دراسة نقدية غالية خوجة
لأن الشعر إبداع، فسره يكمن في الـ((كيف)) أي كيف يحول الشاعر حواسه ورؤاه ومواقفه ومخيلته وثقافته، إلى لغة لم يسبق أن قالتها أي لغة.. في طقوس هذا السر، تتوهج تجربة الشاعر سيف الرحبي، منتجة كيفيتها المتميزة وفضاء حضوراتها القادمة من الغياب.. فتتألق الصور الشعرية، حارقة قلقه وساحبة من رماده الحلم وهدير اللامألوف.
تحت البنية المكتوبة تتحرك روح البياض منزاحة من معنى الى معنى، تاركة آثارها بين حركة التنوع المنسوجة من السريالي والرمزي والملحمي واليومي والاحتمالي، هذا ما يتجلى بوضوح في ((معجم الجحيم))، الذي يضم مختارات من ثماني مجموعات شعرية: ((نورسة الجنون/ الجبل الأخضر/ أجراس القطيعة/ رأس المسافر/ مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور/ منازل الخطوة الأولى/ رجل من الربع الخالي/ جبال)).
لقد تناغمت في هذا الكتاب الشعري تحولات الـ((كيف)) وتنوعاتها المنبثقة من ((الجحيم)) كرمز تفرعت من أغصانه قصائد الشاعر الواعي بمفرداته الخاصة ((معجم)) والهادف بشكل غير واع الى أبعاد لا مرئية تراكمت في الرمز المضاف ((الجحيم)) حيث اللاثبات.. بمعنى آخر، حيث أبجدية الجحيم في تحول نيراني مستمر يضيء المعتم من الحياة واللغة والموت، ثم يفاعل ما أضاء من خلال حدث شعري أو صورة احتمالية أو موسيقى ملونة ترف من أجنحة النورسة، عابرة أجراس الخضرة والهجرة والدم والصحراء ورنين الثلوج والقصائد على الجبال. وهكذا يتسع فضاء الجحيم متوزعا بين الرفيف واللون والموسيقى، ثم يجمع عناصره ويتصاعد مع معاناة الشاعر الذاتية والموضوعية، المتكونة من تجربة حياتية زاخمة بالحب والأرق والاكتشاف والوطن:
((كلما أطلق جمال حداءه في نزوى
أو سعل حقل في دمياط
يرتج لهما قلب المسافر في طنجة
أين أنت يا نجمة اعضائي الواهنة
غوايتي الأخيرة
في هذه الدجنة الباكية
توحد حواس الكلمات وطنها العربي عبر ارتكازها على فضاء جغرافي ضم الوطن من الماء إلى الماء، ((نزوى/ دمياط/ طنجة)) ووزع علائقه في هذه الصورة المشهدية المكثفة لجغرافية النص في السؤال: ((أين أنت يا نجمة أعضائي الواهنة..؟)) إن مقصدية الشاعر واضحة لدرجة انصهاره مع الوطن ((أعضائي الواهنة)) ولدرجة كشفه عن زمنية الشتات والتمزق والضعف والبكاء، نلاحظ أن القصيدة انكتبت بطريقة ((صورة كبرى)) لأن كل مفرداتها، وجملها ترابطت لتنتج من جزئياتها صورة عضوية واحدة.
تنتقل تمشهدات المعاش الى حيز آخر في قصيدة ((من الغرفة الى المقهى)) التي تنبني السردية الشعرية المتمحورة حول حدثها اليومي المنبجس من الذات الشاعرة الى محيطها، ضمن أنساق لا مألوفة تتنازع على المفارقة لتنجز مقولها الشعري:
((في الصباح عندما استيقظ
يستيقظ العالم في رأسي
بكائناته وزعيقه الذي يهرس العظام أغادر غرفتي التي تشبه كهفا مليئا
بالقتلى
وأدلف المقهى
أحدق مليا في الفنجان الشبيه بأفعى
تسترخي في ظهيرة صيفية
وأفكر انه فنجاني الأخير في هذه المدينة
لكن النهار في أوله
وأنا قادم على حروب وقبلات
أكشف نكهتها بعد
قرون)).
نص شعري تمشهدت مكوناته عبر ثلاث حركات صورية، أولاها كانت حركة الاستيقاظ، وثانيتها حركة المغادرة، وثالثتها حركة الغامض المتحركة في الخاتمة، أما مجال حركة هذه الحركات فهو ((الزمن)) كنقطة تقطعت أفقيتها وانتشرت دراميتها متعامدة في أطرافها المكانية ((الغرفة/ المقهى/ المدينة)) لتعود وتنقبض في العنصر المناظر للمجال الزماني ((أنا الشاعر)) المؤلفة بين الحضور والغياب كقطبين غائرين في البنية اللامكتوبة، وذلك من خلال انوجاد نهار نصي في النهار الموضوعي، وانوجاد الكلي في الجزئي ((يستيقظ العالم في رأسي)) فالعالم كلية استغرقها الجزئي ((رأسي)) لا ليمتصها، بل ليعكسها من مرايا المفردات بهيئة شبكة جديدة تتصير عبرها الغرفة كهفا والفنجان أفعى والنهار ظهيرة، والزمن قرونا.
