قراءة: رولا تجاني
الكتاب: الجندي الذي رأى الطائر في نومه
المؤلف: سيف الرحبي
الناشر: منشورات الجمل
الطبعة: الأولى- كولونيا- 2000
عبر مقطعين شعريين احدهما من اونفاريني وثانيهما من ريوكان يفتتح الشاعر العماني سيف الرحبي مجموعته الشعرية الصادرة مؤخرا عن منشورات الجمل في المانيا تحت عنوان ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) مستهلا بقول اونفاريني:
((منحدرا من امراء رحل/ انتحر/ ذلك لان ليس له/ وطن/ ولم يكن يعرف المعيش تحت/ خيمة اهله)). وقول ريوكان وهو من شعراء الحزن ((كم هو مؤسف/ اطلاق حصان/ وحيدا في الفراغ)) ولعل في الاستهلالين اللذين افتتح بهما الشاعر مجموعته ما يقودنا الى شاعر المجموعة نفسه ذلك الذي يجمع بقصائده وحيدا ومسافرا من مكان الى آخر ومن أرض الى اخرى حيث ((لم يكن يعرف العيش تحت خيمة اهله)).
وسيف الرحبي الذي اصدر ما يقارب من عشر مجموعات شعرية وكتب اخرى في النثر والمقال يعتبر في طليعة الاصوات الشعرية العربية المتميزة ويشكل مع مجموعة من اقرانه روح الذائقة الشعرية العربية الحديثة.
في هذه المجموعة ينتقي الرحبي ان يذهب نحو اصداء الروح الاعمق فنراه يتلمس الداخلي الشعوري لا الخارجي الحسي بحثا عن حياة اخرى تصنعها المخيلة بواسطة الكلمات.
في ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) يخاطب الرحبي داخله ويحيا في معزل عن ضجيج الخارج، كأنما يبحث عن نور يضيء به ما تراكم من غبار دونما مواربة.
((يا لأيامي ووحدتي
اقولها صراحة
من غير مواربة ولا كناية
لان هذه الاسوار
والكوابيس
العاتية ستنجز، لا شك سهامها
الضاربة في أعماقي
ولأن كلب الطفولة كف
عن النباح
خلف تلك السهوب
اللامعة من الحلفاء،
(من قصيدة ((المحطات موقد الغياب)) ص19)
ويبدو الغياب وما ينتجه من حالات وتعبيرات حالة مهيمنة على قصائد المجموعة، و((أرواح الغائبين التي تخفق دائما/ أجنحتها تجرف المسافة/ ما بين البذور والقرية)) كذلك يحضر فعل الغياب حينما يحادث الرحبي اليمامة قائلا: ((ترفقي بصوتك/ الذي لا أكاد ألمحه/ الا كشبح جريح)) او في قوله: ((ينزلق العدم من صوتك/ كأقوام غابرة/ أبواقهم تهم بالرحيل)).
تنضوي قصائد المجموعة تحت ثلاثة أقسام هي على التوالي: ((البحيرة المسحورة التي غرقت فيها اخيرا، وبعصا الاعمى في ظلام الظهيرة، واخيرا قصيدة طويلة تحتل القسم الاخير بكامله تحت عنوان المجموعة ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) في حين تبقى ثلاث قصائد خارج نظام الاقسام حاملة عناوينها منفردة وهي مفتتح المجموعة: ((ضربة شمس))، ((اشجار ترحل)) و((ذكرى)).
وقارئ هذا الديوان لابد ان يلحظ لغة خصبة ورقيقة في ان تصوغ القصيدة وتغطها، وقد شذب الرحبي زوائد الكلام ليكتفي بالاقل كيما يمنح القارئ فرصة التحليق مع القصيدة.
