محمد عفيف الحسيني
بأية عدّة تتسلح القصيدة وهي تتوقف في الربع الخالي وكأنها تستوقف العالم بأسره، وتستحضر الكائنات والعناصر والتفاصيل والأزمنة؟ وبأية ساعة رملية تقاس مسافة الوحشة بين لاهاي والفلاة الطاغية المتفردة؟
هنا قراءة انطباعية في مجموعة شعرية حاولت تقريب القصيدة من صلصال الصحراء.
في صلته مع حيوات الصحراء* يكيد سيف الرحبي مكائده لغة من الغياب، يسيل على الحافات كوعل مرشوش بالضوء والنحاس، مقيما الصلة بين شخصيته كشاعر وبين كائنات الصحراء من نبض حيواناتها الحارسة للرمال، الشغوفة بالطرائد، والمتمتعة بالرشاقة دوما كنسر في الشعاب، أو كنصيحة قطيع من الذئاب، ثمة مناخات متشابهة بين سيف الرحبي وسليم بركات، مقاربات بين الصحراء والبرية الكردية، طموحها: وجدت آفاقاً يعيد إلي اسمي القديم / ملفعا بوجوه غائبة/ وأخرى ستغيب، ذكرى الاصدقاء الذين غابوا، ذكرى الصحراء تضرب بغطائها شاعر من الربع الخالي يقيم في لاهاي ويكتب عن الرمل، بأي ساعة رملية يقيس مسافة الوحشة؟ وبأي نسر يحلق فوق العاصفة؟
ألمح الساعة المعلقة على الجدار وقد فرغتْ من دقائقها وجفتْ من النبض
دوران أبدي في تخوم الجهات، بدو يصالحون حيواناتهم، يطمحون الى مصباح معلق فوق تخيلهم، يستنيرون العابرين في ليل امرئ القيس أو في هدأة الشاعر، عندما يتعب من التسكع، لم يبق شيء على قدميه/ عدا وعل جريح/ في غابة محترقة.
سيف الرحبي يوائم بين كائنات الصحراء وكائناته الخاصة، يسافر في جهة القلب، ويجعل من مكيدة عروق الشيبة جهة للقصيدة: ((على الهضاب وفوق سعف النخيل/ كانوا يعلقون قناديلهم المرتجفة/ بينما الريح الحدرية تجرفنا/ من غير انقطاع)). ثمة ما هو حميمي في ((رجل من الربع الخالي)) تنبع هذه الحميمية من حجارة قبور يشيدها على الاسلاف، على الزمن الضارب في الأب وذكرياته، في عربات تحمل البدو الى أمكنة مجهولة في الصحراء والزمن الغائب. انه الحزن دفينا، والامتزاج الحار بين الزمن القديم والآني.لغة متفردة في مكان موحش، وما الفرق بين لاهاي او صحراء الربع الخالي؟ لا الامكنة ولا رائحة الحرارة،  لا النخل او برودة الغرف تحمل الشاعر على الفرق، إن كان الزمن وحيدا، فنحن أولئك الذين نحتطب رماد الغابرين، رماد السنوات. زمن متداع في مجمل الصلصال من رغبة أن: ((نغرق جميعا في البئر الذي حفره الأجداد/ لنستقبل مساء آخر، مساء يشبه سيماءنا وسيماء الاسلاف. نمتح منها الغبار المتطاير والتشكيل الاولي لنسر في فضاء ما)).
ثمة تزاوج بين الصحراء وكائناتها، ممازجة صارخة وحادة، ليل العرافات وسائقي الشاحنات، ليل لم يرخ سدوله بعد، واستحضار لامرئ القيس وليله الطويل الذي ينزلق أملس كفراء العروس، فجر، ليل، صباح، بدو ملثمون بالحافة ونباح الكلاب والمواقد المرشوشة بالريبة:
الفجر يتفاقم ظله أمام العتبة
والطيور تأوي الى أمكنة غريبة
لقد ساقها الذعر الى الثكنات
فلا تسمع الا ارتطام أجنحة بأخرى
كمهاجرين فروا من مذبحة
كان صباحا معتماً منذ البداية
خطاب سيف الرحبي في كتابه مدجج بأسماء الحيوانات، شبيهه سليم بركات في كائناته الجزراوية ومختلفة في اسمائها، لكن الحيوات هي نفسها بقساوتها وفرادتها التي لا تروض، يتمتع نص الصحراء بميزة الانزلاق كرملها، والشاعر يعرف كيف يقبض على حفنة من رمل يرشه على بياض الورق ((فتأتي الكثبان والعواصف الرملية التي تضيع قافلة من الجمال في شعابها واعتزازها بأنها مكان متفرد، طاغ، يلتوي أبداً، وحين يراود الشعر الانطلاق اليها فانه:
على رجلين ثاويتين في النوم
أنا الذي ظن بأنه وصل
وعند أول مدخل
تنفست رائحة قهوة ونباح كلاب
فكومتُ جسدي
كحشد من المتعبين والجرحى
لكني عرفت أن الضوء الشاحب
يتسلل من رسغي
خيط دم يصل الشعاب بوديانها الأولى
تتماسك اللغة، وتحمل مكيدتها في هذه التداخلات بين زمن الشاعر وزمن الاسلاف، بين أمس المكان وآنيته، على حد قول ادونيس، وقصيدة سيف ليست عن الصحراء فقط، بل الاسلاف ينحدرون منها فنسمع وشوشة كلامهم ورنين أصواتهم من بعيد، وكأنهم قادمون للتو إلينا. وفي هذه الليلة يبتكر الشاعر حربا أخرى ويمضي وحيداً من غير أمل ومن غير رغبة. هكذا. هكذا. الى أن يصل المدينة ويختفي في مدينة غرقت في البحر، أو يختفي في كأسه تناص الاختفاء: الاسلاف اختفوا في شواهد القبور، والشاعر اختفى في قصيدته.
