حسان عزّت
تسطع داليا
في يدها فاكهة الفجر
نتوحد مع الزبد
مثل طيور مصابة بدوار البحر
مصقولة أيامنا بصفاء الدموع
مغسولة قاماتنا بمياه الحزن
الزرقاء
نسيتنا سفن القرصنة
فاستضافتنا النوارس
وصعقتنا بشروق الأبدية.
في اليد قبضة رمل عاشقة
في العين ما يتراءى انه الحب
بالحمى الأعضاء المجنونة
فيها تصهل خيول السماء بكل
ما هو مقدّس غريب
يالعذاباتنا حين انحسرت
غلالة الحلم عن أرواحنا..!
–         كونشرتو آخر من أجل داليا-
حيث يطغى الانسحاق الكامل، غالبا ما يتحول دماغ الشاعر المرهف الشاعر الطفل الى ميدانا لمعارك من نوع آخر، الى شوارع نحّاسين لا تغلق ساعة الظهيرة ولا حتى في الساعات المتأخرة من الليل. وهنا يبحث عن يد، عن فانوس في ظلمة موارة بالاشباح حاملي السيوف المدوية. وفي حياة محمومة كهذه ما الذي يرطب القلب أو يمسح على العينين ببرد الحنان؟ وكنوع من الرد يشهر الشاعرعداءه وطغيان مواجهته بما يملك من الكوابيس والاوجاع والعلل المستعصية، لشرق بكامله، لبلد أو بلاد، وفي لحظة يبحث عن سلاح حضاري فلا يجد غير الشعر، الفن الأمميّ الأول بتميز، فيلوّنه بصرخات أعماقه البريئة والجريحة في آن معاً. فيفاجئ بشعره مثلما يفاجئ بمخزون روحه من الحدائق والخراب.
سيف الرحبي في ((نورسة الجنون))، يخرج عن الكساد الشعري، ويأتي مع القلائل الذين يعاندون المجرى، يعاندون السيادة، ويمضون باتجاه سلام النبع سلام الرحم الأول، مستنفرين أرواحهم من أجله، ثائرين على ما استتب وهدأ ليس في منطقة الخليج التي لم يبلغ الشعر فيها بعض آفاقه، انما في منطقتنا ايضا حيث وصل الشعر الى ما يشبه النقطة المسدودة بعدما استراح السابقون الى ما وصلوا اليه، وبدأوا دورانهم من اجل تكريس أشكاله واشكالاته.
و((نورسة الجنون)) مجموعة شعر قصيدة واحدة تحمل عناوين جانبية تهدف الانتقال بين الصّوت والمونولوج والذاكرة والسيناريو. وغالبا ما يحمل العنوان كلمة كونشيرتو ((كونشيرتو الدخول الى حدائق الكآبة- كونشيرتو الوليمة- كونشيرتو من أجل داليا- فاصلة أخرى- كونشيرتو الوردة العاهرة)) حتى ولو حملت المجموعة عناوين مستقلة لقصائد ((شجرة الانتحار المزهرة- أحلام القطارات- نورسة الجنون- جوقة المجازر الشتوية- شرفة دمشقية- قلم رصاص ومشنقة- قيلولة الحقيقة- مساء الكوابيس- رامبو والسياب- غزلان الضوء- الى امي- حلم- سلفادور دالي)) فالعناوين لا تعني توقف القصيدة وابتداء قصيدة أخرى، انما فسحة للوقوف والمعاودة، لأن جو المجموعة ولغتها ومعمارها واحد من أولها حتى النهاية.
نورسة الجنون
لعل قصيدة الى أمي تصبحّ مدخلا للحديث عن ملامح بنيان الشعر في مجموعة الشاعر، فالأم لا تعني الخلاص بقدر ما تعني النزوع الى فسحة ظل في الطريق، يسرع اليه الشاعر عند اشتداد الهاجرة.
أيها الوجه السماوي المضمخ
بحنان الآلهة
يا حقل الصلوات
ودموع القديسين
يا وجه أمي.
ولانه يقبع في غرفته الرطبة وسط تلال الكتب والرسوم المرعبة يعاني العذاب والملاحقة واكشاك الشعارات والمذيعين الطلقاء مثل وحوش الغابة فهو:
وحيد.. وحيد لا يملك
حتى صديقا يقتله
فوداعا يا أمي
ويا أيتها الذنوب المقدسة
احتضني أشجار قلبي
وخذيني الى رحمك الملعون
إن شعر الشاعر لا يقع في السواد رغم سوداوية الرؤيا التي يحملها الشاعر، ولا يأتي في التشوه الشعري- انه الشاعر الذي يرى التشوه يلتقط البشاعة ويرميها  في فضاء الشعر، يلملم الأشياء المحتقنة في خلية ويطلقها، انه مزيج من بعثرة والتمام. والشعر هنا ليس تسجيل مرئيات او وثيقة مشاهدات، انما مكابدة لحياة واستخلاص لأرواح الأشياء في مداراتها القصوى. والتقاط لاشارات الحضور الانساني واشراقاته. لذلك لا يفقد جوانيته خلال القراءات المتعددة والازمنة المتفاوتة. لا يفقد معناه الانساني الأبيد. وهنا أيضا يتحول الشعر الى حيوات أخرى يدخلها القارئ  ويعيشها دهشة وجدة وسكرا، أو رحيلا الى ما لا يطال. فماذا صنع الشاعر؟ لقد قبض على الكينونة والجوهر، ولان المعنى الذي يتداوله الناس مرتهن بالعبور والسطح، والعمق مسألة تداول بعيد وتأمل دائم، فان الشعر هنا على بساطته وشفافيته يعطي شيئا ويتفلت، يترك صداه ويمضي، انه يحدس ويرهص، ايحاء وتمرئيا. لذلك يرف ويبتعد. ان اقتناص المعنى وتحققه باللغة ثانية يعني موت الشعر وتشيؤه. ولان القصيدة هنا فضيحة فانها لا تجسد الدفين والغامض في محسوسات ويقينات انما ترهص وتسحب الظلال. انها مرآة تحمل الكثير من الدعوة من الرائحة من الملامح من الخطف. كهرباء الروح هي وطريق الرؤية والتجربة. والقصيدة عري وحرية في فضاء رحب محفوف بالمصادرة والخوف لذلك نقدم الصمت الذي يحمل الغليان.