وربما نستطيع ان نستشف من القصيدة الوحيدة الطويلة بين دفتي المجموعة (ثلث المجموعة تقريبا)، الجندي الذي رأى الطائر في نومه، تلك اللغة التي تطلق فعل الخيال كما تحرك تداعيات الاعماق، وهذه القصيدة التي كتبت وفق اسطر قصيرة تتقاطع معها أسطر طويلة عبارة عن استرسالات سقفها الشعر ترسم صورة لرجل يحاول أن يسترد حلما قديما ينتشله من عويل الحروب ونكراتها:
((حين رأى الدم لأول مرة
وبعيون المخيلة التي لا تخطئ
حسبه مياها حمراء
من فرط ما كان يتدفق من النوافذ
والعروق
حنفية السماء المفتوحة على
مصراعيها
قال: هذه ينابيع الاسلاف آتية
من مساربهم الخفية
وعودهم وأحلامهم
وهذه شهاتهم الاخيرة،
فالشاعر يحاول في هذه القصيدة ان يخرج من حلم/ كابوس حيث صخور البارحة ((ووجوه تتقاطر في نومي، برؤوس مقطوعة/ وقامات مديدة، تشبه النخل الذي خلفه ابي/ متمايلا بحنينه اليه، تشبه المغيب الناضج كثمرة، ويقول: ((عليّ ان أبعثر الجهات جميعها/ كي أستطيع ان اتبينكم/ قطرة في ظلام الصحراء/ وهذه الحشود التي تحصد رأسي/ بمناجلها المثلمة)).
وعبر مقاطع القصيدة يلجأ الرحبي الى الحديث بصوت ضمير الغائب او بصوت الجماعة وحين آخر بصوته هو: عليّ ان أبعثر أشلاء اللحظة))، مضى بصحبة الطائر/ في ليل وحدته)). ((كنا نبحث عن مستقر/ وسط الضجيج والازمات))، وهو في هذا الانتقال من ضمير الى آخر يستحضر الماضي منتقلا الى الحاضر وموغلا في الذاكرة التي تحتشد بتداعيات صور الموت ومشاهده.
((كان مشهد قابيل وهابيل يراوده عن نفسه يضغط عليه، يخنقه بحبل خفي، كلما خطا خطوة نحو شجار او شاهد آخرين في حومته، هو الذي درس القرآن باكرا في اسحار القرية  وضحاها، حيث تدور معارك الصبية من حوائر مختلفة. ذات مرة كان راجعا من الكتاب، شاهد اخوته في معركة مع اخواله، بالعصي والخناجر ومن ثم البنادق أردت بعضهم صرعى.. كانت الهاجرة في اوجها غمغمة حشرات الصيف تضفي على الجو ازيزا يجعل الحياة تتحرك في مجمرة بركان خامد تحيطه الجبال والاصداء المتواترة لطيور القطا والواويات والذئاب.. يستحضر مشهد قابيل وهابيل، ربما صرع اخاه في طقس يشبه هذا، ربما الصخرة الحادة، أداة الجريمة نفسها الجبال المتاخمة بعد ان كبرت مع الاحقاب وتغذت من غزارة الضحية وبذخ الادوات.
في هذه القصيدة يرسم سيف الرحبي مشهدا قاسيا للدم والحروب، مشهد بوسع المخيلة القارئة/ المتقلبة ان تعيد انتاجه بالصورة المتحركة، حيث يكتب الشاعر قصيدته بوعي جارف يرى المشهد قبل ان يكتبه او في لحظة كتابته له فيصبح قلمه مجرد ناقل يسجل الحادثة التي أطلقتها المخيلة.
قصائد ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) تحوم في عالم الغياب والذاكرة لكنها لا تستسلم لحالة الغياب اذ ان ((صراخي ما زال مزهرا
تحت سقف الصباحات
لم تستطع مدينتكم ان تخنقه
صراخي الذي ينبت العشب على
صقيعه
الناهب الأعمى لميراث السكون،
وفي وسط هذا الغياب تحضر المرأة عبر قصائد الديوان كسؤال يبحث عن وجوده. او كغياب يزهر فيصنع في غيابه وحضوره على مخيلة الشاعر لحالة القصيدة.
((من يوقف هذا الهيجان في الاعماق
آه، لو صوتك، صوتك فقط
خفقة نسيم تصلني عبر المسافة
نسيم البحيرة المسحورة
التي غرقت فيها اخيرا
خفقة الجناح المتعب،
لهدأت عواصفي قرب الضفاف))
ديوان ((الجندي الذي رأى الطائر في نومه)) يضيف لرصيد سيف الرحبي مجموعة شعرية تحمل سمات صوت الرحبي الخاص وترسم جماليات جديدة في قصيدة النثر.
تقع المجموعة في 92 صفحة من القطع الوسط وتزين الغلاف لوحة من أعمال الفنانة منى السعودي.
لندن
الزمان – لندن