فاروق شوشة
الميراث الأدبي والشعري واللغوي في عُمان ميراث قديم وعريق ترجع جذوره الأولى إلى القرنين الأول والثاني الهجريين حين إلتمعت أسماء كثيرة من أعلام الشعر والأدب واللغة من بينهم كعب بن معدان الأشقري ومحمد بن الحسن بن هارون الذي عرف باسم الوزير المهلبي، وثابت قطنة، والخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن أعلام القرن الثالث: ابن دريد ونفطويه. ولأن ذلك العصر كان بالنسبة إليهم موسم الهجرة إلى الشمال حيث الشهرة والتألق وذيوع الصيت فقد ارتبط بعضهم بالمراكز الثقافية والعلمية الكبرى في ذلك الوقت وفي مقدمتها البصرة وغيرها من حواضر العراق والشام وخراسان ونسبوا إليها كما نسب الخليل بن الحمد إلى البصرة بعد أن استقر فيها، ونسى الناس انه في الأصل عُماني.
لكن هذه الهجرة الى الشمال- طلبا للشهرة وذيوع الصيت، وتغلبا على العزلة الجغرافية التي فرضتها مشقة السفر وبعد المكان ووجود الربع الخالي حائلا بين عُمان وغيرها من البلدان المتاخمة. هذه الهجرة اتسع مداها في عصور تالية، لتصبح هجرة في كل الاتجاهات وسعيا حثيثا وراء المجهول المتمثل فيما وراء الحدود، والصحارى والبحار، خاصة أن هؤلاء العمانيين القدامى هم أحفاد السندباد صاحب الرحلات الأسطورية برا وبحرا. ومن بينهم خرج ابن ماجد رائد البحار والمحيطات ودليل الرحلات البحرية القديمة. وكانت أكبر هذه الهجرات العمانية الى أفريقيا، حاملة معها الاسلام واللغة العربية والشعر العربي، رافعة لواء التحضر والتنوير في ربوع القارة المظلمة، منطلقين من الشاطئ الشرقي للقارة، متوغلين الى وسطها وغربها مكونين مهجرا افريقيا استقروا فيه قرونا عديدة. وكان من نتائج هذه الهجرات المتتابعة (أكبرها في القرنين الأول الهجري والسابع الهجري) ظهور اللغة السواحيلية الشديدة التأثر باللغة العربية، والتي ستصبح من أهم اللغات السائدة في أفريقيا.
وعندما نصل الى العصر الحديث، نجد سيطرة واضحة للشعر الكلاسيكي على الحياة الأدبية في عُمان، من خلال أشهر شاعر في تاريخ عُمان الحديث هو أبومسلم البهلاني. وسنجد من بعده أسماء تفاوتت أوزانها وأقدارها في ساحة هذا الشعر من بينها عبدالله الخليلي وعبدالرحمن الريامي والقاضي أبوسرور ومحمود الخصيبي وعبدالله الطائي. وسرعان ما تتشقق القشرة الشعرية بفعل التطور والتأثر بالتيارات الشعرية الحديثة والمعاصرة وبدايات الانفتاح على الواقع الأدبي العربي لتبدأ تجليات القصيدة الرومانسية وقصيدة التفعيلة او الشعر الحر وصولا الى قصيدة النثر. وتزدحم الساحة الشعرية المعاصرة بأسماء كثيرة من بينها سعيد الصقلاوي وهلال السيابي وسليمان الخروصي وسالم الكلباني وذياب بن صخر العامري وهلال العامري وسيف الرمضاني وسعيدة بنت خاطر ومحمد الحارثي وهلال الهجري وسيف الرحبي.
ومن هنا فإن الشاعر العماني المعاصر يحمل في وجدانه ميراثا هائلا متعدد الطبقات، يبدأ من السطور الأولى في سفر الابداع الشعري العربي، والتأليف المعجمي العربي، وكتابة المقامات، والأمالي، والمدائح النبوية، ويتسع لديوان الشعر العربي المتراكم الصفحات والأبواب سعيا إلى  المعاصرة والحداثة وبحثا دائبا عن لغة العصر في الشعر.
