عبدالله طرشي – الجزائر
اذا كانت الغاية الصاعقة القصوى التي يتطلع اليها الصوفي كما يرى فاولي هي الانفتاح على المطلق.. فان الانفتاح على المجهول هو الهدف الصاعق الاقصى للشاعر. فالوضوح الذي ظل لأمد طويل يغتال الشعر العربي قبل عصر النهضة الحق خلال ((شعر)) و((مواقف)) كان شكلا من الائتلاف البدائي الفج، الشاعر يقدم فيه هويته قربانا لآلية الطمأنينة والسجون خليفة الانسان العام كما يعبر هيدجر على حساب فرادته نسيان كينونته، انخراطه من حيث هو فعالية تجسد السورة الحيوية- كشاعر- في صميمية الخرق والنقض!
لجأ الشاعر الى جميع اصناف التزوير ومثلنة واق شحيح رطب الانفاس، زنخ كالمؤامرة.
الشاعر – الكاتب يقف في صف المؤسسة يمدها بالنتاج الايديولوجي لصالح الثبات لا التحول- يرضى من توتر التاريخ لا بما هو وقائع جرت اوتجري، بل التاريخ بما هو حركة باطنية، كنزوع مستمر باتجاه التعبير، و((سرطنة العافية وخلخلة الانسجام)) كما يقول انسي الحاج.
سيف الرحبي في أجراس القطيعة، كما في نورسة الجنون والجبل الاخضر شاعر يتجاسر بلا مواربة على لغة الشعر – كتراث للحداثة، يمتص ما يعاصره ويواكبه ابداعيا يجذره بتجاوزه.
صورة داليه ((سلفادور دالي)) تنوس بين الجنون والهذيان الواعي، تقفز كالشهوة ما وراء جدر العالم المؤسطر ايديولوجيا نحو فعل الخلق المجدد.
الصورة في نص الرحبي لا تعنى بتغيير العلائق الخارجية او رجّها لادهاش القارئ، ترويعه لبرهة، او ترويضه على ألسنة الغرابة فحسب كما يفعل أمين صالح احيانا في أعماله القصصية، بل ينقلك بصورة السلفادور داليه قلت، الى فضاء دلالات غامضة حيث تحلق مخلوقات اخفائية، معصوبة العينين، بشبحية أسرة احتفالا بطقوس اللاوعي المرعبة.
((ذات ليلة دخلت غيمة مقطوعة الرأس ونامت على سريري وكملاك تناسل طقوسا حيوانية في حديقة الرأس.
ذات ليلة زارتني حقول ابي تحمل بين فخذيها نعش الانسان)).
واذا كان الشعر يفكر بالصور فان سيف الرحبي يقيم في نسغ القصيد الصاعد، لا يلجأ الى التقريرية،لا يتعاطى الوعظ الايديولوجي، لا يفسر فقط يجتهد في تذليل الطريق للصورة كيما تعبر، تتألق في بلاغة سرية. ((تخترق القصيدة، تنشر ارجاءها كالسرطان
كان طفل يحمل مسدسا في نومه ويقتل المارة بنشوة الهداهد))
الطفل = البراءة، دلالة مألوفة، لا يتوقع منه ان يحمل مسدسا في اليقظة، فكيف في نومه؟
ويقتل المارة!
ولأنه كذلك فلا احساس بالذنب، ان نشوته بريئة تماما، ذلك ان كل شيء مباح في عالم سريالي مفرغ من هواء المعنى.
ليس ذلك فقط، فهنالك شيء ما يتسرب من ندوب الذاكرة ويرشح، يستلقي كالطفل، في عضو الصورة ((اندريه بريتون)). انه الجنون يطلق النار على فصول المنطق النهاري المتقاسم، صفو الحضارة والكبت المبرر.
قبل هذه الواقعة ((حدق به نيتشه)) وبشار بن برد فانقذف كما يقول في بحيرة النار بشبق الاحتمالات الكبرى.
البحيرة = الماء/ النار.
مثرثرا بشبق، فورة الشهوة وغليان الدم يأتلف والاحتمالات الكبرى= تجريد خالص.
رفض عديمي مدمر، هو أعلى صفوف الرفض، واشدها حميمية وايغالا في هدم وتفتيت دخيلاء الوجود المؤتلف الزائف، يقدم يحفر في الأسس كما فعل نيتشه ((جينولوجيا)) يدك كالطوفان ملامح العالم القديمة.
((كان طفل يركب جناح نحلة
خارج عظام التاريخ
وبمجون يهلل لعذوبة الخراب
يحلم بعقد مهرجان لجنون
المحيطات
وبكاء النيازك
ومرة
قالت له أمه + الخطيئة..
وكان الالتباس يتوج نفسه ملكا على الاشياء:
لترحل على بركة الغموض فأنت آخر سلالة الرعد))
إنها ذات الشاعر الاخرى تطفو فوق جثة التراب – التاريخ الانساني والعربي، لكنه ليس آثما، طفل، ولانه يسافر وحيدا في مدائن الروح، فلن تعوزه وسيلة نقل اسطورية ((جناح  نحلة)) لتقله خارج عظام التاريخ.
