القاهرة – فتحي عبدالله
تميزت تجربة الشاعر العماني ((سيف الرحبي)) عبر دواوينه المتتالية، بدءا من ((أجراس القطيعة)) وانتهاء بديوان ((رجل من الربع الخالي)) بعدة سمات أساسية من أهمها: البناء المحكم، القائم على التخلص من اللغة الزائدة، والجمع بين أشياء غير مترابطة. حيث يلعب المشهد بكل مفرداته المختلفة مركزا للنص، وينتقل الايقاع من اللغة الى حركة الأشياء.
وثاني سماته: هو المناخ السريالي للمشهد، والسريالية هنا ليست قائمة على الكتابة الآلية وحركة الباطن وجدليته أو عبثية الحياة وعدميتها. وانما من التزاوج الحي بين  ثقافات مختلفة وحضارات متمايزة فقد تجاوزت ثقافة البدوي والبحار ومزارع القرى النائية المعزولة، وان شكلت هذه التجارب ثقافة العربي عند الشاعر. فقد لعبت الثقافة الغربية بأنماطها المتعددة دورا داخل النص.
وثالث سماته: هو انضباط الازاحة الشعرية فمع موجة الحداثة الثانية بشقيها التفعيلي والنثري، ظهرت مبالغات شعرية اعتمدت أساسا على اللغة وطرائقها المتنوعة. وأكثرها خروجا عن الشعر تجربة ((خزائيل)) للشاعر خزعل الماجدي و((اشراقات)) للشاعر رفعت سلام. فقد ابطلوا الدلالة الشعرية للنص واللغة معا، بحثا عن تميز كتابي، فجاءت التجربتان خاليتين مما هو انساني وحياتي.
أما التطرف الآخر فقد جاء من الاستسهال والبساطة والرغبة في مطابقة الشعر مع الحياة. وهي رغبة مثالية عليها ان تظل رغبة، وانما تتحقق شعريا في حدود التجربة واطارها الجمالي وتجربة سيف الرحبي جاءت خالية من الافتعال أو المبالغة في دور مفردات القصيدة وبدون ضجيج مما اكسبها وجودا حقيقيا.
وفي ديوان ((رجل من الربع الخالي)) يلعب المكان بارثه الحضاري المتميز وظرفه التاريخي الراهن، دورا اساسيا في انتاج الدلالة، مما يشكل البنية الأولى لتكوين الصورة. خاصة وان هذا المكان كان نقطة ارتكاز لتغير المنظومة العالمية. وسواء كان لسكان هذا المكان دور في التغير أم لا، وسواء كانت النتيجة هي تهميشه اقتصاديا أو ادخاله ومشاركته في الصياغة الجديدة، فقد كان مركزا للنص، حيث بعث الشاعر أكثر المناطق جفافا وقسوة ليدلل على قوته وامتلاكه لعناصر البقاء فالمكان (الربع الخالي) بطبيعته الجغرافية مهلك ومن هنا فهو غير قابل للاضمحلال أو التشويه وان اتسعت دلالة ((الربع الخالي)) في الديوان لتشمل الأرض العربية كلها. راصدا في ذلك قدرة أهله على التكيف والحياة فيه. ولقد كشف من خلال قصائده عن أهم قوانينهم الحياتية والانسانية. ولان تجربة الشاعر الخاصة بهذا المكان كتبت أثناء محنته، فقد استطاع ان يكشف عن المشاعر والعواطف الجوهرية في هذا المكان. ومن ثم فقد امتلأ الديوان بأهم رموزه الحيوانية والنباتية في حميمية وتعاطف انسانيين. ان هذا الديوان يكشف عن احساس طاغ بالكارثة والفجيعة لدى الشاعر،  تجلت مظاهرها في الطبيعة وما أصابها من عطب وعطل.
والفاعلية الوحيدة في هذا المكان، كانت للحرب، بما لها من قدرة على التدمير والتشويه اذن لقد اصبح للشاعر قسوتان: قسوة المكان الطبيعية، وقسوة الفعل الانساني  متمثلة في الحرب.