لكن الأشكال والصيغ والرؤى الشعرية المختلفة في عُمان تتجاور وتتفاعل في اطار حميم من الوعي التاريخي والبعد عما انحرف إليه شعراء مجتمعات عربية أخرى من التنابذ ونفي بعضهم للبعض، والتوزع شيعا وفرقا. فالوداعة التي يتميز بها العُماني، والسلاسة الواثقة التي يدير بها حركته في الحياة، وامتلاؤه. نتيجة لحبه القديم للسفر والتنقل والتغيير، بهاجس الدهشة، يجعله في تقبل دائم للجديد الذي يولد، وحرص دائم على الموروث الذي يعرفه ويقتنيه ويعتز به، صادرا عن منهج متوازن ورؤية ناضجة واعية.
وفي هذا الاطار الحميم من الوعي والتفهم والتوقع الدائم ولدت شاعرية سيف الرحبي، منذ بزوغها عبر ديوانه الأول ((نورسة الجنون)) الذي صدر عام 1980م وتتابعت من بعده دواوينه: الجبل الأخضر 1981، أجراس القطيعة 1984، رأس المسافر 1986، مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور 1988، منازل الخطوة الاولى 1993، رجل من الربع الخالي 1994، جبال 1996 وأخيرا معجم الجحيم الذي صدر في القاهرة عام 1998. والطريف ان دواوين الشاعر صدرت في دمشق وباريس والمغرب والامارات وبيروت والقاهرة وعُمان، مؤكدة أن هذا الشاعر الشديد العصرية- حفيد السندباد- يحمل قلقه وتمرده وأشواقه، وعذاباته التي لا تنتهي، لأنها عذابات المعرفة والتواصل الحميم والحب والحرية والعدل المفتقد في كل مكان من العالم. فالأزمة الوجودية عند سيف الرحبي هي مفتاح عالمه الشعري ومحور هذا الشجن الطاغي المندلع كالحريق في قصائده بدءا من لوحات الطفولة الغارقة في محيط الذاكرة ولذع الصحراء المصاحب للنشأة والتكوينات الأولى، والاطلالة على البحر- رمز الدهشة والانعتاق والانقذاف في المجهول- تأملا في القلاع الشامخة، والحصون العتيدة، التي شهدت عبر عصور متطاولة إهدار آدمية الانسان ومصرع انسانيته وحريته وصوته، تنقلا بين عواصم العالم وثغوره ونتوءاته الحضارية. وحين يفكر الشاعر في انتقاء مختارات شعرية من دواوينه تمثل مسيرته بكل ارتعاشاتها وانكساراتها وصدامها الوجودي يسبق وعيه الداخلي إلى العنوان الملائم لهذه المختارات وهو ((معجم الجحيم)) جاعلا منه بوابة تفضي إلى عالمه الشعري المشتعل، الذي تسيطر عليه ((أحلام القطرات ومساءات الكوابيس ومغارات الهذيان وهجرة الأسلاف والقدم النرجسية ومرايا القفار وعالم الأودية والشعاب وأرخبيل الغرقى ومدن الملح وهذيان الجبال والسحرة)). وهي بعض عناوين قصائده، التي تكشف عن عروق المنجم الشعري الذي تندلع منه هذه الشاعرية المتميزة لغة ووعيا شعريا وموقفا وجوديا.
يقول سيف الرحبي في قصيدة عن القاهرة التي يعشقها ويرتبط بها ارتباطا عميقا، وله بيت فيها يقصده بين الحين والحين وأحيانا معظم الوقت من العام، أسماها ((نجمة البدو الرحل)):
نحن الذين وجدنا فيك
صغارا
وكبرنا بعيدا عن رعاية الأبدية
نحن الذين تسلقنا حواريك
باحثين بين مقابرك الألف
عن فجر هرب من بين أصابعنا
خلسة، واختفى
. . . .
الفضاء مسبحة الطرقات
والليل حاجب مياهك المضاءة
بالكلام
يموت الكون، برفيفه الغاضب
ويولد في ضحكة
تنتشرين بحزن
كما لو ان الحرفيين وبائعي الخضار
والفواكه، أسرجوا أيامهم بالدمع
يطوف الهواء على الشرفات
حيث كنا نقرأ الكتب ولا نذهب
إلى المدرسة
لأن الشتاء فاجأنا هذا العام
بضباب كثيف
. . . .