مجون.. تهليل، عذوبة الخراب، مهرجان الجنون المحيطات بكاء النيازك.
الصور هنا تتدفق كالسيل جامحة غير عابئة باحتجاج القارئ الذي دجنه الائتلاف وعافية الانسجام، مما ينزع عن النص قميص الرتابة، ويرمي به في تشتيت الدلالة، وتمزق القارئ، ولانها كذلك تصدم وعي المتلقي غير المتمرس وتجعله يجهد في التقاط اسباب التواصل بينه وبين النص والشاعر.
فما بين الفخذين يزدهر التجدد والتناسل، لكنه وفقا لقوانين المخيلة ورغبة الكاتب الباطنية يستحيل الى حقل للتفسخ والترمد حاملا نعش الانسان كما مر بنا.
والأم + الخطيئة.
الام / العطاء، المحبة/ صنو الالوهة والقداسة، حواء التي تبعا للاسطورة تنبثق عن الذكر- الرجل الأول، دون أن يأتي هذا الاخير فعلا جنسيا. ((ولادة عذرية)) تعود فتضع مولودها الاب السماوي، دون ان تأتي هي الاخرى فعلا جنسيا. ((ولم يمسسها بشر ولم تكن بغيا)).
إنها دورة العذرية المضاعفة بين الجنسين، ان الاسطورة لتؤكد على الخطيئة الاصلية لالغائها تماما. ولكن ما هي الخطيئة؟ أليست اخلالا بنص مقدس اختراقا لما هو مألوف، افتئاتا على مملكة الحق الايديولوجية انها- ابداعيا- السير أبدا باتجاه مجاهل الفكر واللغة البكر والتحليق في فضاءاتها الطلقة.
قلت انه الشاعر نفسه يهلل بمجون لعذوبة خراب العالم وتدميره! هذا العالم المايا الذي بدده نيتشه بتساؤله المذهل، ولا تحاول الفلسفة المعاصرة الا اعادة قراءته خلال نظارات التفكيك والاستنطاق، وعبر الاركيولوجيا، انها فرحة النفي المبدعة.
فالأم + الخطيئة تستحثه على تخطي الالتباس بالرحيل على بركة الغموض. صوتها السريالي يلقي به في عراء عدم التردد فهو ((آخر سلالة الرعد الهاذي في اوقيانوس الطفولة)).
عبارته تقترن بالنبوءة، تراقص أطيافا اسطورية تتركز في صفاقة على اللبس الدلالي الذي يشكل احدى خصائص الحداثة الاساسية، بما تتيحه للشاعر من خروج على واحدية المعنى في العبارة وتأسيس لتعدد كجذر للفاعلية الشعرية وبكارة للرؤيا. وهما صفتان ترعيان في هدب الشعر التحول.
قبل ان يفعل ذلك لم يكن يعرف سر التحديق في الكلمات و((لا الطقوس الشهيدة على منعطفات الحلم الهارب في سكاكين الذبح)).
لكن ما ان تقمصته الصيحة حتى خرج عاريا من حقول ايامه، وتفرس طويلا في زهور)) بودلير، وغربة المعري.
((صارت نفسي الثكلى بنواح غريب توأما لوعول الدهشة الراكضة في انهيار برق المسافات هل انا الآن وحيد في جلبة المحيط؟)).
الشاعر يحكي قصته من الداخل، قصة انهيار القيم، هذه الواقعة التي تخترق التاريخ منذ غربة المعري والتساؤل الفاجع عن كينونة المعنى ومعنى الكينونة الى ((أزهار الشر)) حيث يستعيد الشر سلطاته المليكة عبر جيولوجيا نيتشه وأناشيد مالدورور. مستنطقا مناخات التراث الرافض الى حد ان صارت نفسه توأما لوعول الدهشة. انها وعول تنطلق راكضة في حقول اللاوعي والذاكرة المأخوذة بالمدهش والخارق.
لقد انسل من الشرق ((عمان)) باتجاه أقاليم مختلفة ومغايرة الى درجة ان حقل شاعريته اللامتناهي لم يعد يطيق تلك التحديدات الضيقة التي تلقي بالآخر في خارج مطلق كما يقول الخطيبي، بل انها لتتلألأ بعتمة غربة المعري بقدر ما تعتم بأزهار بودلير.
ورغم طزاجة المعاناة وتوترها وحدّة الصورة وقدرتها العجيبة على تمزيق الائتلافية الفنية، رصدا للعالم من باطن، فان الشاعر يظل يمسك في وعي وذكاء ماكرين بذهنانية تتسرب خلف الدلالة، في موكب الصور لتجمع اللاحق منها بالسابق. ومن هنا ابداعية سيف الرحبي.
ملحق عُمان الثقافي