في ((نورسة الجنون)) طفولة ترى الأشياء، طفولة تختلط بالحلم والحلم هروب من التحقق باستمرار، لان في الامتثال فقدان الحلم. ورغم هذه الطفولة فاننا على مدى المجموعة لا نعثر على شيء نقي. كل شيء ملوث ومذخور بالقتل والعُهر والرّوث وبرغم الألوان الكثيرة فان هناك الدم والمقابر والمجازر والأشلاء. ولان الطفولة صنو الحلم فانها تقع في الدهشة، تحمل الفجيعة وتصر على انتظار فسحة الروح. كل موصوف يحمل صفة صافعة حادة جارحة كحد الشفرة، والقراءة مثل الاغتسال بالنبيذ بالسحر والانسياب لكن سرعان ما نكتشف ونحن نقرأ أن النبيذ هو من دمنا الذي يسيل ومع ذلك ندمن القراءة وتشدنا موسيقى الطفولة ونبع الروح غير مأخوذين بقيم مسبقة، انما منحازون للشعر والجمال. وسيف الرحبي يرى الاضداد في تزاوج مرعب- نيرون قادم بعصافير اقفاص ذهبية- والرغبات المعشبة بدماء القتلى- الورد يرفرف بحوافره الضخمة فوق الجثث الزرقاء- نواعم الطير تسترضي على ازهار القتلى- الصباح منفي والوردة عاهرة- باستمرار هناك موصوف ونقيضه ونادراً ما يكون الوصف بريئا او نقيا.
وسيف الرحبي الذي يدرك جدل الأشياء لا يدعو الى غد آخر ولا يطوب جنة وحدائق غائمة، انما يعلن التعب والحاجة الى سلام الأشياء، لأن البراءة لم تمت وان غطتها ركامات الأوبئة والتلوث- وحتى ولو اتخذت دعوته غطاء ساديا تدميريا فهذا ليس الحقيقة التي يصر الشاعر على تغليفها وهجرها- وحتى لو أعلن موت الشعر فهو يلعب ويدمر ولو صح اعلانه فان مقبرة الصمت تنتظر بتابوتها.
حان لهذا الفضاء أن يجمع صفيح أشلائه..
من منعطفات أجسادنا
حان له أن يجمع طيوره البيضاء هذه..
ويسكنها قفصا آخر.
والطفولة وأحزانها تشي بالحقيقة- تلخيص أحزان البشرية- يشي بالحقيقة مثلما وشت ((أناشيد مالدورور)) بحقيقة لوتريامون. ان الشاعر يبكي على الرحم الهارب باستمرار، الرحم الأم الرحم الوطن- الرحم الأصدقاء- الرحم داليا الحبيبة. وهو اذ يبكي ويحن يمارس جنونه بالشعر- انه يلتقي مع السريالية، مع شعرائها- مع فاشيه وبريتون ومع لوتريامون- ويتكئ على تجربتها وقاموسها بحيث يصبح الجنون والحلم سمة نورسة الجنون.
وشاعرنا يكتب بانسيابية عجيبة دون متكآت ولا مصاعب، نرى عنده كل ما هو بريء يدين به ويدينه ويرتد عن كل الحزن والعذابات الى رحم الأم الذي لم يقع في التلوّث. لينقذه من مستنقع الكلمات البارد، وينتزعه من براثن السرطان الشبيه بالتنين الذي يشد على عنقه. وهو اذ يذكر البراءة فليرمي الغلالات السود عليها. انه لغته في اكتمال لا ينتهي. وعنده نستحضر مؤيد الراوي في احتمالات الوضوح بخاصة في مطلع المجموعة في قصيدة شجرة الانتحار المزهرة، التي كتبها عن خليل حاوي وسيناريو ساعة الانتحار.
انا ذلك الطفل
انا ذلك الفضاء المنتصب
ملخص احزان البشرية في عصورها المثخنة..
هكذا الشاعر يعلن نفسه الشعر الذي يلخص الحزن ويرصد نرجس الغابات المغمور بخواتم اللذة وقمح الرغبات المعشبة. انه الطفل الغائم مثل منشفة من نور. وهكذا يكون الشعر.
تشرين 7/7/1982م