اسماعيل فقيه
ثمة كلام يأتي من أماكن بعيدة، حاملا تفاصيل واشارات وعبارات تجيب عن معناها بمجرد بروزها على الورق. فكيف اذا كان هذا الكلام من صحراء عنيفة على متن قصائد، مشغولة بعناية تحمل في ثناياها ذاكرة ممتلئة، وتنسرح على مسافات زمنية واسعة. واذا كان الشعر هو اللغة الأقدر على ترجمة الواقع والحياة، فانه حاضر وواضح في كتاب الشاعر العماني سيف الرحبي ((رجل من الربع الخالي)) الصادر حديثا عن ((دار الجديد))- بيروت. ففي الكتاب خيوط كثيرة ومتشعبة، تنسج صور المكان وما يحتويه من مفاجآت مفتوحة على احتمالات حقيقية وجاثمة في ذاكرة الانسان والأرض. ولقصائد الكتاب حضور في الأداء الشكلي والصوري، حيث اللغة هادئة وبسيطة، تشوبها مصطلحات قد ((تشوش)) على مجريات النص. ولكن تبقى اللغة ممسكة بزمام الصورة وتوظيفها في مكانتها- القادرة على تشكيل المعنى ونسيجه العام. ولأن فكرة القصيدة في ((رجل من الربع الخالي))- على ما اعتقد- تلتزم النظرية القائلة بوجود الشعر وعلى الشاعر اكتشافه، يقدم سيف الرحبي صورة ما يرى ورأى وشاهد في مكان احتشدت فيه عوامل جمة: جغرافية، تاريخية، انسانية، عاطفية… الخ.
من هذا المعنى يمكن الدخول الى تلك الحفنة من قصائد الرحبي.
إن صفاء الشعور الذي يتمتع به الشاعر جعله في وضع ميسور وفي لغة مطواعة لايصال جوهر الشعر الى القارئ. ولا يخفي القارئ- قارئ الشعر- انسجامه مع دلالات الاحساس الصادق التي تبثها القصائد. وكأن القصيدة هنا، أكثر لابلاغ كل الظلال والاحاسيس. بل ان ما يقوله الرحبي يكاد يطبع الشعور الانساني على أفق المستقبل، أي يشتغل على استحضار الذاكرة بما يتناسب ووقائع الواقع، دون أن يغفل معنى الحاضر- التقاطع بين الماضي والمستقبل. ولهذا الانتباه دلالة معرفية في انتاج الابداع وتحويله الى مادة ناشطة داخل القصيدة، تعطيها دفعا في اتجاه الشرح المختصر لبواطن وكوامن في النفس البشرية ينتهجها الشاعر.
إذن، استخدم الأسلوب بمهارة، ونجح الى حد كبير في التحكم في مجريات اللغة، دون أن يقع في مزالق. رغم بروز بعض ملامحها، واستطاع الافلات من الهفوات من خلال ذلك الصفاء الذهني والشعري لديه.
إن المكان – ((الربع الخالي)) الذي اخرج منه الشاعر نبض الشعر وصوره الواقعية الى حروف دائمة، يبدو،كما يصفه، محاولة  ذكية لتحويل الواقع الى صور تنبض بمعناها الشعري. وأهمية الذات الشعرية هنا، امتلاك الجوهر والتخلي عن زوائد جمة. قصدت قدرة لشاعر وبراعته في تحييد المشهد العام. (الصحراء) المفتوح على اشكال الوصف الكثيرة، والامساك بحقيقة الجوهر.وتاليا، السرد الخاطف  لمشاهد شاسعة، جاعلا بذلك، ضوء الكلام أكثر انبعاثا  وثباتا. وكما أسلفت- والشعر موجود- استطاع سيف الرحبي ان يدل على هذا الشعر، الذي أعاد صياغته باسلوبه الهادئ والرصين.