رموز تدور في القصيدة كدائرية الزمن الذي جعل الشاعر سيف الرحبي يدور في ذاته مقنعا القارئ أنه يتحرك في الزمن، إلا أن ما تضمره القصيدة يقول عكس ذلك، فالشاعر خارج الزمن لكنه الزمن الآخر للنص.
التجريب والمغامرة
تتسم شعرية الرحبي بالتجريبية والمغامرة، ليس فقط في عناصر القصيدة بل في المجهول الذي لا يرضى بالانحجاب الكامل، ولا بالانكشاف الكامل وتلك التجريبية لا يتمكن منها غير المبدع الحقيقي الذي لا يستكين للجاهز ولا يكرر ما قالته اللغة، وكأن الشاعر يكسر مع ((زارا)) ألواح التقليد، كاتبا ألواحه مختلفة التشكل والتأويل والتشعب الرؤيوي الهاجس بالميتائي والإشكالي والراغب بحزم الكون في قصيدة أو صورة مفردة كما نرى في قصيدة ((أحلام القطارات)):
((أيتها الأشياء الراحلة في معراج
العدم
ما زلت يقين الدهشة
فوضى الجمال في
انسيابها الحزين)).
صورة تفلسف الزائل بفنية تختزل ما قبل ((الأزل))، وما بعده، وذلك ضمن مسارب متصوفة ((معارج العدم)) لا تعرف غير التصاعد الدرامي ((الذاتي/ الكوني/ القصيدي)) الذي يعبر إلى نفسه من بوتقة ((الرحيل)) و((الأشياء)) و((فوضى الجمال))، مساحة مدلولية يتواشج فيها البعد الحاضر من ((الغياب/ العدم/ الأزل)) وهيئة حضوره لا تأتي من أجل الانوجاد فقط، بل من أجل تغيير الانوجاد أيضا، ذاك التغيير الذي يتفاضأ في ((معجم الجحيم)) حتى يكشف عن أبديته وهذا ما نلاحظه في قصيدة ((هذيان الجبال والسحرة)):
((جبال تتلوها جبال))
هذه الأبدية من سراب الكائن
أي أسرار تخبئها
أي خلائق ستقذفها ذات يوم
في وجه كوكبنا
وقد استحال إلى خردة ورماد؟))
تتسريل لحظة التجلي لتكون((الأبدية)) المتمرئية بأثر ناتج عن أثرين ((سراب الكائن/ رماد الكوكب)) فمن السراب والرماد تلمع تحولات الجحيم أو الأبدية المنفتحة على رؤية العروج، بين ((العدم)) وبين ((الآتي- ذات يوم)) والمتخذة لنفسها رمزا نتيشوياً ((الجبال)) التي بإمكاننا استبدالها بـ((القصائد/ الحدس/ النار)) لنكون قادرين على استحضار حالتها التشكيلية المنفلتة الى ((أناها)) العليا بين براءة الصورة وبواكير المعنى، بين الذات والذات الأخرى، لكنها ليست بين الليل والنهار، لماذا؟ لأنها خرجت عنهما إلى ما وراء ذلك.. إلى أسطورتها الراعدة بين أيزيس وعشتروت والسحر والغابات المشتعلة والسماء المنهارة والجحيم الذي بدأ ولم يبدأ، لأنه دائما بدء جديد:
((كل شيء بدأ
كل شيء لم يبدأ
هكذا أبدأ
تموت وعول النفس في
خضرة الصراخ
هكذا تندلع حروب تغرق فيها سفن الأفكار
وهكذا أيضا أحلم
انني قائد اوركسترا
في جزر
تشتعل فيها النيران)).
* * * *
((معجم الجحيم)) مختارات من ثماني مجموعات شعرية للرحبي تضيء المعتم من الحياة واللغة والموت
في الكتاب ترتكز النصوص/ الكلمات على فضاء جغرافي واحد، فيتوحد فيه الوطن العربي.. عضويا وحسيا.
يبدو الرحبي في معجم جحيمه خارج الزمن.. لكنه في الحقيقة داخل زمن آخر هو زمن النص.
في الكتاب كثير من مسارف التصوف والتصاعد الدرامي.. والتجريب والمغامرة.
مجلة الكويت- العدد198