في الجزء الأول من الديوان وهو بعنوان ((رجل من الربع الخالي)) تتبدى وعورة المكان بكافة تفاصيله المهلكة، ففي قصيدة ((عروق الشيبة))، يتحول البدوي الى ذئاب ولا يستطيع المغامرون الاقتراب منه، فالمكان وحش عنيد ومركز للعواصف والبروق ومقبرة لكل من يحاول المرور به يقول الشاعر: ((يمكنك أن تشاهد على مقربة من حطام الشهب)) وهياكل العربات والفرائس، التحولات الرهيبة للرمال وهي تبتلع قطعان الجمال، وتحولات الجن وهذيانات السحرة))ص9.
أما العزلة الانسانية وما بها من حفاظ على الذات، وبما تمتلك من خصائص وعادات وتقاليد، فانها تصلح لهذا المكان،او أن هذا المكان قد فرض شروطه الانسانية القاسية على ساكنيه ولم يبق لهم الا العزلة ففي قصيدة ((أودية وشعاب))، يقول الشاعر:
((بين ليلة وضحاها
اكتشفت انني ما زلت أمشي
الهث على رجلين غارقتين في النوم
لا بريق مدينة يلوح
ولا سراب استراحة)) ص10.
إن العزلة كحالة انسانية قاسية تستطيع تنقية العناصر ولا يبقى الا الجوهري الذي يثبت أمام عوامل الفناء والهلاك، وتتجلى هذه القسوة في معظم قصائد الديوان وخاصة في قصيدة ((الليلة الأخيرة)).
((في هذه الليلة
أصغي بين أضلعي، لزئير الأجداد
ذاهبين الى الحرب
مقتفين اثر الكلاب كمبضع ينتهك
صدر الصحراء
لخيولهم تحمل جثث الأعداء عبر
المفازة
للمعان الأجنة والبطون المبقورة. ص11.
وقد تمتد هذه القسوة لتلحق بالحيوانات والطيور مثل قصيدة ((صباح)).
((والطيور تأوي الى أمكنة غريبة
لقد ساقها الذعر الى الثكنات
فلا تسمع الا ارتطام أجنحة
بأخرى
كمهاجرين فروا من مذبحة)). ص12.
وقد أثرت هذه العزلة والقسوة على الزمن، ومن ثم فقد خلقت لها ليلا خاصا بها يتناسب مع كثافة هذه الحالة ففي قصيدة ((ليل)):
((ليل لا يمكنك ان تقطعه بمنشار
أو تعتقله في كأس
ليل ثعلبي المزاج
أحيانا يشبه مهرجا في ساحة عامة
وينزلق أملسا كفراء العروس)).ص21.
أما الأبواب فقد فقدت دورها الطبيعي، وهو الحراسة ومارست فعلا آخر يعكس الدور المطلوب، فقد اشارت للطيور الجارحة على سيدة المنزل حتى تفترسها وذلك في قصيدة ((طيور هيتشكوك)):
((الأبواب تصر على الحركة
كما لو أن الزوابع وجبتها اليومية
افسحت المجال للطيور التي
ستفترس
السيدة بقلب بارد)).ص44.
إن القسوة غير الطبيعية قد تؤثر أيضا في الأحاسيس الطبيعية للانسان ففي قصيدة ((غرف مهجورة)) يلازم الاحساس بالأبوة شعور دائما بالذنب:
((الحسرة التي نذرفها على أطفالنا
القادمين
تشبه الغرف التي أثثناها قبل
قليل ورحلنا)).ص45.
في هذا المكان تتحول المرأة الى أسطورة لانها تعاني من عزلة أخرى مضافة وقد ظهر هذا في قصيدة ((مطرقة تغور في منجم الذهب)):
((لم تكوني كاهنة العصور ولا
امرأة الغيب
حين التقى ظلانا فوق جذع الشجرة
في الغابة التي يتصادم فيها الغرباء
كنت امرأة بملابس خفيفة
أمشي بمحاذاتك
في الطرق الأكثر وعورة للصمت
رجل وامرأة نحتا ظليهما في حائط)).ص49
إن تجربة سيف الرحبي داخل قصيدة النثر العربية قد خلقت لنفسها حضورا خاصا بما تمتلك من تميز وفرادة ان حداثة نصه لا يمكن ردها الى النص الغربي وإنما الى ذاتها بوصفها واعية لإطارها التاريخي والمكاني.
الثورة / 9/3/1995