عبد الرزاق الربيعي..، وكنت أعرفه بالاسم.. عبارة عن مبدع أقرأ له..، ولم أكن أحسب أنّني سأخوض في الاحتفاء به وتتّبع أثره في أدوات التواصل الاجتماعي لأكوّن عنه فكرة جيّدة، تسمح بأن أكتب نصّا يليق به وبقامته المضيئة..، وها إنّي سارح بكلّي في بحر إبداعه..، متذوّقا نثره وشعره..، مرتشفا للكتابات التي حبرت عنه..، كما شاهدته في برنامج قناة “الغد” كما ذكرت آنفا…

رأى النور ذات 1956 بالمنطقة الداخلية بولاية سمائل 1956 بقرية سرور..، وتلقّى أوّل الدروس بالكتاتيب في عمان وكذلك بالمدرسة السعيدية بمسقط التي أنهى دراسته فيها عام 1971، ثم انتقل إلى القاهرة، فدرس فيها المرحلتين الإعدادية والجامعية، وأتم دراسة الصحافة بها وظل فيها حتى 1979…

أثْرت الغربة والترحال تجربة سيف الرحبي الشعرية والأدبية، كما تأثر بالمناخ الثقافي المصري في فترة السبعينيات معاصراً صلاح عبد الصبور، وحلمي سالم، وحسن طلب، ورفعت سلام، وعبد المنعم رمضان، وكان وجوده بالقاهرة فرصة لتفاعله مع رواد الأدب المصري في تلك الفترة..، حرص الرحبي طوال فترة وجوده في القاهرة على حضور الندوات السياسية والطلابية التي كانت -حسب وصفه- مشحونة  بالسياسة والأدب..

بعد القاهرة انتقل إلى العاصمة السورية  دمشق  (1979-1984) واصفاً القراءة الأدبية في تلك المرحلة بأنها كانت أوضح، والخيار الأدبي بأنه كان أكثر وعياً.. كما عاصر في تلك الفترة الشاعر نزار قباني وخليل حاوي وإبراهيم الجرادي ونزيه أبو عفش…

قبل أن نواصل هذا الذهاب مع حياة وشعر سيف الرحبي، أقف مشدوها أمام هذا المقطع القصير..، متمنيا أن أتحوّل يوما ما إلى طائر اللقلق ..لأشبهه..، أنصتوا ماذا قال؟:

“آه من يمتلك روح اللقالق
في عزلاتها الكبرى أمام البحر
وحيدة تنام وحيدة تستيقظ
بعيدة عن السرب
كانت في الماضي تتنزه على أطراف النهر
بأعماق الوادي
تطاول الجبال بأعناقها…”


يترأس حالياً مجلة نزوى الثقافية الفصلية التي تصدر في مسقط…، وأصدر عديد الكتب الشعرية والنثرية من ضمنها: نورسة الجنون، شعر (دمشق، 1981)، الجبل الأخضر، شعر (دمشق، 1981)، أجراس القطيعة، شعر (باريس، 1984)، رأس المسافر، شعر (الدار البيضاء، 1986)، مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور، شعر (عمّان، 1988)، رجل من الربع الخالي، شعر (بيروت، 1994)، ذاكرة الشتات، مقالات، (1991) منازل الخطوة الأولى، سيرة المكان والطفولة (القاهرة، 1993) جبال، شعر، (بيروت، 1996)، معجم الجحيم، مختارات شعرية (القاهرة، 1996) يد في آخر العالم، شعر، (دمشق 1998)، حوار الأمكنة والوجوه، مقالات، (مسقط، 1999)، الجندي الذي رأى الطائر في نومه، شعر (كولونيا- بيروت 2000)، قوس قُزح الصحراء، تأملات في الجفاف واللاجدوى (ألمانيا –بيروت 2002)، مقبرة السلالة (ألمانيا –2003)، الصيد في الظلام (ألمانيا- بيروت) مقالات، أرق الصحراء (بيروت 2005)،(نشيد الأعمى -بيروت)، (حياة على عَجَل – بيروت) بالإضافة إلى رسائل وأطروحات ودراسات حول أعماله الأدبية…

يقول سيف الرحبي عن قصيدة النثر ..كلاما معقولا يعكس عمق تفكيره ورحابة إيمانه بالشعر ..بمختلف أشكاله وميولاته ومدارسه..، هذا قول الكبير الذي خبر كلّ شيء:

“ليس في ذهني وهم القطيعة التي يرتهن بها البعض، ولم أرَ يومًا أن قصيدة النثر حلت محل سابقاتها، على رغم انتشارها وتحولها إلى ما يشبه المتن الشعري، كذلك لا أرى ولا أستسيغ التفكير في أن هذا النمط التعبيري يحلّ محلّ آخر ويقصيه من أرض الإبداع، فأشكال التعبير في تاريخها مفتوحة على المتغيّر والمتحول…”

يقول الشاعر الرائي في قصيدة “الجندي الذي رأى الطائر في نومه”

عليّ أن أبعثر الجهات والمرايا
كرجلٍ ينهض من نومه
بطيئاً متكاسلاً
الجهات التي تطوّقني بألسنه اللهب
فلا أستطيع الوقوف
متعثراً بصخور البارحة
ووجوه تتقاطر في نومي، برؤوس مقطوعة
وقامات مديدة تشبه النخل الذي خلّفه أبي
تشبه المغيب الناضج كثمرة.
عليّ أن أبعثر الجهات جميعها
كي أستطيع أن أتبيّنكِ
قطرة في ظلام الصحراء”

أمّا هذه الفقرة الموالية ..فأهديها للكتّاب الصاهلين ممّن لا يرون مبدعا إلاّ هم، أطلّعوا على اعتراف الكبير سيف الرحبي ..في سياق حديثه عن “نورسة الجنون” كتابه الشعريّ الأوّل فهو درس لكلّ نرجسيّ مغرور.. غير واع بما في العملية الإبداعية من مراحل شاقة حتّى تُثمر وتُعطي أكلها..:

“بعد صدور كتابي الأول «نورسة الجنون» (1980) على عِلّاته الفنية الكثيرة، بحيث إني لو ألقيت عليه نظرة سريعة عبر هذه المسافة الزمنيّة الشاسعة بالألم والرعب والدماء، لوجدتُ فيه الكثير من الاسترسالات التي لا مبرر فنياً لها، وزوائد لفظيّة كثيرة، ولكن يبقى ذلك الدفْق الحماسي الذي يسِمُ البدايات في الكتابة. كان المناخ الشعري بأسمائه وإنجازاته المختلفة الذي يهيمن على تلك البدايات..”

قد تُرجمت مختارات من أعماله الأدبية إلى العديد من اللغات العالمية كالإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الهولندية، البولندية وغيرها، كما تحصّل سيف الرحبي على جائزة السلطان قابوس التقديرية للثقافة والفنون والآداب في دورتها الثانية سنة 2013، وذلك في مجال الشعر العربي الفصيح . كما حصل على عدد آخر من الأوسمة والجوائز التقديرية بالمنطقة العربية…


سيف الرحبي محيط وأمواجه متلاطمة..، قد كرّس عمره كلّه للجهد والبذل والقراءة والكتابة ..فكان هذا الصرح الشاهق..، وقد حاولت قدر الإمكان ولوج عوالمه المتسعة الرحبة المختلفة نثرا وشعرا ومقالة وحوارات ..وما خرجت في هذا المقال.. إلا بالقليل القليل..، فهذا الكاتب الشاعر يحتاج ندوات كبرى تعالج ما حاول وما اقترف من جمال.. لكي لا أقول:
“ما رأى وما سيرى….، وأختم بمقطع من إحدى حوارات الشاعر التّي قال فيها:

“على النقد العربي أن يذهب باتجاه العتمة
أكثر مما يذهب باتجاه الانحيازات الإيديولوجية”

ويقول:
“كل تجربة شعرية تحاول أن تغادر بعض عناصر موقعها الأول،
وتمضي إلى المجهول..”

وينخرط في استدراج بكاء شعريّ..

“كان عليّ أن أبكي أيها الموت
لكني لا أستطيع
دموعي تجمدت في محاجرها
كالصخر المتحجر في قعر بحيرة
البحيرة الجافة
التي تهزها رياحك العنيفة
كل ثانية وخلجة عين
لتعطي الوجود
دلالة العدم القصوى”

Read more: https://www.atheer.om/archives/605990/%d9%82%d8%a7%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d8%b6%d9%8a%d8%a6%d8%a9-%d8%b9%d8%a8%d8%b1-%d8%a3%d8%ab%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d8%b9%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d9%8a%d8%b1-%d8%b3%d9%8a/#ixzz7s5ZGibcc