وما بين ((الدقي)) ومقهى ((ريش))
يرتجف قلب العاشق المأخوذ على مدار الصدمة
تجلسين على الرصيف
تكتبين أيامك الملأى بالتوقعات
أي ذكرى لمقاهيك وحلوانك
لمحطات قطاراتك الأليفة
بنحيبها الذي لا ينقطع
أي عاصفة ستخلع أبواب العالم هذه الليلة؟
يسحب المسافر ظله
مجرة تيه وألم
لكنك الصدر الأكثر رأفة من المعرفة
. . . .
إيزيس إيزيس
بلمسة غريبة تصنعين العصور
وبين قدميك يركع الملاك
أحلامك التي تسافر في خضم الأعاصير
وقد نامت وديعة بين يدك
خاتم زواج
يكتب سيف الرحبي قصيدة النثر، ساكبا فيها وهج شاعريته وحصيلة خبراته الوجودية واللغوية.
وشعره شفيع لقصيدة النثر، يسمو بها عن ركاكات المتشاعرين ونثريتهم، وعن عبث الصغار الذين لم يوهبوا بعض موهبته، ولم تسعفهم قدرتهم بقبس من توهجه الشعري، فأساءت كتاباتهم المرتبكة إلى المصطلح بدلا من أن تسهم في تأصيله وتعميقه والكشف عن تجلياته. وما ينجزه سيف الرحبي ومن قبله محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس. عندما كان يعترف بقصيدة النثر- وغيرهم من المبدعين الكبار، يجعلنا نقرأ ما يكتبونه بالاحترام الواجب والتلقي الحميم والبصر النافذ والمتأمل، حتى لو اختلف الكثيرون معهم في أمر جوهري هو الحرص على موسيقية الشعر وايقاعاته، التي بدونها لا تهتز النفس هذا الاهتزاز الذي يتحد فيه النغم باللمحة بالصورة بالوثبة في الخيال والفكر. لكن هذا الاختلاف لا يغلق باب المتابعة الواجبة لأمثال هؤلاء المبدعين الكبار، وهم وقد تجردوا من أسلحة الشعر المألوفة من أوزان وايقاعات يخرجون إلى الساحة عراة إلا من نبض شاعريتهم وتوترها المشتعل، فيبدعون على غير مثال!
يقول سيف الرحبي بعنوان ((الفنان)):
ابدا تولد أعمالك ناقصة
ولا تكتمل إلا في جنون موج تائه
أو في رأس
هشمته الحروب!
ويقول عن ((الشوق)):
بداية كل يوم
وأنا اقتلع خطواتي الأولى
نحو الغابة
ينبلج الشرق في دمي شمسا غريبة
فأرى خيولا تندفع
وتلامس أعرافها السماء
وعن ((الأصدقاء)) يقول:
يحجزون المقاعد في الصباح
كي نشرب القهوة وندخن
لا يكاد يسطع الكلام من أفواههم
إلا وتمتلئ الطاولات بالغياب!
ويصور سيف الرحبي المأساة الوجودية للشاعر الجاهلي عمرو ابن قميئة الذي اصطحبه امرؤ القيس في رحلته الى القيصر طلبا لمساعدته في الانتقام من قتلة أبيه الملك واسترداد عرشه، وهو ((الصاحب)) الذي اشار إليه امرؤ القيس عندما قال:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وايقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
تحاول ملكا، أو نموت فنعذرا
يقول سيف الرحبي:
ألهذا يا عمرو بن قميئة
سافرت في دجنة الصحراء
مع الملك الضليل
وحيدا من غير أدلة
ولا حاشية ولا خيل؟
ملك مهزوم
ويتيم ضائع
كانت الروم أبعد من سهيل
وكان الدرب دونك
فبكيت،
أنبك الملك الشاعر
لأنك لم تكن تطالب
باستعادة ملك مندثر
أو حالما بثروة
كنت صديق الشاعر في الملك
رفيق المتاهة
ولا يزال الشاعر العماني الرحبي- حفيد السندباد- مسافرا في الوجوه والأماكن والأزمنة، ولا يزال شعره نزف هذا السفر الدائم، والتوقف لحظات قليلة، بغية التقاط مساحة من نبض اللغة، أو قبسة من معجم الجحيم تتوهج بها مجموعاته الشعرية.
جريدة الأهرام