عن هذا المكان – الصحراء ((الربع الخالي)) يفتح الشاعر في أولى صفحات كتابه تعريفا: ((… ويمكنك ان تشاهد على مقربة من حطام الشهب، وهياكل العربات والفرائس، التحولات الرهيبة للرمال وهي تبتلع قطعان الجمال،وتحولات الجن وهذيان السحرة.. وعلى شفاف النجم الاول الذي كان يسري الاجداد على هديه، قبائل وافخاذا وحمولات، ضاع دليل القافلة، وشوهد صريعا قرب جثة نسر. هكذا في وسط هذا العالم، وبين كثبان هاوياته المطلة على سماء مقفرة، بكماء، تقيم الحياة قسمتها الاخيرة وتستمر شتاءات الجراد في التفقيس والانتشار والهلاك…)).(ص9)
وكلما أمعن الشاعر في دخوله الحذر الى (مخالب) ذلك المكان- الذي يبدو في قصائد، مكانا ضروريا، كي يمزج احساسه بواقع الحياة والمشاهد القاسية، أوجد فيضا في ذاته من حب وقلق واكاد أقول جدل:
((وحيدا، وخلف الجبال البعيدة في الذكرى
… سادرا أرقب المغيب
هذا الدم المنساب على أجنحة طائر
ثعبانا يفترس النهار بعينيه الدامعتين بالسواد
وخلف الأكمة يلعب النمر مع صغاره،
مضيئا
طلائع هذا الليل القادم
بمخالب أكثر حنانا من جسد امرأة)).(ص15)
هذا المشهد التعبيري يصوغه بذهنية مرهفة، وثاقبة في اقتناص اللحظة. يستعمل ذكاء الوصف والاختزال، مقدما الغرض الشعري عند انجازه الوصف.
في مشاهد أخرى، يجسد جهد الخيال ويمزجه بأسئلة التاريخ- التي تبدو مثل أجوبة:
((الآن
أقف فوق أقصى مراحل النسيان
حيث الجبل والذئب ينتحبان بأفظع
الذكريات
والأغاني تصعد من أفواه بنات آوى
مطرزة بالنجوم
وجدت أفقا يعيد اسمي القديم
ملفعا بوجوه غائبة
وأخرى ستغيب))(ص40)
واذا أراد أن يدل على كوامن أخرى في ذاته، ينتهج أسلوبه تحت تأثير الاحساس- الذي يفتح للقارئ- قارئ الشعر، مسربا صوب الخيال، فيه احتمالات العاطفة والشوق والحنان، وكلها ضمن صيغة، نابعة من عذوبة انسانية راقية:
((أغلق الباب وأنظر من ثقب
عاصفة
الى الحشد البشري
وأعرف بعد قليل… ستنتقل
المذبحة
بتفاصيلها
الى قلبي)).         (ص37)
إنه الشاعر هنا يخاطب المرأة بصيغة المخاطبة، مما قد يؤثر على الأسلوب، والشكل، إلا ان الفكرة التي ينطلق منها ليقول ما في داخله الى تلك المرأة- التي تعطيه إشارة الاحساس والكلام، تبررت، الى حد ما، المخاطبة التي لا تحبذها، اطلاقا، في أي قصيدة:
((ها أنا أيتها المرأة
في البلاد التي كنا فيها
قبل أطياف وسنوات
افتش عن عنوانك
في حروف الاسماء والتواريخ
بالمفكرة المليئة بالقهوة والنبيذ
ومقهى المحطة القديمة التي يعلوها الدخان
حيث تتقاطع طرق الشمال والجنوب بكراهية
والقطارات تسرح في خيال النائم
كالذئاب
بين أناس عيونهم تجيش مخالب ضدي
كأنما ذبحت سلالتهم بالامس
أو سقتهم الى أفران السلق بالأسيد)).    (ص51)
في قصائد أخرى يبدو سيف الرحبي أكثر التحاما واقتحاما في تفجير المعنى خاصة عندما يقترب من حقيقة المرأة عبر لغة تشبه حنان المرأة وقسوة جمالها:
((كنت امرأة بملابس خفيفة
أمشي بمحاذاتك
في الطرق الأكثر وعورة للصمت
رجل وامرأة نحتا ظليهما في حائط)).
(ص49)
سيف الرحبي في ((رجل من الربع الخالي)) يتقدم واثق الكلام والشعر، حاملا صفاء احساسه ولغته، متخطيا عثرات الزوائد. واستطاع بقصائده ان يبني صلة الوصل والمعرفة بين صحرائه، وهذيانه وقلقه وبين قارئه، قارئ الشعر.
النهار – بيروت