تأتي حميمية سيف الرحبي العميقة من ثلاث قصائد باسم أصدقاء:
جاؤوا من وحشة الطريق/ ملتفين بمعاطف/ زنارها خريف ينابيع/ ينهبون الليل والاحلام/ بجراحهم/ ولا يصلون أو: يحجزون المقاعد في الصباح/ كي نشرب القهوة وندخن/ لا يكاد يسطع الكلام من أفواههم/ إلا وتمتلئ الطاولات/ بالغياب.
ليس في الصحراء فقط يغيب الاحباب، وليس الاحباب هم من نلتقي بهم ابدا. انهم ايضا الذين في الغياب يرصعون قلوبنا بالذكرى، حاملين الفصول في جيوبهم وبقايا نبيذ، حالمين بأمجاد وصياحات قادمة. الزمن مفتوح ثانية على الحضور والغياب، زمن دافئ وحنون يرافق الروح في رحلاتها المتعددة، من لاهاي ومسقط وأمكنة اخرى يضعنا الشاعر في ارخبيل من الأشياء والكائنات نتلمسها او نتخيلها ببساطة ونتعايش مع فقدانها.  مجد للغائب، حضور للمكان، قصيدة لسلطة المعرفة: اين ذهبت الاصوات والحركات ذات يوم في تفصيل الروح؟ أين استقرت القافلة الغابرة بنسرها وذئابها ومصيرها؟ يتذكر الشاعر جده فيشعل شمعة في كهف، يظل يطوف حولها قرنا بعد قرن، حتى يتصدع ظله وتفيض ايامه بالدمع. ((مئة عام من عزلة)) الأسلاف وسحرهم القادم كطيور الوادي، مأخوذين في اللاشعور، وها هو الشاعر يبحث عنهم من جديد، فلا يجد الا أفقا يعيد الاسم القديم، ملفعا بوجوه غائبة وأخرى ستغيب مشهد متحرك مثل الكثبان الرملية، يطوي قرناً بعد آخر، ليستمد الشاعر تدفقه من جديد ويعيد للنسغ اسم الوردة والشجو.
الغياب والوحشة لازمتان للكتاب برمته، وبهما يتوّج الرحبي قصيدة يجعلها صلصالا متماسكا، يقول ما لا يقال عن الوحشة والغياب، وثمة ما يستوجب الغياب. كل شيء مرهون بمراجعة الغياب، ومرآة الحاضر لا تحمل الا الظلال الرهيفة لاولئك الذين غادروا أماكنهم وتركوها شاغرة، منتظمين في النشيد الناقص للشاعر والخيبة الحزينة التي ترتسم على صفحات ((رجل من الربع الخالي))، وكأننا نقرأ الصفحات ثم تتلون ببياضها من جديد. كتاب مفتوح على النسيان، جريح كذئب في عروق الشيبة التي من أوعر مناطق الربع الخالي وأخطرها (هكذا يسميها البدو)، ذئاب الصحراء الذين ما زالت بقاياهم تجتاز العصور الضوئية فوق رمالها:
الذين يرحلون دائماً
تاركيننا لوحشة الجدار
لمصير شاهدة على قبر.
والذين كانوا هم بقايا نار، نباح كلاب،ذئاب، أصدقاء، قهوة، نبيذ، زهر، أيام، حيوانات تذرف عويلها على حافة مملكة سيف الرحبي الشاسعة.
…………………………
* رجل من الربع الخالي/ سيف الرحبي
دار الجديد- بيروت
بريد الجنوب/ مارس 1996م